top of page

Search Results

22 items found for ""

  • أن تنظر للمألوف بعين الغرائبية

    هل شعرت يومًا أثناء قيامك بشيء تعدُّه طبيعيًا، بأنه لو نظر إليك كائن فضائي ما، فقد يرى أن ما تفعله أمرٍ عبثي وغريب؟ وربما قد يذهب لأبعد من ذلك ويجده حتى مدعاة للضحك؟! هذا النوع من التفكير يتجذر في أفكار الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كانت غرابة أفعال الإنسان موضوعًا يلازمه في أبحاثه ورواياته. بإمكاننا رؤية ذلك بوضوح في كتابه «الوجود والعدم» الذي يحتوي على فصل كامل تحت عنوان «العالم أغرب مما نعتقد». أيضًا، روايته الأولى «الغثيان»، التي نشرت في عام 1938، كانت مليئة باللحظات الغريبة، كتلك اللحظة التي كان البطل فيها واقفًا داخل ماسورة القطار، ثم وضع يده على المقعد الذي بجانبه، ولكنه فجأةً بادر بسحبها سريعًا، وتفحص المقعد كما لو أنه لم يسبق له أن رأى مثله من قبل. ليُصبح بعدها عالقا في هذا المنظور وهذه الفكرة وغير قادر على الخروج منها بسهولة، إذ أخذ يجبر نفسه على أن يتذكر أن ما بجانبه هو شيء يجلس البشر عليه! إن نر أنفسنا، ولو للحظات قصيرة، مجرّدين من بديهيات الواقع قد تكون لحظات في غاية السذاجة إلا أن تلك اللحظات هي أساس فلسفة سارتر الذي يسميها «سخافة العالم». فعلى نقيض «وهم سبق الرؤية» أي النظر لشيء جديد كما لو كان قد رأيناهُ من قبل. أتحدث هنا عن «المألوف المنسي» أي النظر إلى المألوف كما لو كان غريبًا! شخصيًا، لا أدري منذ متى فقدت القدرة على رؤية الأشياء إلا بمظهرها الطبيعي والغرائبيّ في آن واحد. هو منظور ازدواجي يبقى صامدًا حتى في أصعب المواقف وأحزنها؛ إذ أذكر أن ذهني قضى وقتا طويلا في تساؤلات حول أسباب وجذور مراسيم العزاء واختلافها بين البشر أثناء شعوري بالحزن والفقد في أحد مجالس العزاء. أرجح أن هذا المنظور الفضائي لأنفسنا هو في الحقيقة وسيلة لمراوغة الحياة، فالحياة نفسها ليست غريبة على الكثير من الغرائبية، فنحن غير قادرين على التنبؤ بالأحداث الغريبة أو المنعطفات غير المتوقعة في حياتنا أو حتى التعامل اليومي مع شخصيات غريبة والتي غالبًا ما نتجاهل التمعن في جمالها وذلك لانشغالنا بالانزعاج منها. في رأيي، التمعن في الأمور التي قد تبدو طبيعية وتفكيكها حتى تستشعر بغرابتها هو من أجمل الأحاسيس التي تدعو للتفكير الإبداعي بعيدًا عن المنظور التقليدي الذي يحكمه منطق افتراضي يأخذ حيز في حياتنا المليئة بالأفعال والأحداث التي غالبًا ما تحيد عن المنطق أصلًا. لحسن الحظ، التعبير عن العبث والغرابة يتخذ مكانًا خاصًا في عالم السينما؛ إذ تعمل السينما كعدسة فاحصة يمكننا عبرها استكشاف جوانب تحلّق بعيدًا عما هو معتاد وتُسائل المسلّمات في آن واحد. كما يُمكن أن يجسدّ العبث في الأفلام بعدة أشكال، بدءًا من الشخصيات في طبيعتها المتناقضة وصولًا للمناظر الطبيعية السريالية التي تتحدى قوانين الفيزياء، وهو خروج متعمد عن المألوف. هذا الاختيار الفني يسمح لصنّاع الأفلام بتقدير الجمال الكامن في الفوضى وتوليد أحاسيس متنوعة مثل؛ إيجاد الفكاهة في ما لا معنى له وأيضًا يعتبر وسيلة لاستكشاف التعقيدات والشكوك والمشاعر التي قد لا يفصح عنها الناس فيما بينهم، رغم أنها تلعب دورًا في حياتهم. ثمة الكثير من الأفلام التي تتأرجح ما بين الواقع وعدمه، على سبيل المثال فيلم «رقصة الواقع» للمخرج الفرنسي أليخاندرو يودوروفسكي، الذي يمزج ببراعة ما بين الواقع والخيال. أو الأخوين كوين بأفلامهما الساخرة ذات الأحداث الغريبة التي تشبه الواقع كما في فيلم «ليباوسكي الكبير»، أو «ثلاثية المعيشة» للمخرج السويدي روي أندرسون، الذي يتناول عبثية الوجود الإنساني والبحث عن المعنى داخل إطارات كئيبة وساخرة. ولعل أبرز المخرجين الذين جعلوا إعادة النظر لسلوكيات البشر موضوعًا مركزيًا في أعمالهم هو اليوناني يورجوس لانثيموس الذي عادةً ما يضع المشاهد في رحلة من التوتر السردي، مجردًا فيه سلوكيات البشر من معانيها التقليدية ليعيد اكتشافها في مواقف غريبة وحتى مزعجة في بعض الأحيان. يظهر ذلك جليًا من أول فيلم له «ناب الكلب» الذي يُعد من أغرب الأفلام؛ إذ يحاول والدان إعادة تشكيل واقع أبنائهما الثلاثة وسلوكياتهم وفقًا لمنظورهما الخاص، جاعلين أنفسهم المصدر الوحيد للمعرفة عن طريق عزل الأبناء عن العالم الخارجي وتعليمهم في المنزل معان مختلفة تمامًا عن الواقع. فعلى سبيل المثال، عندما يسأل الابن أمه عما هو الزومبي، تجيبه: "إنها زهرة صفراء". تعود هذهِ الفكرة بوضوح في آخر أفلام المخرج «كائنات مسكينة» الذي يروي حكاية امرأة متوفاة في لندن الفيكتورية يسترجع عالم جسدها وذلك عن طريق زرع دماغ جنينها في رأسها لتبدأ رحلة جديدة لاكتشاف سلوكيات البشر واكتشاف ذاتها مرة أخرى! أعتقد أن غرائبية المواقف هي إحدى أهم صفات الواقع وليس العكس، وأن الأفلام التي تُوظف عبثية وغرائبية الحياة تضع المشاهد في المنطقة الرمادية غير المريحة للجمهور العام، إذ إنها تدعو للتفكير في "تقييدات الحياة". وبما أن السينما مُتهمة بالترفيه البحت، لا تجد هذهِ الأفلام رواجًا حتى عند بعض المفكرين الذين اعتادوا على استهلاك المواضيع الجادة من الفنون الأخرى كالشعر والرواية، وهذا يفسر أن الأفلام ذات الحبكة المُحكمة والصدف المتناغمة والشخصيات الواضحة والمنطقية كُليًا توفر رغبة دفينة عند الناس وهي الهروب من الواقع ذو التعقيدات والملامح غير الواضحة. ولعل من المناسب ختام هذا المقال باقتباس من فيلم «ماجنوليا» للمخرج بول توماس أندرسون: "أعلم أن هذا قد يبدو سخيفًا، مثل مشهد في فيلم" " هذه الأشياء الغريبة تحدث دائمًا"

  • العباية: بين الدين واليَقظة الثقافية

    مُذكرة نقدية عن هذا الرداء الذي حمل على عاتقه أكثر مما كان يجب أن يحمل. العباءة والأعباء أتذكّر أوّل يوم أخبرتُ به عائلتي بأنّي سوف ارتدِ «العباية»، في الثامنة من عُمري، كُنت حينها مثل بُرعمة لم تّتخذ لونها بعد، واتخذت نهج أمي لونًا لي، تعلُو وجنتيّ حماسة التشبُّه بوالدتي، نلتُ احتفاءً من والدي الذي بدوره ابتاع لي عباءة كتِف سودَاء ذهبتُ بها في أول خروجٍ من المنزل، ثم إلى أول يوم في المدرسة، وأول يوم إلى اجتماع العائلة، كان حدثٌ برّاق لازمني لعدّة أعوام، وكُرّمت من أجله في المدرسة، هذا الصّرح الذي حوّل الاختيار إلى إطَار مُثقل بأعباءٍ لا حصر لها، تمامًا مثلما قصّت مديرة المتوسطة «النّقاب» إلى نصفين، ورمته في سلة القمامة أمام أنظَارنا الصامتة، مُشهرة في وجُوهنا أمر ارتداء «الشّيلة» غطاء للوجه كاملًا، مع تثبيتها بعباءة الرأس. في تلك اللحظة، خرجت «العباية» من نطاق الحدث البرّاق في حياتي إلى جُعبة المُسلّمات التي تُناقض باستمرار من مديرة المدرسة والمعلمات اللواتي يرتدين ما يحلو لهن عند الخروج وما تُلزمن به الطالبات. تقبّلنا الأمر كمسلّمة لا ضير بها. لاحقًا، أدركنا جيدًا مزلاج الحافلة المدرسية الذي أتاح لنا إظهار الاختيارات الفردية لتغطية الوجه بالنقاب أو البرقع والتي كنا نخبّئها منذ الصباح تحت مقاعد الحافلة، هذا الحيّز الصغير الذي استمر باحتواء اختياراتنا الفارقة بين نهجي العائلة والمدرسة حتى مرحلتنا الثانوية، حيث تُحلّق في عليّته غيومًا مثقلة بالآراء حول جدوى ارتداء العباءة، فما تلبثُ طويلًا تلك الغيوم وإلا وأن تتبدّد فور نزولنا من عتبة الحافلة، كوننا ندرك أبعاد اختلاف النهجين، فنهجُ العائلة حمل على عاتقه مدى تحفّظ الأسرة وكرامة القبيلة ومتطلّبات العفّة والوقار الذين لا بد من أن تتحلّى بهم الفتاة، بينما النهج الثاني حمل على عاتقه الالتزام بصورة المرأة المسلمة ونجاح مسؤولية مديرة المدرسة ووضع حدود حمراء واضحة بين الجنسين. ومع زيادة إدراك أهمية دور المرأة لتحقيق استقامة الأبناء، فقد كانت تُملى الأخلاق التي يجب أن تتحلى بها المرأة لتتحقّق تلك الاستقامة، فكلّما اشتدت حاجة المجتمع بأن تكون المرأة مُتمثّلة بالأخلاق المرجوّة، زاد التعدّد في وسائل الدعوة لفرض ارتداء العباءة في هيئة تقوّض رفاهية الإقناع أولًا، مما جعل الفرض يُثقل كفّة الميزان. تحاملت تحقيق الدعوة للإسلام ومدى انتشارها وتأثيرها على المُجتمعات الغربية والحاجة للتمثُّل بالأخلاق والأحكام التربوية ودور المرأة في تنشئة الأجيال وتكريم مكانتِها، جميعها على طريقة ارتداء المرأة للعباءة، ما لبثت إلا وتفشّت كل تلك الأعباء إلى أجزاء صغيرة حادّة عند دخول الفتاة إلى المرحلة الجَامعية، ذلك الحرم الواسع الذي أغرقنا في التساؤلات والنظر مطوّلا نحو المسلّمات. اليقظة الأخلاقية والثقافية في الجامِعة، بدَت تساؤلاتِنا وآراؤنا التي كانت حصرًا في الحافلة المدرسية صالحة للتفكير في هذه المساحة الشاسعة من الرّغبات والاختيارات التي كان لا بد من أن نضع قرارًا من أجلها، أصبحنا أكثر تقبّلا لتوسيع دائرة صداقاتنِا، واكتسب صوتُنا آراء صارخة، ومُدّ نظرنا إلى ترسبات حفَرت تحت المظهر الخَارجي للعباءة والتي أظهرت أنماط سلوكية متفاوتة الحدّة، حاملةً قضايا مُجتمعية من الانحلال الأخلاقي وتشابك عميق من الغضب والكبت والرّفض لهذا المظهر السطحي الذي نتج عنه مقياس مشوّه عن الدين والجَمال والعفّة، اختفت المنشورات التي كانت تحمل كاركتير الحلوى المكشوفة تدريجيّا، وأصبح مقبولًا إدخال الخرز اللّامعة والتصاميم الجماليّة لها. هطلت غيوم الحافلة أخيرًا وجرَت أوديتها جارفةً آراء مُتضادّة، وأساليب تتداخل بلا مبرر لها ولا شَفيع، في حلقاتٍ متباعدة، ورداء يُبلى قيمتُه بمرور الوقت، يخشى أن يلقى حتفَه، ويأمل أن يُعاد تعريفه. عندما نستعين الآن بأحد محركات البحث التي تمثّل أول مصدر للفضول النابع حديثًا حول العالم ففي «ويكيبيديا»، سنجد بأنه يعرفها تعريفًا فضفاضًا يُشبه ورقة مكوّمة في سلّة مهملات علق بها فُتاتٍ من عناوين الإعلام، مثل: «العباءة أو العباية هي رداء ترتديه المرأة المسلمة في بعض مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبالأخص في دول الجزيرة العربية  فوق الملابس العادية عند الخروج من المنزل. وهو تقليديًا ذو لون أسود. تعتبر العباءة الزي الرسمي في السعودية» يُحدّد هذا التعريف جغرافية واحدةً لها، ولونًا مكتسبًا من التقاليد، يُكمل ترحيلها عنوةً إلى الموضة، مما يجعل احتمالية شفائها تمامًا من التشوُّه أمر مؤجل إلى إشعارٍ غير معلوم. العباءة رمز ديني تجاهل كِلًا من الإلزام المدرسي والكاركتيرات والتحاملات الأخرى لانتشار الدعوة والحاجة للتمثُّل الأخلاقي أهمية غرس القيمَة الأصيلة لهذا الرداء فقد جعلها مُشكلة ليس من اليسير حسم القولِ فيها دون أن تكونَ حساسة تجاه العُرف والتقاليد والدين، كوني أراه الآن بعد تجريده في ذهني كرمز ديني، قيمتُه الأصيلة الحشمة، ذو فضاءٍ تتحلّى به المرأة لتكوّن مساحة خاصة بها في أي مكان تذهب إليه، رمزٌ يفرض مسؤولية أخلاقية لا تتراجع قيمتها بتسارع الزّمان ولا تنحسِر أهميّتها بإثرائيات الثقافَة المتطوّرة. فبعد أن انقضى نُعاس منعطفات الحافلة المدرسية، تنامى في ذهني هذا التساؤل، كتبته في دفتر مُلاحظات منسيّ، وُعدت إليه بعين تُبصر انتقاد القصّة الغربية الدخيلة وتحوِيرها من رَمز ديني إلى موجة من الموضة التي تُضفي معَنى لجغرافية الوَطن العربي وَحده في نظرة ضخّمت صورتها بصفتها تقاليد موروثة وحسب، بينما العباءة رمز ديني مذكورٌ أمرُه في القرآن الكريم بمرادف «الجِلبَاب»؛ وهو مِلحف يُلبس فوق الثياب ليشمل الجسد كُلّه. يُذكرني هذا الفضاء الخاص بالعباءة برداء الإحرام الذي فُرض ارتداءه للرجال في مناسك العُمرة والحجّ، إذ يبدو لي وكأنهما رمزان ذوا قدسيّة عظيمة، تُكرّم من يرتديها بإخلاص وتفان، بالتزام تام نحو النيّة التي تخدِم ارتداءهما، لا ينفك الرمز الديني «الإحرام» من منحي معنًى سامِي لارتداء العباءة، إلا أن نُسك «الإحرام» يتجاوز العباءة بأبعاد روحيّة مقدّسة تجعل الروح تجري حافيةً إلى بارئها باغيةً الطُّهر والقبول كونُه نيّة مقرونة بإتمام المناسك للجنسين، ولكن يمكنني القول بأن الهالة التي دارت بها رداء الإحرام في ذهني من تقارب دلالاته الروحيّة والمعنوية إلى ارتقاء قيمة العباءة، مما جعلها تتشكل في مرحلتها الثالثة من طريقة ارتدائي للعباءة وتجلّي معناها إليّ، في اتّساق جمالي يُبلوِر قيمتها لتكوّن إنعكاسًا لا مُتناهي لذاتها، لا ترتبط بالجغرافية العربية، ولا التقاليد الموروثة، في رؤية أصفى من تلك التي نُقلت في ذهني لأعوام، رؤية تصبُو بأن لا تناقض صورتها لدى الأجيال الناشئة، تلك الأعين التي تتّسع حدقتها فضولًا حول المبادئ، والغاية، والمُنتهى. لن يُروى ظمأ هذا الرّداء، ولن يستقيم ظهرُه ما دام يُوازي قيمته الأصيلة، ويُهمل نقد ظُهوره، في وعي ناعس، يُشبه نعاس الحافلة الذي كان يراودني، عن قيمة مهدرة ورداء معطُوب لم يتعافَ بعد حتى الآن.

  • وادي المومين

    "لا تقلق، سنحظى بأحلام رائعة، وعندما نستيقظ سيكون الربيع قد حل." - وادي المومين. أحببت المومين مُنذ صغري، فحينما رأيت نسخة الرسوم المُتحركة للكُتب «وادي الأمان»، شعرتُ حقًا أن ثمة معانِي كثيرة خلف تلك المخلوقات الغريبة، و حتى اليوم ما زلت أقتني أغراض المومين واقرأ كُتبهم وأتابع نسخة الرسوم المتحركة له. أعرف أن الرسوم قد تبدو غريبة بل حتى مُخيفة أحيانًا إلا أن خلف تلك الغرائبية فلسفات عميقة وهذهِ أربعة دروس فلسفية يستطيع المرء تعلمها من وادي المومين: أن تعيش بفلسفة الهدوء: في الفصل الأول، تسافر عائلة مومين عبر البحر هربًا من الفيضانات وفي النهاية يعثرون على جزيرة هادئة، يطلقون عليها اسم وادي المومين (وادي الأمان في نسخة الرسوم المتحركة)، حيث تمتد الطبيعة ويسود الهدوء وبضع الأحداث الغريبة. يبدو عالمهم وكأنه النيرفانا أو المدينة الفاضلة أو نسخة لما نتخيلهُ عن الجنة؛ فالأم على مقربة من أطفالها، ويتمكن الأب من كتابة سيرة حياته وتتبع هواياته في هذا الوادي الهادئ، بينما يكتشف أطفالهم أنفسهم ويساعدون الآخرين حولهم. كتبت توفه يانسون قصة وادي المومين وطبيعة الحياة فيها إبان خوضها الحرب العالمية الثانية، وكما لو أنها تتخيل طريقة العيش المُثلى؛ وهي تلك التي تعزلنا عن العالم المأساوي وتُقربنا من مُحيطنا. إن المعنى الأسمى في الحياة، وفقًا لشخصيات وادي المومين، يكمن باكتشاف النفس والانغماس في الطبيعة وفعلِ ما نحب، مهما بدا ما نُحبه مجنون وغير مُهم للآخرين. لكل شخصِ الحق في أن يكون غريبًا: تكاد تكون كُل شخصية في وادي المومين غريبة لحدِ الريبة إلا أن عائلة مومين تحتضن غرائبية الآخرين وتتقبلها. على سبيل المثال، شعر العديد من الأطفال بالخوف الشديد عند رؤية «الباردة» لأول مرة، والتي تظهر كشبح بعينين محدقتين باردتين وصفِ عريض من الأسنان، حيثما تقف «الباردة»، تتجمد الأرض تحتها ويموت النبات، وإذ إنها تبحث عن الصداقة والدفء إلا أن الجميع يتجنبها بسببِ شكلها المرعب مما يتركها معزولة في إحدى الكهوف بأعلى الجبال. تُجسد «الباردة» الوحدة والكآبة، فكلما تشعر بأنها تُريد الدفء والتواصل، يتسرب ثقل الوحدة إلى كيانها ويجذبها إلى الداخل. يجسد هذا التصوير الأثر العميق الذي يمكن أن تحدثه الوحدة على المرء. لذلك، فشخصية «الباردة» مُرعبة كونها لا تحتاج إلى أحد. برغم ذلك، تحترم عائلة مومين عُزلتها ولا يؤذوها بل أنهم حتى قد رحبوا بها بمنزلهم في إحدى المرات! لم يُحاول أحدهم تغييرها ولم يظنوا بأنهم قادرين على إصلاحها، لقد تقبلوها كما هي. تُعلمنا عائلة المومين إن الجميع يستحق أن يُعامل باحترام بغض النظر عن هوية الشخص أو شكله أو الخيارات التي أتخذها بحياته. لا تتشبث بشيء: لعل سنفكين، المتجول الفيلسوف الذي يُحب الاستمتاع بالأشياء البسطية في الحياة مثل صيد السمك والعزف على الهارمونيكا والمشي بالليل بمفرده، الشخصية الفيلسوفة الأبرز في الكُتب. لا يؤمن سنفكين  بالممتلكات المادية حتى أنهُ قد مزق لافتات مكتوب عليها ”ممنوع الدخول، ملكية خاصة“ ورغم أنهُ لا يحمل معهُ سوى خيمة صغيرة إلا أنه قد ألقى بها مرةِ في الوادي لأنه يعتقد أن الأمر لا يستحق التشبث بممتلكات عديمة الفائدة. يقول سنفكين إنه لا ينبغي لأحد أن يمتلك أكثر مما يستطيع حمله. يرحل سنفكين من وادي المومين في كُل شتاء ويعود في الربيع. تكمن الفلسفة وراء شخصيته الغامضة على أنها دعوة لعيش حياة يسيرة ومتأنية في انسجام مع الطبيعة، مع التركيز على التأمل الذاتي والاعتماد على الذات. عبّر عن أقبح مشاعرك لئلا تختفي: نيني هي طفلة أصبحت غير مرئية بسبب خوفها الشديد من مُربيتها التي أساءت مُعاملتها، تلبس نيني جرسًا فضيًا على رقبتها حتى يستطيع الآخرون الإحساس بها. يجلب صديق عائلة المومين، نيني إليهم لمُساعدتها وحتى تظهر مرة أخرى، يُرحب المومين بها ويعاملونها بحبُ دون أن يُشعُروها بالخوف. وفي ليلتها الأولى في منزل مومين، تظهر قدميّ نيني بالفعل! مع مرور الوقت، تصبح نيني مرئية أكثر فأكثر، حتى لا يبقى سوى وجهها مخفيًا. تكتشف عائلة المومين لاحقًا أن وجه نيني يظهر بوضوح حينما تغضب، في تمثيل رمزي للمشاعر الخفية وتأثير المكبوتةٍ منها علينا. إن فكرة الوجه الخفيّ الذي لا يظهر إلا في لحظات الغضب تسلط الضوء على مدى تعقيد المشاعر الإنسانية وأهمية احتضان وقبول جميع جوانب الذات، حتى تلك غير المرغوب فيها. حلقة نيني، الفتاة الخفيّة، هي الأقرب إلى قلبي. شاهدوها: وأنتم؟ أكنتم تشعرون بغرابة حينما شاهدتم الرسوم لأول مرة؟ وما الذي تعتقدونه الآن بعدما عرفتم أن المومين هم مخلوقات فلسفية؟

  • الحلم وواقع المرأة

    أتقنت الأحلام والطموحات في طفولتي. كانت هوايتان رائعتان! في كُل مرة اختار فيها حلم جديد، ثم أتعلمه، وبعدها أرى نسختي من النجاح فيه. لم يكن ثمة شيء مستحيل. كل ما احتجتهِ وقتئذ هو تعلم هوايةً ما حتى الإتقان؛ "ستتمكن يداي من فعلها بالتأكيد"، هذا ما رددت قوله دومًا "فما الذي يملكه غيري، هذا الشخص المحترف، ولا أملكه؟ لا يبدو لي أن لأحدهم أصابعِ أكثر مني، الجميع متساوِ!". كنت أهوى النجاح حدِ الإدمان. بدأت قصتي حينما كانت والدتي تُطريني بكل مرة ارسم فيها شيئًا رأيته في المنزل، رسمت علبة الزيت في المطبخ وجهاز التحكم بالتلفاز والدراجة الهوائية في فناء المنزل. غذّت دهشتها سعادتي ولعل جزءًا مني كان يشعر بالاستغراب أيضًا. ذلك لأن الموضوع قد بدا لي سهلا للغاية؛ كنت أراقب شكل علبة الزيت وانقل ما أراه على ورق. ما المدهش فيما افعله؟ أكان فعلًا أمر خارج عن الطبيعة؟ ولماذا لم تكن إخوتي قادرات على فعل ما أفعل؟ أيُعقل أن أكون عبقرية؟! هكذا كُنت أفكر، وفقًا للمعطيات حينذاك، حتى اختلطت بأطفال آخرين في المدرسة، حيث لم يكن النجاح هناك كافيًا. فوقتما تعلمت الجمع والطرح كان ثمة من تعلمت الضرب والقسمة قبلي! بدا لي الأمر مثيرًا للغضب إذ كان دومًا من هي أفضل مني، كنت متفوقة لكن لم أكن الأولى مما جعلني أتساءل: ما الذي عليّ فعله لأكون الأولى؟ هل علي أن أُشعر متفوقة العام الماضي بالرعب لكي تخاف مني وتُقلل من جهودها بالدراسة؟ لم ترضني الأرقام والمستويات حينها فقد كان يجب علي أن أكون مميزة! لحسن الحظ، فإن حبي للتعلم المجرد يفوق هوسي بالتميز، وجدت نفسي في عمر المراهقة حينما بدأت بتعلم مهارات لاصفية (غير متعلقة بالمدرسة) ومن مصادر لم تكن رسمية إطلاقًا. مثل تصميم المواقع الإلكترونية. كان الموضوع ممتعًا! لِمَ لم نتعلم هكذا أشياء في المدرسة؟ في الإنترنت، منعتني لغتي الإنجليزية الضعيفة من الحصول على معلومات أكثر. فرحت وتعلمتها، كنت أريد المزيد، ولم تكن المصادر العربية كافية. فتعلمت وتعلمت وتعلمت، حتى أن صديقاتي لم تعرفن بحقيقة ما أفعله في المنزل. فلما كانوا يتعلمن رقصة (سوبر جونير) الجديدة كنت منهمكة بصناعة موقعي الخاص المصمم بشخصية (آفريل  لافين) وابحث عن طريقة تجعل من حركة فأر التحكم في موقعي تشبه شكل الجيتار. في المجتمع، كنت أسمع كثيرًا مقولة ثقيلة تقول: "كوني حذرة عند تحديد المسار الذي ستتبعينه لأنه بمجرد أن تكبري وتتزوجي، سيكون من الصعب إعادة النظر وتصحيح هذا القرار مرة أخرى" في خضم الحديث عن أي شيء يتعلق بالمستقبل. كنت أكره هذه العبارة، فقد كانت تبدو لي وكأنها نهاية أحلامي وأن الكِبر والزواج لمحطات وصول ينبغي عليّ أن أهدئ عندها. كنت أغضب بحق لما أسمعها، ولعل ما كان يجعلني أغضب أكثر هو التيار النسوي السعودي الذي أحاط بالفضاء الفكري العام في منتصف العقد الثاني من الألفية، كان تيارًا قويًا جعلني اتخذ قرارات لم أكن مقتنعة بها فقط لأبرهن أني قادرة على النجاح! كنت عنيدة ولا أرضى بالهزيمة. فلماذا يجب علي أن أتوقف عن التعلم عندما أتزوج؟ ولماذا عليّ أن أركز في المنزل ولا شيء سواه؟ لماذا يجب علي الاهتمام بصحون ملونة ومزهريات مرقطة عندما لا يثيرني ذلك البتة؟ لماذا أصلًا يجب على أحلامي أن تتوقف وأن تستمر أحلام شريكي المستقبلي؟ كنت غاضبة جدًا ولدي الكثير لأعتب عليه. بدت الحياة حينها مثل تحدِ يجب عليّ الظفر به. لكن تغير الأمر في نهاية مسيرتي الجامعية؛ استوعبت حينها أمورًا أخرى بالحياة، حتى صارت طموحاتي تلك ترددُ صوتها في آخر رأسي: "يا لها من من أفكار سخيفة، ويا لها من معضلة مزيفة. كليشيه لحياة مراهقة لم تعِ شيئًا بعد. فسوق العمل لا يعرف الأرقام ولا الشهادات. إنه لا يعرف ما مررت به إلا لو كان مسجلًا بالتأمينات الاجتماعية. إنه سوق يريد من يضيف إليه. إنه لا يحب المترددين ولا البسطاء. إنه يوتوبيا المتملقين. إنها المهارات التي لا ندرسها!" لحسن حظي، وعيت بذلك في وقت مبكر. لكن كان يجب علي تحمل عواقب قراراتي؛ فالتحدي والعناد أخذا بي لاختيار التخصص الجامعي غير المناسب لي وأخرنيّ عن طموحاتي الفعلية بفارق سنتين من سائر جيلي. لم تكن الآراء التي سمعت صحيحة، وحتى الرجال الذين كنت أبغض لم يكونوا بالسوء الذي تصورت حينما بدأت بالحديث معهم (ذلك لأن المدارس والجامعات نسائية تمامًا، ولم أختلط حقًا بالرجال إلا بعد الوظيفة). باختصار، لم يكن أيَا مما قاله لي البعض حقيقة. والأهم، لم تكن ثمة مبارزة على النجاح، ولا ثمة اختبارات أو حتى مواعيد لتحقيق أي شيء. والأغرب والأفظع؛ لم تكن الأرقام تعني شيئا بعد الجامعة، وحتى المعدلات الدراسية العالية لم تكن ضمانًا لتميزي ونجاحي. ما هو النجاح أصلًا؟ فأنا لا أرى لائحة ترتيب المتفوقين في أي مكان! تشبعت أثناء طفولتي بأخبار مشاهير ديزني الموهوبون منذ الصغر والعباقرة الذين أنهوا الجامعة بسن صغير وبالناشئين الذين حققوا ثروات جمة. كان سماعي لأخبار كهذه باستمرار يجعلني أُسيء لنفسي واحملها ما لا طاقة لها به. رحلتي الجامعية شَكلت ما أكون أنا اليوم. لم أكن هناك العبقرية ولا حتى مميزة بأي شكل كان. كنت قد فقدت الأمل بموضوع كهذا. ما يهم آنذاك هو أن أكون سعيدة؛ كان يجب علي أن أعيّ بأن أن يكون المرء عاديًا لأمر غير مفزع. الوعي والرضى كان لا بد منه. والمنافسة المستمرة لمرض يتعب القلب. "كوني حذرة عند تحديد المسار الذي ستتبعينه لأنه بمجرد أن تكبري وتتزوجي، سيكون من الصعب إعادة النظر وتصحيح هذا القرار مرة أخرى" لم تبرح هذه العبارة عقلي الى يومنا هذا. وها أنا امرأة بالغة بعمر الثامنة والعشرون استطيع القول اني فهمتها. فهمت قصدهم؛ أن المستقبل الذي يقصدون هو العمل من التاسعة صباحًا وحتى السادسة مساءً، دون التطرق إلى طريق الذهاب من المنزل واليه بساعتين اضافة على ذلك، المستقبل الذي يقصدون هو ذاك الذي لا تقدر فيه ترك مصدر دخلك الوحيد لتحقق ما يجول في عقلك، انها القدور والصحون في المجلى التي تنتظرك كل يوم.، انها كومة الملابس التي يجب عليك أن تغسلها وإلا فلن تخرج غداً، انها طعامك الذي إذا لم تصنعه ستموت جائعاً، إنها المواعيد التي يجب عليك أخدها لئلا تتدهور حالتك الصحية، إنها الرياضة التي يجب أن تمارسها بين كل هذا! إنها الحياة، إنها كل ما يمر به الأعزب والمتزوج. إنها الدوامة التي لا تستطيع الفرار منها. ويا ويلتاه لو كنت طموحًا في خضمها! حينها، سيكون طريق الصباح وقتًا لتخيل أحلامك وممارسة أحلام اليقظة،  وسيكون الاستحمام وقتًا للرد على أسئلة المذيع المشهور الذي تتخيل أنه سيُقابلك، والموسيقا ستغدو انغامًا وخلفيات صوتية لمشاهد طموحاتك. ولسوف تتساءل كيف فعلها الآخرون؟ كيف وجدوا الوقت والمال؟ كيف وجدوا من يمسك بأيديهم ويدلهم على طريق النجاح إذ لا طريق واضح ولا شهادات ولا أرقام تشفع. لم تكن العبارة واضحة جدًا ولعلي لم أفهمها وقتها. فالزواج لم يكن بأمر مفزع؛ تعلمت- من خلال الزواج- أنه ينبغي عليّ البحث عن استقلاليتي وأن أشارك حياتي مع شخص أحب بنهاية المطاف، وهذا شيء محبب. كما لم تكن القرارات التي اتخذت قبل زواجي هي بمشكلة أبدًا. ليست القرارات الدراسية على الأقل. إذ ليس هناك علم ضار. ما أريده حقًا مقابل إمكانياتي هي ما كان ينبغي عليّ أن أفكر به وأضعهِ في الاعتبار. وإنه لشيء مفزع بأن يُترك الأمر لطفل بأن يتخذ هكذا قرارات. كان ينبغي القول بأن ما تريده المرأة يختلف عن الرجل. دون الانتقاص من الزواج وصَبغهِ بشعور النهايات. حبي للمجوهرات كان يجب أن أضعه بعين الاعتبار حتى اختار وظيفة عالية الدخل. كما أن حبي لصناعة أعمال فنية وقضاء وقت مع الأهل والأصحاب يستلزم مني أن أختار مجالا يعطيني وقتًا كافيًا لنفسي. وحبي للتحديات الجديدة من المفترض أن يدلني لاختيار وظيفة متجددة وغير رتيبة. كان يجب علي، باختصار، أن أحُب نفسي وأن أعرف ما يُناسبني، عوضًا عن محاولة سماع آراء الآخرين التي لم تكن بالضرورة مُفيدة. تزوجت طوعًا وسأختار الأمومة طوعًا وسأنتظر المناسبات السعيدة توقًا لكي ألبس وأتزين بما تشتهي نفسي. إنها متع لذيذة وشهية لامرأة مثلي. ولا أعتقد أني سوف أذهب بعيدًا في تحقيق حلمي لدرجة خسارة ما أسميه بحياة سعيدة. فهي تُغذي حلمي. وتُلهمني لصناعة عمل يليق بأن يمثل الحياة؛ لأني عشتها. ربما كانت الوسائل التي كنت أتنافس مع زملائي عليها وما كن المعلمات يدعوننا للاجتهاد فيها ليست سوى محطات مبالغ فيها وتخلو من الإنسانية. فلست أذكر اليوم نظرية فيثاغورس ولا كم تساوي الباي (أحم... أعتقد أنها 3.14) ولكني أذكر مغامراتي مع صديقاتي وما صنعنا من ذكريات! لست أقول بأن التعليم ليس مهما ولكني أندد واشدد على أهمية الجانب الإنساني من التجربة العلمية أيضا. فهي تصنع العلاقات التي قد تؤدي بنا للحصول على توصية وظيفية، أو تجعل منا متحدثين لبقين لنيل العقود الاستثمارية، وربما قد تعرفنا على مجالات تشكل هويتنا الجديدة. يبدو أني ما زلت مهووسة بالنجاح؛ ولكن بطريقةِ أخرى؛ أعرف أني سأنجح في الخروج من دوامة الحياة بينما أنُجز كومة الأعمال اليومية والمواعيد المتتالية وسأحقق، بإذن الله، ما أطمح إليه دون أن أمنع نفسي من عيّش الحياة التي أُحب. بطريقة ما.. سأتعلم ذلك.

  • الذات

    «أنا؟» - انسان. ما زال قول سقراط «اِعرِف نفسك!» يتردد صداه إلى هذا اليوم ورغم اختلاف آراء الفلاسفة، فلا يوجد مخطط يطرحه أحدهم للنفس باستثناء ديكارت وتحولات نيتشه إلى الإنسان الأعظم برمزيات الروح الثلاثة: الجمل، فالأسد، فالطفل التي تفتح مجالات لتفسيرات كثيرة، إلا أن كل تلك النظريات لم تأتِ بتعريف واحد لمعرفة النَّفس. يقول ديكارت في تأملاته: يَعرف المرء نفسه إذا كان مُدْرِكًا لأفكاره ومشاعره، لكنِّي أرفض تعريفه هذا الذي لا يجعلني لا شيء سوى نتيجة (أي الأفكار والمشاعر) ولا أعلم حقًّا مصدرها. حرف الألف، قد يكون بداية الكذبة الأولى التي كذبنا به على (أنفسنا)، أو نتيجة المعصية عندما (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) – الأعراف، ٢٢. تختلف الحضارات وأهلها بالطريقة التي يشيرون بها إلى أنفسهم لكن في جذور اللغات والمصطلحات التي تنقل معنى (أنا) التي وُجِدت في اللغة الأفريقية الآسيوية البدائية وعن اللغة الهندية الأوروبية البدائية تبدأ بحرف أَ أو إِ. فكلمة أنا، تعود إلى كلمة (أناكو) والتي اُشتقت منها كذلك العبرية التي أعطتنا (أني/إِياه). المثير للاهتمام، أنَ الحضارات الشرقيَّة تستخدم وَ أو وُ للتعبير عن (أنا) في لغتها، إما في فلسفاتها فثمة إهمال لمعنى الـ أنا. إذ اُعتبرت كشيِء صادر عن خيال العقل وجزء من العالم بأكمله. الجدير بالذِّكْر أنَّهُ في البوذيَّة، التي يُرى أنَّها ابتدأت من اللغة البالية، كانت تعاليم بوذا تنص أن يتجنب أتباعه اللغة السنسكريتية، الكلمة التي تصف الكبرياء في البالية هي الكلمة نفسها التي تصف الـ (أنا) في السنسكريتية (أهام). (١-٣) علم الأعصاب كذلك لا يُساعد قضيَّتُنا حيث لم يُثبَت مركز لهذه الأنا صاحبتنا. على أيَّةِ حال، لا أرى أنَّ هذه نقطة خلاف لنا وليس هنا حديثنا؛ فأنا هي فكرتي لإدراكي بنفسي وبما حولي وأرى أنَّ الفلسفة الشرقيَّة قتلت هذه الفكرة للهروب من العلاقة الحقيقية للإنسان بهذه الحياة وبما بعدها ومِن أهم سؤال يسأله الإنسان نفسه: «من أنا؟». الهويَّة ”أنا رجلٌ مريض... أنا رجلٌ شرير. بالأحرى؛ أنا رجلٌ مُنفِّر“ – مذكِّرات في قبو، دوستويفسكي. هذا ما كتبه رجل القبو في بداية مذكِّراته لنا وأسهب لنا في الكذب ليوصِل لنا فكرة عن نفسه، لكنها كانت بعيدة عن الحقيقة. فحينما يتحدَّث الفكر الغربي عن الهويَّة من منظور فلسفي، سنلاحظ فورًا أن ثمة فارقًا بين العربية والإنجليزية في مفهوم هذهِ الكلمة بين اللغتين؛ إذ إنَّ الأخيرة قد تسببت في مشكلة فكريَّة نوعًا ما. فكلمة (هوية) باللغة الإنجليزية آتية من كلمة متطابق/متشابه وهي من جذور لاتينية، أي أنَّ الفِكر الغربي قُيِّد باللغة. بمعنى أنَّهُ ثمَّة افتراض أن الناس متشابهون. لذا، كانت هنالك محاولات اختزالية لتقسيم هذه الهوية إلى رقمية (عددية أو اسمية) أو خصائصيه. فعلى سبيل المثال: إذا كان معاذ قد خسر ذاكرته، هل يبقى معاذ؟ وإذا قد خسر معاذ سمعه أو بصره، هل يبقى معاذ هو معاذ؟ طبعًا، هذا النقاش سيبدو منطقيًّا فقط حينما نأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان ليس سوى جسد ودماغ. أما من ناحية الهوية، فالتعريف اللغوي للهوية هي ماهية الشيء وجوهره ونفسه، وبالتَّالي هي نقيض هذا الاختزال وتُرِكَ سرُّ الهوية وجوهرها للمسؤول عنها. ولهذا أجد أن العرب يرون هذه الهوية على أنَّها ميتافيزيقية غير اختزالية بفضل اللغة والدين. وإذا حاولنا أن نترجم مصطلح الهوية من اللغة الإنجليزية ترجمة حرفيًّة قد تصلنا مفردات مثل: تماثل أو تطابق . المثير للاهتمام هنا هو أصل كلمة ماهيَّة يعود إلى مائيَّة، ولكن قلبت الهمزة هاء وفي رمزيات كارل يونغ في اللاوعي الشامل أو الجماعي، الماء يرمز إلى اللَّاوعي! نرى في اللوحة التفاحة تحجب جزءً من وجه الرجل في إشارة إلى إخفاء هويتنا عن النَّاس وربما عن أنفسنا كذلك، كما قال رينيه عن اللوحة: «كل ما نراه، يحجب شيئًا ما». هويَّة الإنسان تتطور عبر الأزمان وتتطور هويَّة المرء أثناء حياته. وإن كان جون لوك يرى أن هويَّة الإنسان هي نفسه، ولا ألومه على ذلك، فقد سبق وعرفّنا الهوية على أنَّها جوهر المرء. لكن لو أخذنا عبارة «حدِّثني عن نفسك»، فسنرى أن إجابات هذا السؤال ستختلف اختلافًا تامًّا بناءً على السائل، فالإجابة ستختلف لو كان السؤال صادًرا من موظفة الموارد البشرية أو من الطبيب النفسي؛ فحينما تسألنا الأولى تأملُ هي ألَّا تسمع منك خصال قد تجعلك تشعل النار في مكان العمل، أما الأخير فهو يأمل أن يستمد منك خصال سبب إشعالك النَّار في مكان العمل! في هذهِ الحالة، نرى أن تعريف الهوية قد تغيَّر وأصبح تعريف اصطلاحي يتماشى مع سياق المراد بتعريفه. بعبارةٍ أخرى، أصبحت الهويَّة في الحقيقة مجرَّد أقنعة نرتديها باختلاف الحفلة المراد لنا حضورها وإجابتنا عن الأنا متقلبة بتقلُّب الظروف. إن كانت مجموعة الهويَّات حلًا مؤقتًا لزمننا الآن، فأرى أنَّها تحمل عواقب وخيمة على مدى الأجيال القادمة، خصوصًا أن التَّباين قد أصبح واضحًا في ذواتنا باختلاف الأقنعة التي نرتديها، وذلك يعوز إلى توسع دائرتنا المعرفية ومحيطنا الاجتماعي الذي يغطي الكرة الأرضية بخلاف العقود الماضية. فإن كانت لا وجود للهويَّة دون مؤسَّسة، (سواء كانت مؤسسة ذاتية، وطنية، دينية، رقمية، مهنية، لغوية، منزليَّة.. إلخ)، فمن المنطقي إنْ نقول إنَّ لكل مؤسَّسة الـ أنا الخاصَّة بها للفرد. وما يُعطي هذه المؤسَّسات قيمتها هو أفرادها وقوانينها وموازينها الأخلاقية. وزيادة الانتماء للمؤسَّسات يعني أن يأتي أحدها على الآخر إلى أن تفقد المؤسَّسة الأضعف قيمتها. كما أنَّها قد تفقد قيمتها حينما لا يكون ثمة تعريف مُحْكَم للـ (أنا) الخاصَّة بأفرادها، مثلما نرى الآن في الهوية الجنسيَّة في الغرب. من جانبٍ آخر، يضمحل العقل الفرد وينتن قلبه حين تتصارع هذه الهويَّات مع بعضها، فهنالك الـ أنا الذاتية و الـ أنا المخفيَّة، التي لا يعلَمُها سوى المتحدِّثُ بها يعرف صاحبها بآثامها (أو يُحاول معرفتها) ووحيدًا يبحث عن حلول أسرارها بينما توبخه بعد نهاية يوم طويل في العمل أو مع أصحابه، إذا ما أتى وقت انتزاع القناع عنها لتصرخ به: «كيف لك أن تسبغني بهذا اللون القبيح وذاك؟!» النَّفس ”كنت أمارس جنوني بالليل بخفيّة وخجل، وأنا منفردٌ بنفسي، وقد تشبَّعت دواخلي بالخوف والعار والخزي، وهي تلك المشاعر التي لم تبارحني أبدًا حتى في أحطِّ اللحظات التي تفضي بالذات إلى اللعنة. لقد ظلت روحي منذ تلك اللحظات تحمل في دخيلتها قبوها القاتم. وكنت أعيش خوفًا شديدًا من أن يراني، أو أن يصادفني، أو أن يتعرف عليَّ أحد ما من معارفي .“ - مذكِّرات في قبو، دوستويفسكي. طال الزَّمن أو قصر، لا مهربٌ للإنسان من نفسه؛ فهي الصُّورة المبهمة التي يعرِّف نفسه بها حينما يقف وحيدًا أمام المرآة وهي المرَّةُ الوحيدة التي يُعرف بها الانسان نفسه كـ (أنا أنا) فقط لعجز الكلمات عن الحديث عنها وعن صفاتها، ليس له إلَّا ترجمة إرادتها ورغباتها ومشاعرها عبر وسائل الفنون أو الكتابة أو غيرها، ولطالما -من حُسنِ حظِّ الحضارات وسوء حظِّ المرء- أنَّ ترجماته لم تكن كافية، فسيَجد نفسه وحيدًا معها، لا يُجيْد الحديث معها أو جعلها تُنصِت له. هو أكثر ما قد يكون من الوحدة معها. ومع هذا، لا يبدو لي أنَّ للإنسان مهربٌ من وحدته إلَّا لنفسه، فهي حافظة أسراره ومخبأه الذي يلوذ إليه ونراها تُحكم قبضتها عليه في ضِعفِه ونجده يقول كلمات لم يعنها في حين ويشعر بأنَّ عقله سينفجر من الخوف عندما تدس له مخاوفه من خلف السِّتار في حينٍ أخرى. لا أعلم من النَّفس بالنَّفسِ إلَّا خالقها. وفي حالات انفرادنا مع أنفسنا، جميعنا مجانين كرجل القبو. السؤال الأزلي، السؤال الذي أعمل جاهدًا الإجابة عليه هو :من أنا؟ كرّس العديد من عمالقة القرن الماضي ممن عَمِلوا على التحليل النفسي: فرويد، يونغ، جاك لاكان، ماسلو وغيرهم جهودهم للتحليل النفسي وبرغم اختلاف مدارسهم وأفكارهم إلا أنهم اتَّفقوا على أنَّ العقل الباطن أو اللَّاوعي هو المحرِّك الأساسي لدوافع الإنسان، هذا بفضلِ فعَّاليَّة معظم وسائلهم للعلاج في ذاك الوقت والتي ما زالت تستخدم في وقتنا حتَّى الآن، لكن لم يُثْبِت علم الأعصاب هذه المحتويات الدَّفينة في العقل وبالنَّسبة لهذا المجال، فاللَّاوعي لا يحتوي إلَّا على ذكريَّات وردَّات الفعل والمهارات المكتسبة كالقيادة. كما أنَّه لم يُسْهِب أحدٌ منهم كما فعل كارل يونغ في نظريَّتِه للتفرُّد، إذ قال إنَّ حياة الإنسان بمجملها هي محاولة للوصول إلى تلك المرحلة. بمعنى آخر، أنَّه لمن المستحيل أن يصل المرء إلى التفرِّد التَّام، وهي مرحلة لا يصل إليها الإنسان إلا حينما تكون محتويات اللاوعي الخاصة بهِ في وعيه. حتى هذه اللحظة، ما زالت علوم النفس والأعصاب في بداياتها وبعيدة عن الإجابات الشافية على أسئلتنا عن النفس ­-وقد نفى الأخير وجودها، مُتماشيًا مع الفلسفة الشَّرقيَّة-. ” نحن ذوو المعرفة لا نعرف أنفسنا، ولسبب جيِّد. فكيف إذًا نُعرف أنفسنا؟ وما صحَّة قول: أينما كان كنزك ستجد في مكانه قلبك؟“ - في جينيولوجيا الأخلاق، فريدريك نيتشه. ثمَّة اختلاف كبير في تفسير المقولة السَّابقة كما هو الحال في كثير من كتابات نيتشه المليئة بالرمزيَّات.لكن الأهم، أن نيتشه قد سَبق فرويد ويونغ في الحديث عمَّا هو أجلّ من معرفة المرء (السطحية) لنفسه، أو الوعي، وهو وجود وعاء أعمق كُتِبَ فيه أفكارًا وغرائز ورُسِمت على جدرانه رموزًا تجعل من لا يعي بها في حالة من الاشمئزاز من تصورها. لكن للأسف، ومع كثرة تآويل كُتُب نيتشه، تظل رموزهِ ناقصة مقارنة بيونغ. هكذا، قد فشلت الفلسفة كذلك في الإجابة عن سؤالي. القرآن الكريم قد تطرق إلى النَّفس في أماكن عديدة، ففي سياقنا هنا عن النَّفس، أتت في القرآن من جانب الخير والشَّر في مواقف عِدَّة، لكنِّي أرى أنَّ أهم آية في حديثنا هنا هي من سورة الذَّاريات: ”وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)“ - القرآن الكريم. إن الصُّورة التي تكونت عن أنفسنا هي نتيجة انعكاس رؤيتنا لهذا العالم الذي نعيش، لهذه البيئة التي تحيط بنا. لكن هذه الصُّورة ليست بالكاملة؛ إذ إنَّ الصُّورة الكاملة لهذه النَّفس ما زالت مخفيَّة، وهنا نحتاج للبصيرة، لتلك العين التي ترى من خلف الأمور. «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ». الآيات المقصود بها لا تُرى عظمتها وقدرة خالقها إلَّا بتفسيرها، واحدى تلك الآيات «فِي أَنفُسِكُمْ ۚ»، لكن ما هي البصيرة هنا؟ أنا: إنَّ تعريف المرء لنفسه (البصيرة: أي الإدراك) يجمع ما بين القسمين الفلسفي والنفسي: الأول في الإدراك بالمشاعر والأفكار التي بوعي المرء، والثاني في علم النَّفس التَّحليلي ليونغ عن طريق الإدراك بمصادر الأفكار عبر دراسة اللاوعي، بالإضافة أنَّ اختزال هذه الأفكار إلى كلمات يُجرِّد من قيمتها. لكن مهلًا! إذا افترضت أنَّ هذه النَّفس وما يُشكِّلها هي مجرد أفكار والأخيرة مُجرَّد عمل انقدح في الذهن نتيجة للوظيفة العقلية، فهل هذا يعني أنَّني عُدت لنقطة البداية؟ وأنَّ النَّفس حقًّا وهم كما يدَّعي البوذيُّين؟ هذه الفكرة عن أنفسنا التي تمثلت على شكل رمزي أو صورة ما ليس لها تأثير فقط على العالم الداخلي للمرء (وإن كان ذلك كافيًا لديكارت أن يُثبت وجوده) بل أيضًا على العالم الخارجي كذلك (أو كما نتصوره على الأقل). لطالما رفضت فكرة رؤية المرء نفسه عبر عدسة حرفته؛ فهي ناقصة والإنسان الذي اُبتلِي بالعجز عن الحركة والكلام ستثور نفسه في محاولة لإيجاد تعريف غير هذا وأرفض اختزال الصفات نفسية التي امتازت فقط بمصطلحات اُطْلِقت عليها بناءً على فهمنا الذي ما زال بسيطًا عن جوهر الإنسان. على سبيل المثال، مؤشر مايرز بريغز للأنماط الذي اشتهر بتقسيم رؤية الناس للحياة إلى ستة عشر قسمًا، أو أن صفات النَّاس عبارة عن طيف يتراوح بين تلك الصِّفات، فهي كذبات علميَّة مُستحدثة، بُنيَت على نظريات كارل يونغ ونرى تناقض ما قام به هؤلاء مع نظرية الأخير في التفرَّد. أخيرًا، قد يكون جلَّ بحثي عن تعريف لهذه النَّفس ليس سوى تراهات، أو قد خلطت الحابل بالنَّابل بإجاباتي البدائيَّة ولعلي أركض في حلقة مفرغة، فقد يمضي ألف عام حتَّى يصل العلماء والفلاسفة للإجابة عن سؤالي، بل قد تكون الإجابة واضحة للجميع، لكنِّي بجهلي أرفض تصديقها. وإنَّ طرحي لهذا السُّؤال هو من التفاهات التي لطالما تطرقَّت إليها، وأنكم جميعًا تتعجبون من حديثي هذا وترونني كمجنون دوستويفسكي، لكن حتى وقت خروجي من كهفي، أو إفاقتي من أوهامي، سأظل أحاول معرفتها وأن أجد بصيرتي. المصادر: 1. The Semitic Languages (Routledge Language Family Series) 2nd Edition. By John Huehnergard. 2. The Pali Text Society’s Pali-English Dictionary. 3. Why did the Buddhists adopt Sanskrit? by Vincent Eltschinger. 4. Identity – Stanford Encyclopedia of Philosophy. 5. Collected Works of C.G. Jung, Volume 9 (Part 2): Aion. 6. مذكرات في قبو - دوستويفسكي. ترجمة أحمد الويزي

  • مجتمع المشهد

    تقودني أحيانًا فكرة أن كُل ما يُبث عليّ من الإنترنت سيُخزن بذاكرتي للأبد للتقيؤ، وهذا فعلًا ما أشعر بهِ بعدما أقضي عدةِ ساعات على التيك توك؛ غثيان من كثرة المشاهدة وشعور بصداع وبتخمة غريبة في رأسي. كيف أصبح طبيعيًا لنا أن نهضم كُل الأفكار الانسانية التي تحوم حولنا طيلة الوقت؟ لم يحصل أبدًا وأن تعرضت فئة بشرية من قبلنا لما نتعرض لهُ الآن من مشاهد افتراضية وهوس بالتحديق بالشاشات، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الكم الهائل من المعلومات، ما يطلق عليه اسم محتوى، التي نتعرض لها باستمرار في الإنترنت. يبدو الأمر وكأنما نعيش بوسط حفلة صاخبة يُمسك ضيوفها الثِقال بمكبر الصوت في كُل ثانية ليعبروا عن آرائهم، كما لو كانت حقائق، بينما نسمعها بلا مقاومة لتُشكل فيّنا مفاهيم وآراء، ليست بالضرورة حقيقية أو حتى جديرة بالاستماع. أعتقد أن ثمة عواقب لما آلت إليه الأمور وأننا نعيشها الآن دون أن نعيّها. لا يهمني الحديث عن العواقب، إنما أكتب بهذا الشأن لغرابة ما آل عليه شكل حياة اليوم الحديثة؛ فقد وصلنا إلى مرحلة أصبحنا فيها بحالة من تلقي المعلومات على نحوِ لا يمكن السيطرة عليه، أننا نُقصف من جميع الاتجاهات سواء عبر مقاطع الفيديو أو الصور أو برامج البودكاست الرائجة، وتأتِ كُلها لتصبغ الحياة الحديثة بصبغة غريبة؛ فإذ يبدو لنا أن الأفراد تعيش بصورةِ مُنفصلة إلا أن السلوكيات والتجارب والخبرات تتشكل، بطريقة غير مُباشرة، عبر الآخرين. بمعنى آخر، صار المرء لا يعيش ضمن مجتمع إنما المجتمع يعيش فيّه. بينما كُنت أتحرى عن بداية المحتوى في الإنترنت، وحين أقول بدايات فإني أعني الباكورة الفكريّة الأولى التي شَرعت وتطورت عبر الأزمان وصنعته، اكتشفت أن ما نراهُ اليوم على الإنترنت بمثابة التطور الأخير للكتابة فكلاهما اكتشافات هدفها حفظ البيانات وتخزينها وتسجيلها، كما أن الكتابة بدأت بكونها فكرة عبقرية ستٌغير مسار الإدراك البشري، تمامًا كما الإنترنت. وبحسب قصة اختراع الكتابة التي استشهد بها أفلاطون -نقلًا عن سقراط- في نقد الكتابة، فهي تعود للإله «تحوت» أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والحروف الأبجدية والذي حين اكتشف الكتابة قدمها مُتكبرًا للملك «تاموز» قائلًا: «هاك أيها الملك، معرفة ستجعل المصريين أحَكم وأقَدرّ على التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة!»، والذي رد عليه مُعارضًا: ”إن الكتابة ستنتهي بمن يتعلمونها إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم بدلًا من باطنها، أنك لا تُقدم علاجًا للذاكرة بل لتداعيها. أما بخصوص الحكمة فإن ما قدمته ليس الحقيقة إنما شكلها، فلما يجترع الناس المعلومات بغيرِ استيعاب سيتخيلون أنهم قادرون على الحُكم بينما هُم في معظم الأحيان جهلة.. هكذا يُصنع أشباه الحُكماء من الرجال، لا الحُكماء أنفسهم“ ما أشبه هذا الوصف الدقيق لحال محتوى الإنترنت اليوم فكم من شخصِ بدء حقًا بنشر المواعظ والحكم عبر فيديوهات قصيرة وبكلماتِ حين تُفكر بها حقًا تجد أنها بلا معنى؟ كان سقراط، في ذلك الوقت، ينظر إلى الكتابة على أنها تهديد محتمل للذاكرة البشرية ذلك لكونها نسخة من نُسخة أخرى -ألا وهي الحديث أو الفكرة- وهي حسب رأيه آفة للذاكرة، غريبة عن النفس لأنها تفِدُ إليها من خارجها، فيما الكلام نسيب للنفس. إن الكتابة -وفقًا لسقراط- تُعيد مضمونها دونما مراعاة لشروط المُستمع والمتلقّي، فيما يُحدد الكلام مضامينه تبعًا للسياق الذي يُقال فيه. لم يُخطئ سقراط حين تخيّل أن الكتابة ستكون أكبر وسيلة لفقدان الذاكرة الإنسانية، لكن لم تفعل الكتابة ذلك بنفسها إنما أدت تطوراتها -الإنترنت- لتفعل ذلك عوضًا عنها في حين أصبحت الكتابة نفسها أداة حماية مُقاومة للذاكرة البشرية. من المثير للملاحظة أن ما يبثهُ الإنترنت لم يٌغير فقط من طريقة العيش، بل صار مُرتبطًا بتشكيل الهوية الفردية والرأي العام والمواد الرائجة وما يستحق تسليط الضوء عليه من أخبار وما لا. أنا نفسي تتضح لي في كُل مرة أشتري بها جهاز آيفون جديد أني غدوت إنسانًا بلا ذاكرة نشطة، وبأني أعتمدُ اعتمادًا كُليًا على أداة خارجية لأعيش وحتى لأكون، وبأني لو سئُلت عن شكلِ حياتي لمسكتُ جهازي كُل مرة لأُظهر صورةِ لدولة زرتها أو لصديقة أعرفها أو لأصفِ موقعِ مكان أزورهِ باستمرار. ويتلبسني خوفِ مقرف، وأنا أرى جهازي القديم ينقل صوريّ ومعلوماتي لجهازِ آخرِ جديد، من أن تُفقد عملية النقل صورةِ ما فلا أكون حينها موقنة بما خضتهُ وعشته. تعلمت أن ما يحصل يُدعى بـ ”تخريج الذاكرة“ إي تحويل بعض وظائف العقل المركزية لأداة خارجية أخرى وبالتالي استبدالها، ولمن الأشد قرفًا من كُل هذا أني، كما كثيرِ من الناس، قد تكيفتُ مع النسيان وأصبحتُ مضطرة للتعامل مع بنوك خارجية للذاكرة. يتجاوز الأمر إسناد بضعِ مهام تذكر عقلية للأجهزة والإنترنت، ويهدد الانتشار الواسع لنشر المحتوى على الإنترنت مفاهيم إنسانية جللة مثل: المعرفة والتجارب والتفكير المُستقل. وفي شِدة هذهِ الغُمرة نتساءل ما الذي يُحدد ما نتذكره وما ننساه؟ والأهم، ما الذي يُستحق أن يُشاهد؟ يجيب الإنترنت بسهولة: كُل شيء يستحق، بل يستوجب المشاهدة، فهو يُدفق كمًا هائلًا من المعلومات والأخبار كل ثانية. من مِنّا لم يشعر بوخزة عار بسيطة حينما شعر بأنه ليس مواكبًا لآخر الأخبار في الإنترنت؟ ومن مِنّا لا ينام قبل أن يتأكد أنه مَر على كُل الفيديوهات التي تهمه في التيك توك؟ ومن لم يبحث سلفًا عن أي موضوع سياسيّ عبر الإنترنت قبل أن يصقل رأيه؟ كُنت يومًا هُنا: في انتقاد الصور لم يتجرأ أحدهم على نقدِ الكتابة (المحتوى من رسومات وكلمات وغيرها) كما سقراط، الذي يرى أن الأمر برمتهُ باطل وضار دون الخوض بتفاصيلِ أكثر. ونتيجة لذلك، ينظر سقراط نحو العامة بصفتهم أفرادًا يفتقرون القدرة على التفكير النقدي أو التحليل. في المقابل، تُميز سوزان سونتاغ بين المحتوى المكتوب والمرسوم وذاك المُصور، مما يشير إلى أن المشكلة قد تكمن في مشاهدة الصور على وجه التحديد. ويرجع ذلك إلى ميلنا إلى إدراك النصوص والرسومات على أنها تمثيلات فنية للواقع، أبدعها الرسامون أو الكتاب، بينما ننظر إلى الصور باعتبارها لحظة مجمدة حقيقية للواقع. وفقًا لسونتاغ، فإن التقاط الصور بمثابة وسيلة لتأكيد وجودنا ولقول: ”رأيت هذا المكان، كُنت يومًا هُنا“. وتُنذر إننا عاجلاً أم آجلاً سنُصبح سائحين في واقعنا. بمعنى أننا فقدنا القدرة على تقدير الجمال وتأمله دون الشعور برغبةِ مُلحة لالتقاط صورة له، وتخزين تلك اللحظة في متحفنا الخاص، متحف موضوعه الحنين، فالتقاط الصور هو فن رثائي يُحفز باستمرار مشاعر السعادة التي نعلم أنها ستنفى ولكننا نتشبث بها ونضعها بإطارات جميلة لاجترارها على الدوام. للوهلة الأولى، قد لا يبدو الأمر جللًا، إلا أننا يجب أن نأخذ في الاعتبار الضرر المحتمل في حصر أنفسنا ضمن أُطر تجاربنا الماضية. ”الحاجة إلى واقع مثبت ومعزز بالتجربة، عبر الصور الفوتوغرافية، هو استهلاكية جمالية كل شخص الآن مدمن عليها“ تنتقد سونتاغ استهلاك الصور لعدة أسباب؛ أولها أنها تفصلنا عن الواقع وتُحّجم التجربة فحينما نُركز على ما يعتبر مناسبًا لالتقاطه في الصورة، تصبح حيواتنا بأكملها مجرد صور وذكريات تشبع رغبتنا بالتكديس. علاوة على ذلك، فعبر رؤيتنا لصورِ الآخرين والتأثر بها، نتحول لمثلِ من يُخطط حياته الشخصية وفِقا للإعلانات التجارية، أنما هذهِ الإعلانات لا تصدر على الصحف والتلفاز بل من أفراد نعرفهم. لقد غذت المجتمعات الرأسمالية هذا الإدمان الجماعي للاستهلاك البصري والذي تزعم سونتاغ أنه أحد أكثر التأثيرات المدمرة للعقل بسبب فرضه لمعايير محددة للجمال! اليوم نرى أناسًا يبنون لأنفسهم حياة كاملة، غير حياتهم، عبر الصور، أن هذا التوق الشديد لخلقِ الجمال ما هو إلا محاولة تطهيرية للدنس في العالم، هي ضربة مُثبطة لعزيمة التغيير ومُحفز لاستنساخ مفهوم الجمال وتأطيره بينما لا بد للجمال أن يبقى حُرا وألا يتأصل بشيء وأن يُكتشف كُل مرة بطريقة مُختلفة للرؤية. مثلًا، فكر بشعور النصر الذي يعتريك حينما تلتقط صورة خلف برج إيفل أو وأنت واقف في شارع المايفير في لندن! حتى أنك ستُسارع لتُشارك هذهً الصور على حساباتك الخاصة مع وسم للدولة والمكان حتى تتأكد أن أصدقاءك سيرونك مُحققًا للأحلام المستنسخة التي يملكها الجميع، فكر بهذا النصر اللحظي ذي السطوة الشديدة الذي يُعمينا من الالتفات على: إضرابِ عُمال يحدث بالقرب، مُهاجرة مُسنة تطالب بالأموال لإطعام أطفالها على زاوية جدار ما، النفايات المرمية والتي ربما في مكانِ أقل رواجًا لما كانت موجودة، بيد إننا نُصر على تكرار التجارب لدرجة أننا سنمسحِ صور الفقراء من على الصور بالفوتوشوب، وسنُصمت أصوات المُضربين ونُشغل أغنية حالمة خلف الصورة، وسنتأكد من أن الزاوية التي التقطناها لأنفسنا جميلة، جميلة للغاية وعلى نحوِ غير منطقي. هكذا نعطي الأولوية للجمال غير الواقعي والمبالغ فيه على الفهم الحقيقي للعالم. يحمل نقد سونتاغ الثاني للصور مضامين أكثر خطورة من الأول، إذ لا تقف آثار مُشاهدة الصور عند خرق مفاهيم الجمال خصوصًا حينما تُصبح الصور وسيلة لشلِ الحس الأخلاقي وإخمادهِ. فعندما نرى الصور التي تعرض معاناة الآخرين بكثرة، نفقد تدريجياً القدرة على التعاطف مع آلامهم، على سبيل المثال؛ تحدث مجازر وإبادات وجرائم يندى لها الجبين الآن في الكونغو ولا نرى تعاطفًا كبير مُقابله، السبب يعود أننا اعتدنا رؤية صورِ المجتمع الأفريقي وهو بحالات مُشابهة من الدمار والقتل لدرجة أننا صِرنا لا نشعر بشيء مُريب تجاه ما يحلُ بهم الآن. أيضًا، تُعرض صور المجازر التي تحدث بفلسطين للغرب الذين يردون عليها بأن ”الشرق الأوسط لطالما كان في حالات صراع“. إن الصور -كما تقول سونتاغ- تُفقدنا الحس الأخلاقي، وهي أيضًا أداة رأسمالية مُلهية تُسطح الأمور وتُفقدها تعقيداتها. المحتوى المرئي في التلفاز والإنترنت بصفتهِ إدمان للمتعة تطورت مخاوف سقراط لأشكال عدة وأتت: الكتابة، ثم التلفاز، ثم الإنترنت تباعًا لتُبث في كُل ثانية ولتهدم ذاكرة وتبني أخرى جديدة، ولو أردنا وصف التشتت الذهني الذي نعيشه لقلنا ببساطة إنها أعراض الما بعد حداثة؛ ذلك لأن الإنترنت يُقدم تجربة ما بعد حداثية خام؛ فهو يُلغي كل الروايات الكُبرى المُتعلقة بالوجود (مثل الحقيقة الواحدة للحياة والموت والحقائق العلمية والدينية)، في الإنترنت: لا شيء حقيقي إطلاقًا، لُكل رأي نظريات مؤيدة وأخرى مُلغية إذ ينظر الإنترنت للأمور على نحوِ مجهري بدلًا من أن يكون شاملًا. المعرفة والحقائق، في الإنترنت، سياقية والواقع يُروى عبر تفسيرات شخصية من أشخاص مجهولين! توقع ديفيد فوستر والاس في روايته «الدعابة اللامتناهية» حالة مُشابة لما نعيشه الآن: تحكي الرواية عن شريط سينمائي خيالي يستحوذ على عقول المشاهدين، الذين يدمنون على معاودة مشاهدته مرة تلو الأخرى، حتى أن بعضهم يموت سعيداً لمجرّد أنه شاهده حتى النهاية. يُسهب والاس الحديث في هذهِ الرواية عن ماهية الترفية والمتعة والنزعة الاستهلاكية المعجونة بداخل المشهد. كان انتقاده لا يُصب على فعل المشاهدة والمشاركة فحسب، بل ركز على الموضوعات التي تتناقل ضمن هذهِ القنوات ذات الأنماط السريعة والتي تحضر لتستقطب أكبر عدد من المُشاهدات دون مُراعاة للجوانب الفنية والحقيقية والعلمية. أولى هذهِ الموضوعات هي: السخرية. يقول والاس أن التعرض المستمر للمحتوى الساخر يُجرد المتلقي من إنسانيته، وذلك لافتقار السخرية بأية قيمة مكتسبة. مثلًا، حينما يقرر امرئ أن ينشر فيديو على الإنترنت يتحدث فيّه عن قضية جللة، فهو يُدرك أن خطابه سيتقاطع مع عدة دعاية ترويجية، وأن الجمهور الرائي أو القارئ لن يكون في حالة تُأبه لاستقبال أية أمور ذات أهمية -لأننا على الإنترنت لا نبحث إلا عن المتعة- وأن خطابه سيتعرض للنقد والسخرية والتهكم، وأخيرًا، فمن بين فيض ساحقِ من المواد الممتعة والترويجية الملونة والصاخبة، من سيهتم لتعكير مزاجه بأمورِ جدية؟ قد أكسب الإنترنت البشرية قدرًا كبيرًا من المعرفة حتى صار يُمكننا اختيار الحقائق التي نريد بانتقائية لصياغة واقع فردي خاص، وبطبيعة الأمور، سيبني كُل فرد لنفسه واقعًا افتراضي ساحر وبعيدًا كل البعد عن الحياة الحقيقية. حين نتتبع بداية ظهور السخرية في الثقافة، فإن أحد الأمثلة البارزة هي مسلسل «ساينفلد» الذي لاقى نجاحًا لا مثيل له. يقول أبطال المسلسل مرارًا إن المسلسل لا هدف له وأنهُ عن لا شيء تمامًا مثل الحياة الحديثة. نرى الأربعة، جيري وكريمر وإلين وجورج، يعيشون في نيوريورك الصاخبة والمُترعة بالخيارات لدرجة تنافسية مُرهقة -مثل الإنترنت-، يقاوم كل منهم التواصل الإنساني الحقيقي بالسخرية وبتسطيح القيم وبتدمير أية معان حقيقية وبالبحث عن ملذات قصيرة. ذلك لأن السخرية من الحياة أسهل من مواجهتها. يقول ديفيد فوستر والاس إن السخرية خوف مستتر من أن يكون المرء إنسانًا، بهذهِ الطريقة لا تواجه الشخصيات أية حميمية وتفشل في إظهار أحاسيس صادقة، وتبدو العاطفة والدفء في هكذا سياقات صفات مُبتذلة وسقيمة. محاولة فهم العواطف، والتقلبات الإنسانية أمرِ شاق بالتأكيد، حتى على نطاق كتابة الشخصيات، فمن الأسهل كتابة شخصيات سطحية وأحادية البُعد على أخرى عميقة ومُعقدة. اعتقد والاس أننا سنجد حلًا حين نٌُغير نبرة السرد من ساخرة وتشاؤومية ومُحبِطة إلى أخرى صادقة وإيجابية، وأسمى هذا التيار السردي بـ «الإخلاص الجديد»، الذي يقول أن السرد ينبغي أن ينبثق من مبادئ الإخلاص من أجل الإنسانية بصفتها دافع رئيس في أي عمل إبداعي ونقدي، ونجح نقد والاس هذا في ظهور برامج تلفازيّة وسينمائية ذات سُخرية انتقائية (بمعنى أنها تُستخدم السخرية وسيلةً بحث بدلًا من كونها تعبيرًا عن اليأس) وبأبعاد أنسانية مثل مسلسل كميونيتي وأفلام أفتار وفورست غامب والسعي للسعادة لويل سميث. يبدو أن والاس ينوي إعادة توجيهنا مرة أخرى إلى البنية السردية التقليدية، مثل الأفلام الروائية الطويلة، وأن نبتعد عن السردية مُتعددة المنصات مثل أفلام مارفل ومسلسل إيفوريا، التي تأثرت بالمحتوى سريع الوتيرة السائد على الإنترنت. وفي حين أن تحقيق هذا الهدف قد يكون مُمكنًا على السينما والتلفاز إلا أن محاولة التحكم بالأمر حينما يتعلق الأمر بالإنترنت أمرًا مختلفًا تمامًا، ذلك لأن الإنترنت غير محكوم من أفراد بل من كُتلة جماعيّة عالمية تبثُ وعيّها مُباشرة في كُل ثانية من الوقت. أخيرًا، في جميع جميع محاورات أفلاطون، نرى إشارات لرفض سقراط للكتابة بحجة مخاطر الإظهار الخارجي للأفكار. ومع ذلك، بقيّ اسم سقراط معروفًا حتى اليوم لأن أفلاطون كتب وأظهر أفكارهِ خارجيًا! لذا، من الصعب حقًا ألا نعترف بالجوانب الإيجابية، التي لم نكن لنتخيلها يومًا، للعوالم الافتراضية، أقولها كوني عاشقة للإنترنت وخضت فيّه الكثير، إلا أنهُ ينبغي علينا تعلم طبيعة المشاهدة الافتراضية المستمرة وأثارها السلبية على التجربة الإنسانية، سواء كان ذلك عبر ”النظرة“ للصور كما كتبت سونتاغ أو عبر السياقات السطحية الممتعة التي تُنتج في محتوى الإنترنت والتلفاز. أتذكر مقولة ديفيد والاس حول المعنى الحقيقي للمعرفة، إذ لا يقتصر الأمر على اكتسابها فحسب، بل يتعلق بتذكير أنفسنا بالانتباه إلى ما يهم حقًا. يروي والاس في إحدى مقالاته قصة سمكتين تسبحان معًا، بينما تسبح سمكة أخرى نحوهما وتسألهما ”كيف الماء اليوم؟“، ثم تسير، تتساءل السمكتان بعد فترة: ”عن أية ماء تتحدث بحق الجحيم؟!“ يمثل "الماء" في هذه الاستعارة جوانب الحياة غير المرئية وغير الملحوظة التي تشكل تصوراتنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا. إنه يرمز إلى الأفكار والافتراضات والتحيزات التي تحيط بنا وتؤثر علينا ولكن غالبًا ما تمر دون أن يلحظها أحد. والاس ببساطة يطلب مِنا أن نفكر بما نفكر به، وأن نرى ما نراه، فالحرية يمكن تحقيقها عبر الاختيار الواعي للانتباه للحظة وللآن وللمحسوساتِ فيّه لا في المشاهد الافتراضية التي تتحرك في الشاشات. باختصار، مثل السمكتين، يجب أن نُذكر أنفسنا دومًا بالحاضر وبما هو حولنا. فلنردد، إذًا، ضد النسيان: ”هذا هو الماء.. ”هذا هو الماء.. هذا هو الماء..“ المراجع: حوار فيدروس، أفلاطون بترجمة أميرة حلمي مطر. حول الفوتوغراف، سوزان سونتاغ بترجمة عباس المفرجي. هذا هو الماء، ديفيد فوستر والاس.

  • الوقت: ما بين العلم والفلسفة

    في مطلع رواية البطء للكاتب التشيكي ميلان كونديرا، يحاول الزوج ميلان الإجابة على حيرة زوجته فيرا من أمر جنون السائقين على طرقات باريس "إن الممتطي لدرَّاجته النَّارية لا يمكن أن يركِّز إلا على الثانية الزَّمنية لانطلاقه، مُتشبِّثًا بومضةٍ من الزَّمن مفصولة عن الماضي والمستقبل، مُنْـتَـزَعًا من اتِّصال الزَّمن، يكون خارج الزَّمن، أو بعبارةٍ أخرى تتلبسَّه حالة من النَّشوة، فيها ينسى كلَّ شيء عن عمره وزوجته وأبنائه وهمومه. بانطلاقه، يكفُّ عن الخوف، لأنَّ في المستقبل يكمن مصدر الخوف، ومن تحرَّر من المستقبل، لا يبقى لديه ما يخشاه". الوقـت، أحـد المصطلحات التي تُعَرَّف بها لحظاتنا، تاريخ إنسانيَّتنا ومستقبلها. نستعين به في محاولتنا لعيش حياة مُتَّزِنَة، وتستخدمه الشَّركات كدعاية لـ"عيش اللَّحظة" طُعْمًا للمستهلكين، وبعض الحكومات لمحاولة ملء أوقات الخاضعين لها، والأديان لأعيادها أو لتنظيم حياة العابدين. مع هذا، إلى هذه اللحظة، استحال على العلم وفروعه تعريفه، وثمَّةَ سجال بين الفلاسفة عن ماهيته. يقول ريتشارد فاينمان «ربمَّا علينا تقبُّل حقيقة أنَّ الوقت من الأمور التَّي قد لا نستطيع تعريفها، وما يهم على أيَّةِ حال، هو أنَّنَا نستطيع حسابه.» لكن باستحالة معرفة ماهية الوقت، سيستحيل علينا معرفة أمور مرتبطة ارتباطًا تامًّا بالوقت، كالدماغ على سبيل المثال وطريقة تخزينه للذاكرة في قرن آمون (Hippocampus)، وكيف للدِّماغ أن يستشعر ويمثِّل الوقت. هذه الأمثلة وأكثر ما زالت ألغاز لم يجد لها علماء الأعصاب أيَّةِ إجابة. إنَّ تطوُّر المخلوقات الحية ووصولها إلى زمننا هذا حتَّم عليها التَّأقلم على تعاقب اللَّيل والنَّهار، وبرمجة سلوكها بناءً على ذلك في الاصطياد والتزاوج وغيره. لحسن الحظ، الوقت ليس بالأمر الذي يفرض سلطته على هذه المخلوقات بقوَّة كالأمور الحسيَّة: الاتجاهات عن طريق البصر، ودرجة الحرارة من خلال المستشعرات. ولا أعلم إن كانت هنالك كائنات قد انقرضت (عاشت على سطح الأرض وليس في قاع المحيطات) بسبب فشلها في التَّرجمة العصبيَّة للوقت، لكنَّها نقطة تثير تساؤلي في بعض الأحيان في الوجود؛ يرى الألماني مارتن هايدغر أنَّ تعريف الوجود مرتبط ارتباطًا كاملًا بالوقت: أيَّ أنَّ الانسان يعلم محدوديَّة وقته في هذه الحياة، ومحدوديَّته هذه مرتبطة باهتمامه اتجاه الأشياء في هذا العالم، وكذلك مرتبطة بوجود هدف يتحقق بالوقت. (أنطولوجيَّة هايدغر معقَّدة وتفاصيله عن الوقت تجدوها في كتاب الوجود والزَّمان). نعلم الآن من خلال المثالين السَّابقين أنَّهُ بمعرفة الوقت بمفهوم تجريدي وليس فقط كونه طريقة للقياس سيسبِّب ثورة في العالم الفكري وفي جميع المجالات وليس فقط في علم الأعصاب والفلسفة. لكن لنأخذ خطوة إلى الخلف وأقول لكم بأنَّ لكلٍّ من الفيزياء، وعلم الأعصاب، والفلسفة تفسيره ومذهبه الخاص بالوقت، والاصطدام واضح بين أول اثنين، بينما انسحب الفلاسفة عمومًا إلى الفلسفة الميتافيزقية (والبعض إلى الأنطولوجيَّة والإيبستمولوجيَّة)، واعتزل البعض الحديث أكثر عن الوقت مثل ايمانويل كانط، نظرًا لتناقض مفهوم الوقت مع بدايته. في الفيزياء، يستفتح لنا ستيفن هاوكنج في مطلع كتابه تاريخ موجز للزَّمن بفكرة جميلة جِدًّا عن بداية الوقت، وهو أن الوقت بدأ مع الانفجار العظيم وذلك بسبب أنَّ ما حدث قبل أن يكون الكون في متناهى الصِّغر وغير متناهي الكثافة ليس بالحدث المهم كما يرى هاوكنج نظرًا لإنعدام تأثيره. يؤمن كلٍّ من ستيفن هاوكنج، ريتشارد فاينمان وآينشتاين بمذهب الأبدية فيما يتعلق بالوقت، أي أنَّ ما قد حدث في الماضي، وما يحدث الآن في الحاضر، وما سيحدث في المستقبل حقيقية متساوية. ولهذا نجد أفلام السينما والروايات تستعين بهذا الرُّكن لدعم نظرية السَّفر عبر الزَّمن. كما يقول الفيزياء الكثير عن الوقت، أكثر ممَّا أعلم ولكن أبعد عن نطاق حديثي هنا. لدي مشكلتين هنا مع مفهوم الوقت الفيزيائي، فهي أوَّلًا تنفي الإرادة الحرَّة للمرء، والثَّانية بأنَّ القفزات القادمة لعلم الفيزياء ستتوقُّع تَصَرُّفات الكائن البشري بدقة. بخصوص نتائج نفي الإرادة الحرَّة، فلن يكون هنالك معنى لوجود الخير والشَّر والتي تعتبر ركن من أركان الفلسفة الدِّينيَّة. وإن تحدَّثت خارج الفلسفة الدِّينيَّة، ورأينا مثل ما رأى نيتشه ما وراء الخير والشَّر عمومًا، سنأتي إلى المسألة الأخلاقية المتعلقة بالمسؤولية تجاه أنفسنا (والتي يُطالب بها نيتشه) التي سيكون الشَّك فيها بعيداً عن المنطق، سيكون كذلك الشَّك في الإرادة الحرَّة بعيدًا عن المنطق. وإني أرى نيتشه يتقلب في قبره امتعاضًا لما كتبت. وفيما يتعلَّق بتوقُّع تصرُّفات البشر، تستطيع الرِّياضيَّات توقع الوظائف الفسيولوجيَّة الغير معقَّدة للكائنات، من ناحية وظائف الخلايا وغيرها، لكن عندما يأتي الأمر إلى العقل البشري والوظائف العلويَّة مثل المشاعر، والأفكار وغيرها لاحتوائها على المبادئ، فمن المستحيل تصُّورها رياضيًّا، على الأقل حتَّى الآن. في علم الأعصاب، يستنكر معتنقي هذا العلم فكرة الأبدية لأنَّ ذلك يعني أنَّ مرور الوقت ليس سوى وهم من المخ، والمثير هنا أنَّ مرور الوقت سيكون من أكثر التجارب الشَّخصيَّة (غير موضوعيَّة/Subjective) التي نشعر بها جميعًا. لكن الوقت ليس مطلقًا، كما كان يعتقد إسحاق نيوتن، والحديث عن نسبيَّته قد انتهى منذ ورقة آينشتاين في عام 1905، ودائمًا ما أحب أن استمتع بفكرة تفاوت تجاربنا في استشعار الوقت إن كان بسبب اختلاف إفراز الهرمونات في المخ، أم أنَّ هنالك أمرٌ أعمق من مجرَّد سرعة انتقال الإشارات في المخ. على أيِّة حال، يعتنق علماء الأعصاب والنَّفس مذهب اللحظية، والتي تُعتبر سخيفة تحت مجهر الفلسفة والفيزياء. اللحظية تقول أنَّ لا شيء حقيقي سوى هذهِ اللحظة، ومن نظرة تطَوُّريَّة، لم تكن الذَّاكرة موجودة لدى الحيوانات إلَّا للتعلُّم من الماضي وتنبؤ المستقبل أخطاره لكن يبدو أنَّنا أسأنا استعمالها إذ نحِنُّ إلى الماضي ونغنِّي له، ونستعيذ من المستقبل ونخشاه أكثر من الَّلازم. وعزائنا هنا في الفنون، فهي كما اعتقد أنَّها وليدة لهذه التصوُّرات منذ أن بدأ رجل الكهف رسوماته على جدرانه. سيكون الرَّد على هذه الفكرة عندما نستعرض الآن الآراء الفلسفيَّة حول الوقت. قسَّم جون مكتاغرت، في محاولته لنفي وجود الوقت من الأساس، الوقائع التي تحدث في الوقت إلى قسمين: أوَّلًا- التَّسَلسُل أ (A-Series): وهذه مقسَّمة إلى الماضي، الحاضر، والمستقبل. هذا التَّسَلسُل هو الَّذي يتبعه علماء الأعصاب وعلماء النَّفس في منهج اللحظيَّة على ذِمَّة دين بونومانو في كتابه Your Brain is a Time Machine. وهذا التَّسَلسُل يحتوي على مشكلتين: إن كان هنالك واقعة في الحاضر، فهي ليست بالماضِ وليست بالمستقبل، أيَّ أنَّ الخصائص ليست متوافقة مع بعضها. المشكلة الثَّانية والأهم، أنَّ أيَّ حدث في نطاق الوقت يجب أن يحتوي على الخصائص الثلاثة (ماضٍ وحاضر ومستقبل)؛ أيْ أنَّ أيُّةُ واقعة في الحاضر كانت في المستقبل وستكون في الماضي، ومن دون فحص لهذه العبارة، لا يوجد أيَّة مشكلة. لكن دعونا نتعمَّق أكثر قليلًا: 1. هنالك حدث (س) يقع الآن في الحاضر، كان مستقبلًا، وسيكون ماضيًا. 2. لنستطيع القول (س) سيكون ماضيًا سنقول أن بعد وقت مستقبلي (ت) سيكون (س) ماضيًا. 3. لكن، بما أنَّ (س) يقع الآن في الحاضر، لا يوجد وقت في الماضي يكون فيه (س) ماضيًا. 4. لكن، الوقت المستقبلي (ت) سيكون ماضيًا، وفي ذلك الوقت سيكون (س) ماضيًا. 5. هنالك تناقض ما بين 3 و 4 لا يكون فيه (س) حاضرًا وماضيًا في نفس الوقت. ثانيًا- التَّسَلسُل ب (B-Series): وهنا تكون العلاقة بين الأحداث نسبيَّة أو علائقيَّة إن صح تعبيري (relationist) لأحداث أخرى؛ أي الحدث (س) كان قبل كذا، أو مُزَامِنًا لكذا، أو بعد كذا. ونرى هنا أنَّ العلاقة دائمة، فلن نرى الحدث (س) بعد عام 2050 وقبل 1920 ويحدث الآن في 2021، وهنا يرى مكتاغرت عدم وجود أيَّة تغيير زماني في الأحداث، ويعتقد بأنَّه لا يوجد تغيير في الحقائق، وأنَّ الوقت ليس سوى وهم إذا لم يكن هنالك تغيير. يقول مكتاغرت أيضًا أن الطريقة الوحيدة لإثبات وجود الوقت هي عن طريق الـ A-Series، لكن بما أنَّها تُناقِض نفسها، فالوقت ليس حقيقي. لكن هنالك عدَّة أخطاء في فرضيته، أهمُّها كما أعتقد بأنَّه عرَّف الوقت بإلزامية حدوث واقعة أو تغيير زماني (temporal change) ليكون الوقت موجودًا من الأساس. وإن قال ستيف هوكنج أنَّ الوقت بدأ بابتداء أوَّل حدثٍ كوني (الإنفجار العظيم) فهذا لا يعني أنَّ الوقت يجب أن يكون مرتبطًا بتغيير أو حدث، فهنالك رفاهية في فكرة أنَّ وجود الوقت لا يُلزِم حدوث تغيير أو واقعة. الخطأ الآخر، هو رأيه بأنَّ التسلسل ب لا يُثبت وجود الوقت، بزعم أنَّه يجبُ علينا أن نمثِّل العالم المتغيِّر (في حالة وجود الوقت) عن طريق حقائق ثابتة، والفيزياء والرياضيَّات وصفا لنا الكون المتغيِّر بحقائق ثابتة. لهذا يستنجد أهل الفيزياء بالتسلسل ب لدعم فرضيَّة الأبدية (وليس العكس). أما الفلاسفة، فهنالك الكثير من يدعم التسلسل ب ويُطلَق عليهم المنظِّرون ب. اهتمامي بالوقت ليس سوى ردَّة فعل على معرفتي لمحدوديَّة زمني، فكما يقول سورين كيركيجارد ومارتن هايدغر بأنَّنا نكون أكثر حريَّة عند معرفتنا بمحدوديَّة وقتنا، فعندما أفكِّر بأنَّ الوقت ليس حقيقيًّا وأنَّه مُجرَّد وهم فهذا يعني أنَّني خسرت الفكرة بالإرادة الحرَّة، ولن أستطيع حتَّى إيجاد معنى في هذه الحياة، وإن اِتَّبعت الفرنسي آلبر كامو في محاولة لإيجاد معنى ما في هذه العبثيَّة. وأما ما يتعلق بمصطلح "عِش اللَّحظة" الذي يصرخ به أتباع ما بعد الحداثة وتستعمله الشَّرِكات الدِّعائيَّة، ليس إلا تفسيراً خاطئًا لهذه العبارة؛ فحقيقة عيش الَّلحظة هي عندما يكون الإنسان في وعي تام للماضي السَّحيق الَّذي أوصله إلى هذه النُّقطة، والمستقبل البعيد بكافة احتمالاته ومخاوفه، ففي هذه اللحظة تكمن الحريَّة الحق، فالـ «الحريَّة هي سراب القلق». المصادر: رواية البُطء لـ ميلان كونديرا، ترجمة خالد بلقاسم. تاريخ موجز للزمن، لـ ستيفن هوكنج. Your Brain is a Time Machine by Dean Bunomano Just the Arguments by Michael Bruce and Steven Barbone

  • إيفيلين - جيمس جويس

    [القصّة من ترجمة شذى محمّد] إيفيلين: جلست بالقرب من النافذة مُراقبةً اجتياح المساء للجادّة. كان رأسها محنيّ على ستائر النافذة وفي أنفها رائحة قماش الكريتون المُغبَّر. كانت مُتعبة. مرّ قلّة من الناس. مرّ الرجل الذي يقطن في آخر منزل وهو في طريقه إليه، سمِعت طقطقة خطوات أقدامه على الرصيف الإسمنتي وبعدها تسحق طريق الرماد المُمتدّ مُقابل المنازل الحمراء الجديدة. كان في السابق حقل هناك حيثُ اعتادوا على اللعب كلّ مساء برفقة الأطفال. ثمّ ابتاعه رجل من بِلفاست وبنى بيوتًا مكانه – ليست كبيوتهم الصغيرة البنيّة اللون بل بيوت القرميد الفاقع مع أسقف لامعة. اعتاد أطفال الجادّة على اللعب سويّةً في ذلك الحقل – أطفال عائلة ديفن وواتر ودن، وكيو الصغير المُقعد، وهي وإخوانها وأخواتها. غير أنّ إرنِست لم يلعب أبدًا؛ فهو كان راشدًا جدًا. كان والدها كثيرًا ما يُطاردهم ليخرجوا من الحقل بعصاه الشائكة، لكن غالبًا ما حرسهم كيو الصغير بإعطاء إشارة كلّما رأى والدها آتٍ. رغم ذلك كانوا يبدون سُعداء حينها. لم يكن والدها بذلك السوء وقتها، وأيضًا أمّها كانت على قيد الحياة. كان ذلك مُنذ وقتٍ طويلٍ جدًا، أصبحت هي وإخوانها وأخواتها راشدين، وأمّها ماتت. تيزي دن ماتت أيضًا، وعادت عائلة واتر إلى إنجلترا. كلّ شيء يتغيّر. والآن هي ستذهب بعيدًا كالآخرين، ستُغادر منزلها. المنزل! دارت بنظرها في الغرفة، مُتذكّرة كلّ أغراضها المألوفة التي سبق وأن نفضت عنها الغبار مرّة كلّ أسبوع لسنواتٍ عديدةٍ، متسائلةً من أين يأتِ كلّ هذا الغبار. هي ربّما لن ترى مُجددًا تلك الأغراض التي لم تحلم إطلاقًا بمُفارقتها. ورغم مرور كلّ تلك السنوات هي لم تكتشف اسم القسّيس في الصورة المُصفرّة المُعلّقة فوق الأرغن المكسور بجانب الطبعة الملوّنة للوصايا المذكورة لمارغريت ماري آلاكوك المُباركة. هو كان صديقًا لوالدها في المدرسة. اعتاد والدها على تمرير تلك الصورة للزوّار مع عبارة: "هو في مِلبورن الآن". لقد وافقت على الذهاب بعيدًا، على مُغادرة منزلها. هل كان قرارًا حكيمًا؟ تأمّلت مليًا في جوانب السؤال. أيًا كان، ففي منزلها يتوفّر المأوى والطعام، والأًناس الذين عرِفتهم طوال حياتها بجانبها. بالطبع كان عليها العمل بجدّ داخل المنزل وفي مِهنتها. ما الذي سيقولونه عنها في محلّ عملها عندما يكتشفون أنّها هربت مع رفيقها؟ سيقولون أنّها كانت بلهاء، ربّما، وسيُشغل مكانها بالإعلانات. ستكون الآنسة غافان مسرورة. فالأفضليّة كانت لها دائمًا، خصوصًا على مسمع الناس. "آنسة هيل، ألا ترين أنّ السيّدات ينتظرن؟" "بنشاطٍ آنسة هيل، من فضلكِ" لن تأسف كثيرًا على مُغادرة محلّ عملها. لكن في منزلها الجديد، في دولة بعيدة مجهولة، لن يكن الأمر كذلك. فعندها ستكون متزوّجة – هي، إيفيلين. عندها سيعاملها الناس باحترام. لن تُعامل كما كانت تُعامل أمّها. حتّى الآن، رغم كونها تجاوزت التسعة عشر عامًا، تحسّ أحيانًا أنّها تحت خطر تعنيف والدها لها. تُدرك أنّ ذلك ما يسبّب خفقان قلبها. خلال نشأتهم لم يهتمّ بها كاهتمامه بهاري وإرنِست، لكونها فتاة، غير أنّه مؤخّرًا بدأ يُهدّدها قائلًا أنّ ما سيفعله بها يُعدّ فقط إكرامًا لوالدتها الميتة. والآن لا أحد لديها لحمايتها. فإرنِست مات، وهاري الذي يعمل في تزيين الكنائس دائمًا ما يكون في مكان ما في البلد. ثمّ أنّ الشجار المستمرّ حول المال في ليالي أيّام السبت بدأ يُسئمها دون أن تحكي. دائمًا ما تتخلّى عن أجورها كاملةً –سبع شلنات- ولطالما أرسل هاري ما باستطاعته، لكن المأزق هو أخذ أيّ مالٍ من والدها. قد قال أنّها اعتادت على تبذير المال، أنّ لا عقل لها، وأنّه لن يُعطيها ماله الذي كسبه بعرق جبينه كي تبذّره في الشوارع، وأكثر من ذلك، لأنّه غالبًا ما يكون في أسوأ حالاته في ليالي يوم السبت. في النهاية سيُعطيها مالًا ويسألها إن كانت لها نيّة لشراء عشاء يوم الأحد. ثمّ سيكون عليها أن تهرع بأسرع ما يمكنها للتسوّق، مُمسكة بحقيبتها الجلديّة السوداء بيدها بإحكام وهي تُفسح طريقها عبر الحشود، وتعود إلى المنزل متأخّرةً بسبب كثرة المؤن. كان عليها أن تعمل بجهدٍ كيّ تُحافظ على المنزل، وأن تُلبّي مطالب الولدين الذين تُركا تحت رعايتها، فهما يذهبان إلى المدرسة بانتظام ويأكلون وجباتهما بانتظام. لقد كان عملًا شاقًا –بل حياة شاقة- لكن الآن وهي على وشك تركها لم تعد تراها حياة بغيضة تمامًا. هي على وشك استكشاف حياة أخرى مع فرانك. كان فرانك لطيفًا، رجلًا بحقّ، واسع الصدر. ستذهب معه بعيدًا بسفينةٍ ليليّةٍ لتُصبح زوجته ولتعيش معه في بوينس آيرس حيث يمتلك منزلًا ينتظرها. كم تتذكّر بدقّة المرّة الأولى التي رأته بها، كان يسكن في منزل يقع على الشارع الرئيس حيث اعتادت على زيارته. يبدو ذلك كما لو كان قبل أسابيع. كان يقف عند البوّابة، بقبّعة قبطان ذات حافّة مُدبّبة مُتراجعة على رأسه، وبشعره المُبعثر على مُقدّمة وجهه البرونزي. ثمّ تعرّفا على بعضهما. كان يُقابلها خارج مقرّ عملها كلّ ليلة ويوصلها إلى منزلها. أخذها لتُشاهد أوبرا الفتاة البوهيميّة فشعرت بالبهجة لجلوسها في زاوية غريبة من المسرح برفقته. كان مولّعًا بالموسيقا بشكل فظيع ويغنّي قليلًا. علِم النّاس أنّهما يتبادلان الغزل، وفي كلّ مرّة يغنّي بها المعشوقة التي تحبّ قبطانًا تشعر هي بحيرة مُمتعة. كان يُلقّبها بِـبوبنز على سبيل المرح. في بادئ الأمر كان حصولها على رفيق أمرًا مُشوّقًا وبعدها بدأت تحبّه. كان يمتلك قصص عن بلادٍ بعيدةٍ. بدأ حياته كصبيّ عامل على سطح سفينة مُقابل جنيه شهريًا، والسفينة تابعة لخطوط آلان المُتجهة لكندا. أخبرها عن أسماء السفن التي عمل على متنها، ساردًا خدماته المُختلفة. أبحر عبر مضيق ماجلّان وأخبرها قصص عن قبائل باتاغونيا المروّعين. حكى لها أنّه حطّ بقدميه على أرض بوينس آيرس، عائدًا للبلدة القديمة من أجل الإجازة. بالطّبع، علم والدها بأمر العلاقة ومنعها من الحديث معه. "أعرف طبيعة الشبّان البحّارة" قال لها. ذات يومٍ تشاجر مع فرانك وبعدها كان عليها مُقابلة حبيبها سِرًا. غمر المساء الجادّة كليًا. وازداد بهت بياض الرسالتين في حجرها. واحدة كانت لهاري، الأخرى لوالدها. إرنِست كان المُفضّل لديها لكنّها أحبّت هاري أيضًا. بدا الكِبَرُ على والدها مؤخّرًا، ولاحظت أنّه سيشتاق لها. أحيانًا يمكن أن يكون لطيفًا جدًا. ليس ببعيد، عندما كانت طريحة الفراش ليومٍ كاملٍ، قرأ لها قصّة عن أشباح وحمّص لها خُبزًا على نار المِدفأة. في يومٍ آخر، عندما كانت ما تزال والدتها على قيد الحياة، ذهبوا جميعًا في نزهة على تلّ هوث. تتذكّر والدها وهو يضع قلنسوة والدتها ليُضحك الأطفال. وقتها بدأ ينفذ لكنّها بقيت جالسة عند النافذة، برأسها المحنيّ على ستائر النافذة، مُستنشقة رائحة قماش الكريتون المُغبّر. تستطيع سماع عزف على أرغن الشارع بعيدًا أسفل الجادّة. ميّزت العزف. من الغريب أن يأتِ في هذه الليلة تحديدًا ليُذكّرها بوعدها لوالدتها، وعدها أن تُحافظ على شمل المنزل مجموعًا لأطول فترة ممكنة. تذكّرت آخر ليلةٍ قضتها مع والدتها المريضة، عادت بذكراها مُجددًا إلى تلك الغرفة المغلقة المظلمة في الجانب الآخر من الصالة ومن الخارج سمعت عزف إيطالي كئيب. طُلب من عازف الأرغن الذهاب بعيدًا مع إعطائه ست بنسات. تذكّرت والدها يقول بتكبّر عائدًا إلى غرفة المريضة: "اللعنة على الإيطاليّين! وعلى مجيئهم إلى هنا!" بينما تتأمّل في ذكرياتٍ يرثى لها من حياة والدتها أُلقيت لعنة هذه الذكريات على عُمق كيانها – تلك الحياة المليئة بالتضحيات المُعتادة المُنتهية بجنون نهائيّ. رعشت لسماعها مُجددًا صوت والدتها قائلة باستمرار وثبات أبله: "ديفيران سيران! ديفيران سيران!" وقفت فجأة بدافع رُعب مُفاجئ. الهرب! عليها الهرب! فرانك سيُنقذها. سيُعطيها حياة، وربّما حبّ أيضًا. لكنّها أرادت أن تعيش. لماذا يجب أن تكون تعيسة؟ بل يحقّ لها أن تكون سعيدة. سيحتضنها فرانك بين ذراعيه، ضامًا إيّاها. سينقذها. وقفت بين الحشود المترنّحة في المحطّة على مرفأ نورث وول. أمسك يدها وأدركت أنّه يتحدّث إليها، بشيءٍ عن الرحلة مرارًا وتكرارًا. المحطّة ممتلئة بالجنود مع أمتعة بنيّة. عبر أبواب الأسقف الواسعة لمحت كتلة السفينة السوداء، قائمة بجانب جدار الميناء، بِكوّات مُضيئة. لم تُجب على أيّ شيء. أحسّت بشحوب وبرودة وجنتيها، وبسبب حيرتها في مأزقها؛ دعت الإله كي يُرشدها، ليُريها ما يجب أن تفعله. أطلقت السفينة صفيرًا طويلًا حزينًا اخترق الضباب. إن ذهبت، فغدًا ستكون في البحر مع فرانك، مُتّجهةً إلى بوينس آيريس. تم حجز رحلتهم. هل يمكنها أن تتراجع بعد كلّ ما فعله من أجلها؟ مأزقها أيقظ الغثيان في جسدها وظلّت تُحرّك شفتيها بصلاة صامتة مُتقدة. رنّ جرس في قلبها. شعرت به يُمسك يدها: "تعالي!" كلّ أبحر العالم وقعت على قلبها. كان يسحبها لتغرق فيهم: سيُغرقها. تشبّثت بكلتا يديها بالدرابزين الحديديّ. "تعالي!" لا! لا! لا!هذا مُستحيل. بجنون شدّت قبضة يديها على الحديد بإحكام. ووسط الأبحر أطلقت صرخة مُعاناة! "إيفيلين! إيفي!" أسرع لوراء الحاجز وناداها لتلحق به. نُودي عليه ليتابع طريقه لكنّه استمرّ يُناديها. قابلته بوجهها الشاحب، هامدة، كحيوان لا طاقة له. لم تعطه عيناها أثر لحبّ أو وداع أو تمييز. [نهاية القصّة] العجز والقصور فكرتان هيمنتا على مجموعة جيمس جويس القصصيّة (أهالي دبلن، 1914)، كلّ من الشخصيّات الرئيسة لديها نزاع تعجز في النهاية عن حلّه، عجز يعكس حال مدينة دبلن في بداية القرن العشرين. ما يُميّز قصص جويس هو خلوّها من الحبكة، فيجد القارئ نفسه مُلقًا به في أحداث لا مُقدّمة لها ولا نهاية، ميزة نراها في غالب الكتابات الحداثيّة. لا يحدث الكثير في قصّة إيفيلين، بل نرى أنّ كامل السرد تفجّر لذكريات وأفكار البطلة مع لحظة تجلّ تُنذر بالنهاية، رغم هذا تُعدّ أقوى القصص تعبيرًا عن العجز وعدم القدرة على ترك المدينة. ما وراء القصة: يوجد احتمالان لتفسير القصّة، التفسير المُتداول هو تأثير الديانة الكاثوليكيّة على حياة أصغر فتيات العائلة، حيثُ يُتوقّع منها عدم الزواج وبذل حياتها لرعاية والديها المُسنّين. هذا التأثير يبدو واضحًا في الوعد الذي قدّمته إيفيلين لوالدتها قبل موتها، وفي رمزيّة مارغريت ماري آلاكوك التي طُبعت الوصايا لها بجانب صورة القسّ، مارغريت اختارت تقديم التضحيات الدينيّة المُتمثّلة بالإيذاء الجسديّ لتطهير النفس والعمل الخيريّ والصلاة. لا يُمكن لإيفيلين أن تُكمل حياتها بسبب ذلك الوعد، فتجد نفسها في النهاية عاجزةً غير قادرة على الحديث، كما لو أنّها جُرّدت من الانفعالات الإنسانيّة. التفسير الآخر من وجهة نظري يتعلّق بالمقولة الغامضة التي سمعتها إيفيلين تصدُر من والدتها عند تذكّرها للحظات موتها. "ديريفان سيران!" مُعضلة إلى هذا اليوم، يُقال أنّها سوء استعمال للغة الغاليّة الأيرلندية وتعني نهاية اللذة يوجد الألم أو نهاية الأغنية جنون هائج. على الأرجح تحذير والدتها يعني أنّ نهاية اللحظات السعيدة مع فرانك ألم يترقّب، أيّ بذهاب إيفيلين مع فرانك ستدخل ذات دائرة التضحيات التي أودت بوالدتها إلى الجنون ثمّ الموت. بعد سماعها لهذه المقولة، تتجلّى لإيفيلين رغبتها في الهرب. الهرب إلى فرانك؟ أو من فرانك؟ المراجع: Haslam, S and Hooper, G. (2012). James Joyce, Dubliners: city, theme and period. In: Haslam, S and Asbee, S, ed., The Twentieth Century. Milton Keynes: Bloomsbury and The Open University., pp. 28-29. Joyce, J. (2000). Dubliners. London: Penguin Classics. Tigges, W. (1994). "Derevaun Seraun!": Resignation or Escape? James Joyce Quarterly,32(1), 102-104. Available at: http://www.jstor.org/stable/25473617 [Accessed 18 Aug. 2020].

  • نحن والأنا العليا

    لطالما كانت عقولنا وطريقة عملها وما تحويه من أفكار ومعتقدات ودوافع وأوهام محط اهتمام العلماء والمفكرون. فما الذي يدفعنا إلى فعلٍ أو قولٍ ما ويمنعنا عن آخر؟ حاول عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد الإجابة على الكثير من الأسئلة التي لا بد وأنها راودتنا بطريقةٍ أو بأخرى حول مشاعرنا وأخلاقياتنا وقيمنا المكتسبة. قدّم فرويد في النظرية البنيوية ما يرى أنه تفصيًلا مناسباً لفهم المحركين الأساسيين لعقولنا، وهما الوعي واللاوعي. قامت النظرية على تقسيم العقل إلى الهو (اللاوعي) حيث تكمن الحاجات البيولوجية والدوافع البدائية والغرائز، والأنا العليا (الوعي الجزئي) حيث يكون الضمير وحكمه وتأنيبه بناءًا على ما اكتسبه الفرد من عادات وقيم ومعتقدات، والأنا (الوعي) وهو الجزء المعتدل والممزّق في الآنية ذاته بين بدائية الهو ومثالية الأنا العليا وهو كذلك الجزء الذي يقدم الأنسان في أكثر حالاته توازنًا. يرى فرويد أن تفاعل الثلاثة أجزاء معًا وبتوازن ينتج عنه شخصية الفرد السويّة، فلو كان (الهو) مسيطرًا فستكون النتيجة إنسان بدائي يفعل ما تمليه عليه غرائزه وحاجاته وشهواته ضاربًا بُكل معايير الصواب والخطأ عرض الحائط، ولو كانت (الأنا العليا) في محل السيطرة فسينتج تفكير لا واقعي ولا يمكن تطبيقه أو مواصلة الحياة إتّباعًا له وحده. لقد تعلمت هذه النظرية خلال دراستي الجامعية وبالتحديد في مقرر النقد الأدبي حيث كنا ندرس أحد أهم أعمال فرويد وهو (تفسير الأحلام - The Interpretation of Dreams). على الرغم من أن نظريات فرويد تعرّضت للكثير من النقد بعد وفاته وبغض النظر عن مدى دقة تحليله للنفس البشرية إلا أن النظرية البنيوية علقت في ذاكرتي ولازمتني كلما أردت أن أحلل فعًلا أو قوًلا ما، سواءًا لي أو لغيري. فعلى سبيل المثال، عندما لا أشعر بالرضى عن نفسي خلال اليوم أو عندما أفشل فيما كان من المفترض أن أنجح فيه، كنت أشكي لأختي مبالغةً أنني لم أحظى بلحظة هدوء طوال اليوم لأنني لم أنفك عن سماع الأنا العليا توبّخ وتلعن وتُهين الأنا ليس بالعربية أو الإنجليزية وحسب، بل بعدّة لغات أخرى لم أفهمها بعد. وعندما أسمع عن مراهق اعتدى على غيره وأخذ ما ليس له عنوةً، أفسّر الموضوع على أنه هو نفسه أحد المتضررين ولا أنا عليا لديه وبالتالي لا يعوّل عليه، وهذا لأنه يعيش ظروف معينة أدّت إلى تراخي أو حتى موت أحد أجزاء شخصيته الرئيسة متمثًلا بالأنا العليا. ولكن كيف لي أن أتأكد من أنني متوازنة؟ أو بأن الشخص الذي أمامي كذلك؟ لطالما صعقتني قدرتي وقدرة الآخرين ممن أعرف القليل أو الكثير عن حياتهم الخاصة على التمثيل ولعب الأدوار وخلق ما يشبه الحكاية المثالية لساعة أو ساعتين من الزمن لينجحوا بالوصول للصورة المثالية في دائرة معارفهم الصغيرة وقفص مجتمعهم فـ(الأولاد يعملون وملتزمون، والبنات متفوقات وعلى وجه زواج، و"أبونا" كادح ومحب وأوضاعنا المادية مطمئنة) ففي مثل هذه اللقاءات والمواقف تأخذ الأنا العليا زمام الأمور وتحرص تمام الحرص على إتباع البروتوكولات المتعارف عليها بغض النظر عن صحة الصورة المقدمة للآخرين، فالأهم هنا هو أن نحافظ على الصورة التي فُرضت علينا كالخيار الوحيد المتاح لتكون عليه أحوالنا كعائلة أو كأفراد. على الرغم من أهمّية الأنا العليا في توازن الفرد وإدارة حياته إلا أنها وأحيانًا كثيرة تلعب دور الدكتاتور القامع. فما المانع من اظهاري لحقيقة أن حياتي عكس ما أظهر تمامًا؟ وأن الأسرة مفككة وأفرادها تائهون ومنهكون ولا يجمع بينهم سوى سقف؟ هل الصورة المزعومة أمام الآخرين أهم من علاقتي بأفراد أسرتي وبتصالحي مع ذاتي وواقعي وتقبلي له؟ الأنا العليا هنا تقول نعم فيما الأنا التي يقودها الهو جزئيًا ترى أنه لابد أن يكون هناك صدق كنوع من التصالح والتحرر! هذا الجزء من شخصياتنا متمثًلا بالأنا العليا ليس إلا نتاج سنوات من التلقين المباشر والغير مباشر بأهمية الالتزام بالإطار الاجتماعي المقدس الذي يبرز صورة اجتماعية محددة وينفي ما سِواها. فلا تفسيرًا آخر لمدى حرص الأفراد على الالتزام الخانق بهذا الإطار على حساب أنفسهم وسعادتهم وخلاصهم. هل كان الخوف من كلام الناس أول البذرات التي كوّنت الأنا العليا؟ أم هو التعالي والخوف والاشمئزاز من شفقة الأخرين؟ سأرجح التفسير الأول، فنحن كائنات ضعيفة تحتاج إلى المشاركة والتنفيس والصدق ولو لمجرد ساعات تجابه بها ثقل الحياة وعبثية الوجود وسوء الطقس أحيانًا. حتى أولئك الذين يدّعون كره المشاركة لما يرونه شأنًا شخصيًا يجدون أنفسهم في أحلك الأوقات بحاجة للتجرّد من كل الصور التي سبق ورسموها لمعارفهم وأصدقائهم تعطشًا منهم لمعرفة ما قد يعتقده الطرف الآخر عن معاناتهم أو حقيقتهم ليخففّ من ذعر الوحدة، ورغبةً منهم في هذه اللحظة الآنية ذاتها، بأن تزيح ولو القليل من ثقل الحمل ،بمجرد صياغته في جُمل أو حتى كلمات تصف القليل أو الكثير مما حدث ويحدث وسيحدث. بعيدًا عن إحتمالية ما قد يعترينا من ندم لمجرد الحديث، وبعيدًا عن الخوف من أن نضع أنفسنا في مرمى الأحكام بعد تجربة التجرّد من الزيف، إلا أن الشعور بالانتماء أو الصدق لمجرد أيام أو ساعات أو حتى دقائق يستحق المخاطرة بما نزعم من كبرياء وصلابة. أنا لا أنفي أهمية المحافظة على صورة الفرد المتزن نفسيًا وعقليًا واجتماعيًا فقد شهدت وقد نكون جميعنا شهدنا أو سمعنا ولو بالصدفة التأثير السلبي لما دونها، سواءًا على المستوى الشخصي أو المهني أو الاجتماعي، فقد يُقصى المتجرّد من الصورة الاجتماعية المعتبرة بكلمات مثل"مسكين، شكّاي بكّاي، يحتاج مساعدة" مما يجعل الكثيرين يفضّلون ما هم فيه من صمت خوفًا من الإقصاء. ولكن كبح وقمع رغبة الفرد في أن يكون نفسه معبّرًا عن مشاعره السلبية وأفكاره السوداوية لا ينتج عنه إلا أفراد منهكين من تراكم الحمل وتزايد الحاجة لتخفيفه أو التخلّص منه. قد يلجأ الكثير من الناس لمختلف السبل محاولةً منهم لتخفيف الحِمل والخروج بأقل الخسائر فيما يخص صورتهم الإجتماعية مثل التحدث إلى الغرباء أو اللجوء إلى معالج نفسي أو حتى الاكتفاء بالكتابة، وكل هذه الطرق سعيدة ولا عواقب لها على المدى القصير إلا أنه يوجد طرق أخرى، يلجأ لها من لم تفلح معه الطرق السابقة أو لم يكن مهتمًا بتجربتها، كالتعاطي أو اللجوء لما يمكن أن يخفّف الحمل أو ينهيه. فبمثل هذه الحالات تتجلى لنا قسوتنا مع أنفسنا نتيجةً لما فُرض علينا بصرامة بخصوص ما يجب أن نظهره وما يجب أن نكونه. فمن حق أنفسنا علينا وحق الآخرين علينا أن نعيد النظر في البرواز وصدق ودقة مقاساته لكيلا يُقصي الجزء الأقل جاذبية والأكثر واقعية من الصورة. فعلينا جمعيًا تشجيع أنفسنا أوًلا، وتشجيع الآخرين ثانياً على مشاركة قصصنا ومعاناتنا وكل ما أخفيناه ونخفيه خوفًا من النظرة الدونية لنا أو خوفًا من اتهامنا بالضعف. قد يكون البعض منا محظوظ ولم يعاني ما يتطلب الحديث بدافع التفريغ والراحة وقد يكون بعضنا عانى أو يعاني ممّا يسمح للصمت أن يتمكن به أو يتجاهله، ولكن البعض منا أيضًا لديه ما يُثقل قلبه ويُجفّف روحه. فلنسأل، ونشارك، ونسمع، ونُقدِّر، ونتخفّف.

  • كافكا على الشاطئ:ماذا نتعلم من الرواية السريالية؟

    قد لا يكون من البلاغة أن أبدأ في هذا المقال باعتراف شخصي، لكن علي القول هنا بأن الكلمات تتهاوى مني، وبأنني قد قضيت ساعات طويلة أحدق في أغلفة كُتب موراكامي محاولةً الاصطباغ بجنونه؛ لعلي أكتبُ بداية سريالية تُشبه عوالمه الساحرة، وبرغم ذلك، لم أجد بداية أفضل من الاعتراف بالاستسلام أمام روعة موراكامي. في عوالم هاروكي موراكامي لا وجود للحواجز أو الأسقف؛ فما يكتبه هو بلا شك خارج نطاق القوانين الطبيعية والعلمية التي نعرفها. إذ لا يكترث بإرسال رسائل أخلاقية في رواياته على نحوٍ مبطن، أو حتى بأن يوضح مقصده مباشرةً. هو خبيرًا في خلق العوالم السريالية، تلك العوالم التي تمتزج فيها الأحلام بالواقع لدرجة أنهما لا يظهران كشيئين منفصلين أساسًا. عوالم يصبح فيها وعينا وفهمنا للحياة مجرد إيجاز. إن قراءة رواية كافكا على الشاطئ تجربة سريالية بالمعنى الحقيقي والمطلق، ولأن هذا النوع من الروايات يصعٌب تعريفه - وحتى محاولة تلخيص هذهِ الرواية وتحليلها قد تبدو كاستعراضٍ طائش- سأعتبر هذهِ المقالة نظرة مختصرة على فلسفة روايته «كافكا على الشاطئ»، ومحاولة لتحليل بعضًا من رموزها وألغازها. ولأني أؤمن بأن أقرب شيء يمكنني فعله للحصول على إجابات للأسئلة التي يثيرها موراكامي تكمن في طرح المزيد منها، سأبذل قصارى جهدي لأضع كل انعكاساتي للرواية، فهي واحدة من أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق، إنها ملحمة فلسفية عميقة وأعتقد أن الإنترنت بحاجة إلى المزيد من المراجعات حولها. وهذهِ هي محاولتي المطولة والمتعمقة لفهم فلسفتها. * المقالة تحتوي على تفاصيل أحداث الرواية. الشخصية الرئيسة الأولى في الرواية هي كافكا؛ الصبي الذي يبلغ من العمر 15 عامًا. وكأي مُراهق، أبرز صراعات كافكا هي أزمة الهوية. ففي الفصول الأولى نرى كافكا وكأنه يتحدث مع "صبي يدعى الغراب" الذي قد يكون رمزًا لشخصيته البديلة (Alter ego). يتمنى كافكا أن يعيش تحت جلد وحمض نووي مختلف وأن يتحول لشخص آخر تمامًا: "يمكنني أن أبذل قصارى جهدي لعدم السماح لأي عواطف بالظهور، ومنع عيني من الكشف عن أي شيء، وتضخيم عضلاتي، ولكن ليس هناك الكثير مما يمكنني فعله بشأن مظهري. أنا عالق مع حواجب والدي الطويلة الكثيفة والخطوط العميقة بينهما. ربما يمكنني قتله إذا أردت ذلك - أنا بالتأكيد قوي بما يكفي لفعلها- ويمكنني محو أمي من ذاكرتي. لكن لا توجد طريقة لمحو الحمض النووي الذي نقلوه إلي. إذا كنت أريد أن أذهب بعيدًا، فعلي أن أتخلص مني". يعيش كافكا مع أبيه، بعد أن تركتهما والدته مصطحبة شقيقته الكبرى معها، حيث يسمع كافكا عن النبوءة (التكهن) التي تقول بأنه سيقتل أباه وينام مع أمه ومن ثم أخته. وبدافع الخوف والصدمة، يهرب كافكا من المنزل مُعتقدًا أنه يستطيع الهرب من مصيره أيضًا. الشخصية الثانية هي ناكاتا؛ رجلًا عجوز يمتلك تفكيرًا محدودًا بعض الشيء بسبب تعرضه لحادثِ طفولة غامض حرمه من القدرة على القراءة والكتابة ومنحه بدلاً من ذلك هِبة التحدث إلى القطط! يعيش ناكاتا حياة مسالمة، دون أن يأبى بماضيه ومستقبله. يبدو ناكاتا كشخص دون ملامح أو هوية واضحة؛ إنه فارغ من الداخل وحياته عبارة عن سلسلة من قوائم الأعمال؛ فهو يبحث بلا غايةً أو هدف عن قطط الآخرين لملء أيامه. هو يبحث عن أشياء لا يفهمها. الإرادة الحرة وأسطورة أوديب: أي شخص على دراية بقصة أسطورة أوديب سيرى التشابه بين قصتي كافكا على الشاطئ وأسطورة أوديب، فكلاهما يثيران أسئلة حول الإرادة الحرة وإمكانية الهرب من المصير. فمثل حال والد كافكا، يسمع الملك لايوس من عرافة بنبوءة تخبره عن إنجابه لولدٍ سيكبر لاحقًا ليقتلهُ ويتزوج من أمه. وبعد فترة من سماعه لهذهِ النبوءة، تحمل زوجة الملك لايوس، وفور ولادتها بطفلها يُعطي الملك الطفل لحارسه لكي يقتله، فيأخذه الحارس إلى الجبل وهو مقيدًا بالأغلال من قدميه (وهذا سر تسميته بأوديب التي تعني باليونانية المصفد بالأغلال)، ولكن بدلًا من قتله؛ يقرر الحارس أن يترك أوديب حياً مع راعٍ يقابله في طريقه. ينجو أوديب من الموت، ويكبر ليعرف هو الآخر عن النبوءة ويعزم أن يهرب منها. ومن خلال هروبه وتصميمه على عدم تحقيق قدره نرى كيف أن جميع جهوده لتخطي القدر هي الأشياء التي تُحققه وتأخذه إليه. فقد قادته كل جهوده إلى مسارًا واحد وهو مصيره. إذ يقتل شخصًا مجهولًا له للدفاع عن نفسه دون أن يعلم أنه أبيه، ويتزوج بعدها من والدته. وعندما يعلم أوديب لاحقًا أن النبوءة قد تحققت وأنه لم يستطع الهرب من مصيره، تطغى عليه مشاعر الخزي والعار ويأخذ دبابيس زوجته/ أمه ويضعها في عينيه ليُعمي بصره. "باسم الآلهة، أخفوني في مكان ما بعيدا عن هنا. اقتلوني، اقذفوا بي في البحر، أو على الأقل في أي مكان يحجبني عن الأنظار إلى الأبد. أقبلوا، تكرموا بلمس تعيس، بئيس. آه! صدقوني، لا تخافوا، إن مصائبي لا يمكن لأحد حملها عني" لأن الحتمية تُذكرنا بغياب المصادفات، وأن كل شيء وُجد وخُلق لسبب ما، وأننا جميعاً نمتلك مصيرًا واحدًا قد كُتب مُسبقًا ولا يمكننا تغييره، فإن أوديب وكافكا يشكلان رموزًا للأشخاص الذين حاولوا الهرب من القدر وتغيير مصيرهم، إنهم رموز تدل على تفوق نظرية الحتمية وإنكار وجود الإرادة الحرة. فمن وجهة نظر حتمية، كلٌ من وعينا اللامحدود، والأشياء التي نتفاعل معها، والأمنيات التي نتمنى أن نحققها ما هي إلا حُلم. حلم العيش بحياة حُرة، بلا قيود، بينما لا نستطيع تجاوز كوننا مجرد آلات تُثرثر دون هدى. عندما يهرب كافكا من منزله، تقوده الطرق إلى مكتبة يعمل فيها رجلًا يدعى أوشيما- في وقت لاحق نعرف أنه متحول جنسيًا- ويأذن له بأن يُقيم فيها. في الرواية تُوصف المكتبة وكأنها جنة من جنات عدن، مكانًا يتيح لكافكا أن يتعلم ويبعث في روحه السلام. المكتبة التي يُقيم فيها كافكا تعود إلى الآنسة سايكي، وهي امرأة نحيفة في منتصف الأربعينيات من عمرها. امرأة من المحتمل أن تكون أم كافكا. بوتيرة بطيئة، نرى كيف لحُزن عينيها، ولأحاديثها، وتحركاتها ولهالتها المجردة أن تسقط بثقلٍ على روح كافكا التائهة، ليشعر كافكا بشيء نحوها؛ شيئًا عميق مثل الارتباط والصلة، أو لعل سايكي لمست ذكرى قديمة لحياة قد سبق لكافكا أن عاشها. يقضي كافكا أيامه في المكتبة يقرأ ويتأمل الحياة ولوهلة يُخيل له أنه وجد السلام الداخلي، وأن أكثر هواجسه رعبًا لا يمكن لها أن تتحقق، على الأقل ليس هنا في هذهِ المكتبة الهادئة. يُخيل لهُ أيضًا أنه الوحيد المُتحكم بكل الأفعال التي تخرج من جسده، ولأن هذا نسبيًا صحيح؛ يصبح ناكاتا (الشخصية ذات الروح الخاوية) الشخص الذي يحقق النبوءة الأولى عوضًا عنه، حيث تقوده الطرق إلى قتل والد كافكا، المتجسد في جسد جوني ووكر. وبالرغم من أن جسد كافكا لم ينزح من مكانه إلا أنه يستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه مغطى بالدماء بالقرب من الضريح. وبعد وقتًا قصير من مقتل والد كافكا -المتجسد في جوني ووكر -، تُمطر السماء سمك السردين، وهو حادث قد تنبأ به ناكاتا قبل حدوثه. ولكي نفهم فلسفة وإسقاطات الرواية، فمن المهم ألا نتغاضى عن قراءة وتحليل هذا الحادث الغريب. ما المعنى خلف حادثة مطر سمك السردين؟ يُكرر موراكامي خلال الرواية جُملة :"إن كل شيء عبارة عن استعارة"، وهذا قد يكون أحد مفاتيح فهم الرواية، وبالتالي أرى أن حادثة مطر سمك السردين هي استعارة تشير إلى اختلال توازن الكون وفقدهِ لبعضٍ من قوانينه الفيزيائية عندما قُتل والد كافكا على يد ناكاتا بدلاً من كافكا نفسه. إن الكون في الرواية يملك نسخة واحدة من القدر، وليس باستطاعته تحمل نسخ مختلفة، ولذلك, فأي خللٍ يظهر أثناء سير الأحداث المكتوبة مُسبقًا سيؤدي إلى حدوث كوارث وتغيرات لا منطقية؛ كأن تُمطر السماء سمك السردين! أعتقدَ كافكا أن بإمكانه أن يسجن نفسه في مكتبة صغيرة ليمنع القدر من الحدوث، إلا أن ذلك لم يغير سير الأحداث تمامًا، فنرى في الرواية كيف أن كافكا يستيقيظ بعد مقتل أباه بشعورٍ من الندم والخوف والعار، كما لو أنهُ قد قتل والده فعلًا. ذلك لأن قدر كافكا كان مُحتمًا، ورغبته المدفونة لقتل أبيه لم تكن بوسعها أن تُسجن، وهكذا نرى كيف أن القدر والرغبة تجسدا بداخل روح ناكاتا الفارغة وقاداه لقتل الأب وتحقيق القدر. هل الإرادة الحرة وهم؟ وهل هذا ما يحاول موراكامي قوله؟ إن الطريقة الوحيدة لفهم رواية كافكا على الشاطئ تكمن في قراءتها من وجهة نظر فلسفية، ذلك لأن النظرية التي تتناولها أحداث القصة هي الحتمية وإنكار وجود الإرادة الحرة. الحتمية تقول لنا أن كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك المرء وتصرفاته خاضع لتسلسلًا مُحدد سلفًا من ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث الذي يؤدي بعضها إلى بعض وفق لقوانين محددة. يؤمن البعض بأن هذه القوانين هي قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات. لذلك فمن وجهة نظر حتمية نحن لا نملك القدرة على تغيير مسار حياتنا. لو قرأنا الرواية من زاوية النظرية الحتمية، فهل الإيمان بالحتمية يُخلص ويُحرر كافكا من عواقب خطاياه كونه لم يملك أي خيار لتغيير قدره؟ ربما، ولكن لماذا إذًا يشعر كافكا بالذنب عند معرفته بمقتل أبيه على الرغم من أنه لم يكن القاتل؟ وإذا افترضنا أن حياتنا حقًا محددة مسبقًا ولا يمكننا تغييرها، فما المعنى خلف خوضنا لهذهِ الحياة؟ وكيف يُفترض علينا أن نتحمل مسؤوليات وعواقب خياراتنا وأفعالنا؟ ولماذا لا نتخذ الإجراء الوحيد الذي يخلصنا من لعنة الحتمية وهو الانتحار؟ في البداية يختبر كافكا الحياة من خلال العبارات والصور، كلحظة سرد الغراب لمصير حياته:"سوف تقتل والدك، وتنتهك عرض أمك وأختك.” وبكل غضب يندب حظه، ويكره ماهيته وقدره. بعد ذلك يقرر أن يوقف هذه النسخة من الحدوث عن طريق حبس نفسه في المكتبة. ولكن في أحلامه أو ربما في وعيّه، يُحقق كافكا هذهِ اللعنة بطريقة أو بأخرى. إن كافكا يعيش بداخل عاصفة لا تهب من بعيد؛ إنما واحدة تعصف بداخله: “القدر أحياناً يشبه العاصفة الرملية الصغيرة التي لا تنفك تغيير اتجاهاتها بينما تُغيّر اتجاهاتك، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيف وتتبعك. تلعب معها هكذا مراراً وتكراراً، كرقصة مشؤومة مع الموت في الفجر. لماذا؟ لأن هذه العاصفة ليست شيئاً يهب فجأة من بعيد، ليست شيئاً لا يمت لك بصلة، إنها أنت. إنها شيء ما في داخلك. وكل ما عليك فعله هو أن تستسلم لها. ادخل نحوها مباشرةً. أغمض عينيك، وسد أذنيك حتى لا تتسلل الرمال إليهما، وسِر في العاصفة، خطوة بعد خطوة. ليس من شمس هناك، ولا قمر، ولا اتجاهات، ولا إحساس بالزمن. فقط دوامة من الرمال البيضاء الناعمة تصعد إلى السماء كعظامِ مطحونة، هذه هي العاصفة التي عليك أن تتخيلها. وعليك أن تنجو من وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية، بغض النظر عن مدى ميتافيزيقيتها أو رمزيتها. الخطأ ممنوع: ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الأنصال. وسينزف الناس هناك، وستنزف أنت أيضًا، ستنزفون جميعاً دماً أحمرًا ساخنًا. وستتلقف أنت هذا الدم بيديك: دمك، ودم الآخرين. ولحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقنًا من أمر واحد فقط: أنك حين تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص ذاته.” يدرك كافكا أن نظرته المجردة إلى الكون والوجود ليست سوى حلم. حلم يختبره بوعي ومن دونه أحيانًا. وأن كل رغباته، وخطاياه، وفضائله، وسِماته الموروثة، ومهاراته المكتسبة، حتى كل ما يحبه وما يكرهه ما هم إلا حلم أيضًا. ومع أنه لم يختر هذا الحلم ولا الجسد الذي هو فيه، إلا أنه ما يزال مسؤولا عن كل ذنوب هذا الجسد حتى قبيل ارتكابها. وإن الاختباء في مكتبة أو حتى في أبعد نقطة في نهاية الأرض لن يُمكنه من محو المصير المكتوب في عروقه. في الرواية، يقتبس أوشيما قصيدة للشاعر الأميركي ويليام بتلر ييتس: "تبدأ مسؤوليتنا عند القدرة على التخيل. كما قال ييتس: "في الأحلام تبدأ المسؤولية"، فكر بهذا جيدًا وبعدها يمكنك القول أن في حال عدم وجود قوة للتخيل، لا يمكن أن تنشأ المسؤولية" المقصود هنا أن عدم تذكر أو عدم معرفة ما إذا كان كافكا قد قتل والده بالفعل من خلال ناكاتا أم لا، لا يهم إطلٍاقٍا. فذلك، لا يمنحه أي خلاصٍ أو إعفاء، لأن كافكا قبل أي شيء، مسؤولًا عن نفسه، وعن الجسد الذي ولد به وعن كُل العواقب والمسؤوليات الناتجة من احتواء هذا الجسد (المصير المقرر له) ولا توجد فروق بين ما رغب به كافكا وما آلت إليه الأمور. يحاول موراكامي هنا تغيير أو ربما أيضًا تحرير تعريفنا لمفهوم الأخلاق عن طريق مزج الأفعال التي نقرر أن نتخذها والنوايا والرغبات التي نتمنى أن نفعلها أو أن تحصل لنا؛ ففي رواية كافكا على الشاطئ، نرى أن كافكا قد نجح بالإفلات "جسديًا" من مصيره، إلا أن جزءًا صغيرًا بداخله لا يزال يتمنى قتل أباه، الأب الذي رمى عليه هذهِ اللعنة. ومن أجل وجود هذهِ الرغبة بداخله نراه يشعر بثقل مسؤولية جريمة لم يرتكبها. عن إعادة بناء الذات وثقل الوقت: "إن الحاضر المحض هو تقدم لا يمكن إدراكه للماضي الذي يلتهم المستقبل. في الحقيقة، كل إحساس نشعر به هو ذكرى مُسبقة.” - هنري برغسون. لقد حدثت اللعنة الأولى من خلال ناكاتا، أما الثانية فهي على قائمة الانتظار. أثناء سكن كافكا في المكتبة، يظهر شبح سايكي وهي في عمر الخامسة عشرة لكافكا كُل ليلة. إذ تجمدت روح سايكي بهذا العمر عندما كانت غارقة في الحُب، الحب الذي تحطم عندما انتقل حبيبها إلى طوكيو وتوفي هناك جراء حادث. ولأنها لم تقدر على تجاوز الحزن، تُمضي سايكي بقية أيامها كما لو كانت ميتة. روحها الحيّة - الشبح - تغادر جسدها كل ليلة لتعود إلى الغرفة التي كانت لحبيبها لتنظر إلى صورته المعلقة على حائط الغرفة حيث ينام كافكا. عندما يرى كافكا شبح سايكي لأول مرة، يُحدق نحوها مُطولًا، ويدرس ملامحها، وجمالها الشاحب، وجسدها الساحر. شبح سايكي يبدو وكأنه فاقدًا للوعي. تنظر نحوه سايكي أحيانًا، لكن نظراتها تتخطى إلى ما هو وراءه. يتظاهر كافكا بالنوم فقط لمواصلة النظر إليها بينما تجلس هي على مكتب غرفة النوم. "يجب أن تكون شبح. بادئ ذي بدء، إنها جميلة للغاية. وذات ملامح رائعة. ليس هذا فقط. إنها مثالية للغاية وأنا أعلم أنها لا يمكن أن تكون حقيقية. إنها مثل شخص خرج مباشرة من حلمً ما. إن نقاء جمالها يمنحني شعورًا قريبًا من الحزن - وهو شعور طبيعي جدًا، أنه نوع الشعور الذي يمكن أن يثيره شيء غير عادي إطلاقًا." قد وجد شبح سايكي طريقًا إلى قلب كافكا، وأثار الحزن بداخله. فهي لم تكن شيئًا جديدًا بالنسبة له؛ إنها ذاكرة محذوفة كان يحملها مرة وهي تخطو نحوه وتصب في روحة مثل رؤيا سابقة، أو مثل الدي جا فو. ولهذا الشبح وزنًا ثقيلًا ومثير، ورفضهُ لها لم يعد خيارًا، يتخطى كافكا حدوده ويستسلم لمصيره ويقبله. ذلك لأن هروبه الأول قاده إلى ما كان يخاف منه، وحتى هذا الهروب الذي لم يكن مصادفة، بل إنه مصير محدد مسبقاً ولا يمكن تغييره. إن جميع الأشياء كانت مكتوبة قبل أن يتواجد كافكا بوقتٍ طويل. وهو لم يعد قادرًا على الاختيار بعد الآن فقد سبق له أن اختار من قبل ربما في حياة سابقة أو في منامه، أو حتى في جسدٍ (حاوية) آخر. السبب الوحيد لوجوده الحالي هو لمعرفة سبب اختياراته. ماضيه المؤرّق وهويته المليئة بالخطايا تزول بمجرد مواجهة كافكا لمخاوفه. الغوص بالكامل في الأعمال الأكثر سوداوية أعطاه حريته وخلاصه، وفقدان السيطرة كان طريقه الوحيد نحو الحرية المطلقة. "الوقت يدفعك للأسفل مثل الحلم القديم والغامض. أنت تواصل التحرك، وتحاول النوم متجاوزًا إياه. ولكن حتى لو ذهبت إلى نهاية الأرض، فلن تتمكن من الهروب منه. ومع ذلك، يجب عليك أن تكون متأهلًا لتذهب إلى حافة العالم. هناك شيء لا يمكنك فعله ما لم تصل إلى هناك." الإسقاطات الرمزية والألغاز واللاجدوى: في الرواية يستخدم موراكامي الكثير من الإسقاطات ضمنيًا، وفي بعض الأحيان مباشرةً. من خلال الشخصيات؛ يكتب موراكامي أن أجسادنا عبارة عن حاويات لشيئًا أكبر يُسمى بالأرواح، وأن علينا النظر نحو الجسد والروح كشيئين مختلفين. يدانا، وأعيننا، والدم الذي يجري في عروقنا، وكل الملامح الموروثة ما هي إلا غلاف خارجي. يعبر أكثر عن ذلك من خلال أوشيما في أحد فصول الرواية: "لو أننا عكسنا الغلاف الخارجي والجوهر ستكون الحياة أكثر سهولة للفهم" يطلب مِنا موراكامي أن ننكر كل الحدود والتعاريف التي تُحاصر أذهاننا وأحكامنا؛ فإن سايكي التي نظنها أم كافكا، قد تكون أمه فعلًا أو ربما قد تكون روحًا عابرة بداخل غلاف خارجي مختلف. وبالمقابل، كافكا قد يكون ابنها، أو قد يكون تجسيدًا لعشيقها! إنها خُدعة رمزية. ففي الرواية لا يوجد دليلًا لكون سايكي والدة كافكا، لكننا نعتقد أنها كذلك وهذا ما يُشعرنا بالتقزز من علاقتهما لكن عندما نختار أن ننسى كونها والدته، تختفي هذه المشاعر! موراكامي يتعمد في الرواية ألا يعطينا أي دليل يؤكد ما إذا كانت سايكي والدة كافكا أم لا. جرب أن تنسى جسد (حاوية) سايكي والأفكار المسبقة عن علاقتها بكافكا. لنُبقي أرواحهما فقط، مساحة بلا أوعية، أمازال من الخطأ أن يُقيم كافكا علاقة مع سايكي؟ إذا كان الجواب لا، فهل تتعارض أخلاقنا مفهوم مع الزمان والمكان والمعرفة؟ بمعنى آخر، لنتخيل ماذا لو أن أرواحنا تحررت من هذا الوقت، ومن منطلق معرفتنا الضحلة، ومن هذه الحاوية التي لم نخترها، هل ستظل أرواحنا مُلزمة بإتباع نفس القيم والأخلاق الأساسية التي نتبعها الآن؟ وما مقدار ما نعرفه حقًا عن الوقت والأرواح؟ "إن كل شئ ماهو إلا رمز" من خلال هذه الطريقة (استخدام الغموض حول علاقة كافكا بوالدته وأخته) يكسر موراكامي جميع القواعد التي نعتقد أننا نعرفها عن الأخلاق. ذلك لأن الرموز الأخلاقية غير موجودة في الرواية، أنه يخلق مكانًا للاستعارات ونحن نمر بها بوعي ودون وعي أيضًا، مكانًا يطفو فيه الوقت والذكريات والأحلام والواقع تحت نفس السطح بطريقة تجعلك تعزل نفسك عما تعلمته مُسبقًا، بل حتى التطرف عليه وإنكاره تمامًا، ففي نهاية المطاف ما هو الحق واليقين فعلًا؟ وما هي الصورة المثالية؟ ومن صنعها؟ موراكامي يجعلنا نبدو مثل الروبوتات التي مُلئت وتعتقد أنها تعرف كل شيء ليأتي آخذًا الدليل اليدوي الذي امتلأنا به ويمزقه أمامنا، وعلى الأرجح أنه يستمتع بذلك.. نستطيع أيضًا أن نرى الرمزية في شخصية ناكاتا؛ فهو يبدو لنا كشخصية فارغة وجوفاء. يكاد يبدو بلا ملامح، إنه مثل الوعاء أو الحاوية التي تُمثل بحث كافكا عن هويته الحقيقية وتجسد صراع كافكا أيضًا. هذهِ بعض الألغاز الأخرى التي أظن أني فككتها في الرواية: عندما يُقابل ناكاتا والد كافكا -جوني والكر- يتناقشان حول العملية الأوتوماتيكية للحركة، تلك التي لا تتزعزع ولا هوادة فيها ويمكن أن تستهلك كل شيء بمجرد ترسيخها. وفي فصولًا لاحقة، يقرأ كافكا سيرة آدولف أيخمان وهو مجرم الحرب النازي الذي صمم الحل النهائي للقضاء على اليهود. يقرأ كافكا أنه في محاكمته، لم يستطع أيخمان معرفة سبب مُحاكمته وأنه كان مجرد فني وجد الحل الأكفأ للمشكلة التي كٌلف بها! أيخمان كان يحرق اليهود كعملية أوتوماتيكية دون تفكير. أيضًا، جوني والكر اسم لشركة خمور، وشعارها "سوف يأخذك الفرح إلى أبعد من ذلك. واصل السير - Joy Will Take You Further. Keep Walking" ناكاتا يخسر القدرة على التحدث مع القطط بعدما يخسر كافكا عُذريته. بدا لي أن ناكاتا يلاحق سايكي لإرسالها إلى العالم الآخر، ولكن قبل ذلك تطلب منه سايكي أن يحرق يومياتها. فنراها لاحقًا في العالم الآخر تقول إنها تفقد ذكرياتها الماضية تدريجيًا. هل هذهِ استعارة على حرق يومياتها؟ هل ما نفعله في هذه الحياة سيكون له تبِعات في العالم الآخر؟ بعدما يخسر ناكاتا قدرته على التحدث مع القطط، تتجه القطط إلى هوشينو. وفي ذلك استعارة لانتقال روح ناكاتا إلى هوشينو. أوشيما هو متحول جنسي، وفي مسرحية أوديب شخصية تُدعى ب (تيريسياس) وهو معروف لكونه مُستبصرًا للقدر وهو أيضًا قد تحول إلى امرأة لمدة سبع سنوات. تيريسياس كان الرائي الأعمى الذي عرف لعنة أوديب وأجبره على مواجهة حقيقة هويته. وفي المقابل، أوشيما لا يشبه تيريسياس في التحول الجنسي فحسب، بل إنه أيضًا الشخص الذي يقدم لكافكا مكانًا في مكتبة سايكي مما يجعله أقرب إلى تحقيق النبوءة. كافكا يختار لنفسه هذا الاسم، نحن لا نعرف اسمه الحقيقي. وكافكا تعني "الغُراب". بينما شخصيته الآلتر ايغو تُسمى بالـ"الفتى الذي يُدعى بالغُراب”. يبدو أن للدم رمزيةً ما في الرواية؛ ففي بداية الرواية، يقول الغُراب "سوف تنزف أيضًا، دمًا ساخناً وأحمر. وسوف تأخذ هذا الدم من يديك، ودماء الآخرون". ثم نرى في نهاية الرواية كافكا يلعق دم سايكي: "دمها ينزل في أعماق حلقي.إنني أمتصه بهدوء نحو الطبقة الخارجية الجافة في قلبي. الآن فقط أفهم كم كنت أريد هذا الدم " والد كافكا هو رسام وأحد أشهر أعماله هي المتاهة (The Labyrinth)، وهذهِ استعارة للمتاهة الإغريقية. وهي متاهة متقنة أُجبر ثيسيوس على التنقل فيها لقتل وحش مينوتور المختبئ في أعماقها. في الرواية يشرح أوشيما أصل مفهوم المتاهة لكافكا: "سكان بلاد ما بين النهرين القدامى كانوا يُخرجون أمعاء الحيوانات – وأحيانًا أمعاء البشر، كما أظن- ويستخدمونها للتنبؤ بالمستقبل. لقد كانوا مُعجبين بالتكوين المعقد للأمعاء، ولهذا فإن أساس كلمة المتاهة، هو كلمة الأمعاء. مما يعني أن مبدأ المتاهة بداخلك، ويتداخل هذا مع المتاهة الخارجية". حقيقةً، لم أستطع التفكير في رمزٍ أفضل للحياة من المتاهة؛ إن الحياة حقًا متاهة عظيمة والوحش الموجود فيها يُمثل الكثير من مخاوفنا وآمالنا وخطايانا. وأن الطريقة الوحيدة لإعادة بناء هويتنا تستند على من نكون، كما قال أوشيما: الحياة بداخلنا نحن. إن السعي إلى أن نكون وأن نحلم وأن نخطئ إنما هي مسارات ضرورية وقسريّة في الحياة. ومعنى الحياة يوجد في اللحظات التي نشعر فيها بالوضوح المُطلق لمسارنا، وبتجلي الأشياء أمامنا، وأخيرًا في المغفرة التي نُقدمها لأنفسنا. مغفرة كافكا لأمه أعطاه هذا النوع من الوضوح والسلام الداخلي. أن نترك الأشياء تعبرنا بِسلام، وأن نؤمن أن كُل شيء في نهاية المطاف سوف يأخذ مساره الصحيح وأنُه لا سبيل لتغيير ذلك هو الطريق الأسلم لتحريرنا وتخليصنا من الشعور الدائم بالذنب. إن رواية كافكا على الشاطئ تُعلَمنا أن اختيار الحياة دومًا والاستيقاظ على حقيقتها هي الشجاعة المحضة. "عندما تستيقظ، ستكون حتمًا، جزءًا من عالم جديد تمامًا."

  • العلم خلف الأعمال اليابانية: آكيرا

    دراسة تحليلية للعلوم الطبيعية الملهمة للقصص اليابانية العصرية. إن الأعمال اليابانية الثقيلة، سواء كانت أفلام أو رسوم متحركة أو قصص مصورة، هي التي لا تزال راسخة في ذاكرتي, ولا أقصد بذلك الأعمال التي تعتمد اعتمادًا كاملاً على المواقف والحوارات الاجتماعية المعتادة. عندما أسمي هذا النوع من الأعمال "ثقيلة"، فأنا هنا لا أخترع مصطلحًا جديدًا، فالكثير من الأعمال الفنية تجاوزت مواضيعها مقاعد ودور السينما واجتاحت أحاديث الأكاديميين والعلماء، ذلك لأن المعلومات التي تحتويها قد تساوي محاضرة علمية طويلة أو حتى كتاب فيزيائي مرجعي! من أجمل مايميز هذهِ الأعمال هي الطريقة التي تُستخدم فيها العلوم بطريقة أشبه بما يسمى بالتعليم الممتع (Fun Learning)؛ فهي تضع المعلومات بين أحداث القصة وشخصياتها بشكلٍ مبدع دون اللجوء لحشو المعلومات بطريقة مبتذلة، لتشكل بذلك عملًا روائيًا فنيًا بحتًا. لعل من أنجح هذهِ الأعمال هو فيلم آكيرا الياباني (1988): وهو من إخراج وتأليف كاتسوهيرو أوتومو، وهو ايضًا صاحب القصص المصورة (مانقا) لآكيرا، التي كانت من رسمه وتأليفه واصدرها سنة (1982) وتدور أحداث الفيلم في مستقبل طوكيو، بالتحديد في عام 2019، بعدما دمرتها الحرب العالمية الثالثة. آكيرا، 1982: آكيرا هي من أشهر قصص الخيال المستقبلي والمابعد كارثي اليابانية وتعتبر السلسلة مرجعًا فنياً ومصدر إلهام للكثير من الأعمال اليابانية المشهورة مثل: سلسلة (Ghost in the Shell) و (Battle Angel Alita) و (Cowboy Bebop) وحظيت القصص المصورة لآكيرا على فيلم رسوم متحركة عام 1988 وحقق ضجة في العالم أجمع. بالطبع، كان لابد وأن يتم اقتصاص بعض من تفاصيل القصة لتتناسب مع طبيعة الفيلم القصيرة، وتم تغيير بعض الأمور كالسنوات وبعض التفاصيل الأخرى، لكن لم يختلف مضمون القصة في الفيلم عن مصدرها الأساسي. فكاتب القصص المصورة هو أيضًا كاتب الفيلم. ولهذا سوف نتخذ من الفيلم مصدراً لمعلوماتنا في هذه المقالة. * المقالة تحتوي على حرق لأحداث القصة. القصة من منظور سطحي تبدأ القصة بإنفجار عظيم يدمر معظم أجزاء مدينة طوكيو في عام 1988، تبدأ بعدها الحرب العالمية الثالثة التي حتمت الدمار على جميع العالم، ومن ثم يأخذنا الفيلم لما بعد ذلك بواحد وثلاثين عامًا لنرى مستقبل الكارثة بعيون كانيدا وأصحابه المتهورين سائقي الدراجات النارية في المدينة الجديدة نيو-طوكيو (Neo-Tokyo) وتأخذنا المطاردة الرشيقة لمصير محتم لصديقه تيتسيو حيث يصطدم بطفل عجوز ذو قوى خارقة للطبيعة (Psychic Powers) ونتيجة لذلك، تستيقظ القوى الخارقة الخاصة بتيتسيو، و التي من شأنها لفت نظر منظمة حكومية سرية، فيقومون بأخذه لمعاملهم السرية لإجراء الإختبارات عليه. مدينة نيو-طوكيو تصبح مكانًا يعج بالفوضى والعصابات الإرهابية -أو الإصلاحية من نظرهم- التي تنوي إطاحة النظام الحكومي الفاسد، بالإضافة إلى الجماعات الدينية التي تنذر بظهور الـآكيرا المنتظر الذي سيكون سبباً في خلاص المدينة من الظلم والفوضى. يتبين لنا من خلال القصة أن تيتسيو لطالما شعر بالدونية والضعف مقارنة بأصحابه الآخرين وبالتالي تُأجج هذه المشاعر لديه حب السلطة وربما الانتقام أيضًا. قوى تيتسيو الخارقة تبدأ بالتطور رغم العقاقير المستخدمة للسيطرة عليه، فيبدو للعلماء أنها أشبه بقوى تجربة سابقة قاموا بها على شخص يدعى بـآكيرا ومن هنا يبدأ الأطفال العجائز بمحاولة القضاء على تيتسيو لكنهم يفشلون في ذلك، لضعفهم مقارنة بقواه الخارقة فينتقلون لمحاولة مجاراته بالمنطق بقول: "بشر مثلك لا يتوجب عليه إمتلاك قوى خارقة كهذه! يجب علينا إيقافك قبل أن يحدث شيئا فظيعاً! يجب ألا تصبح بقوة آكيرا" للأسف هذه الجملة لم تجدي نفعًا معه، فهنالك قوى أكبر منه تُأجج النار بداخله. يهرب تيتسيو للبحث عن الآكيرا، وتصبح نيو- طوكيو تحت رحمته. يتبين لنا بعد ذلك أن الأطفال العجائز ليسوا سوى عينات تجارب —تحت سيطرة العقاقير- للمنظومة الحكومية السرية التي تريد أن تستحوذ على سلاح فتاك لإستخدامه في الحرب وأن آكيرا هو عينة تجربة سابقة، وبعد أن خرجت قوته عن السيطرة تسببت بالإنفجار الذي دمر طوكيو مسبقًا. يجد تيتسيو مقر آكيرا، ولا يجد سوى أجزاء متبقية من جسده احتفظت بها المنظمة لإجراء الإختبارات عليها. يشتد غضب تيتسيو ويفقد السيطرة على قواه التي تبدو أنها بحاجة للعقاقير لتهدئتها. يقوم تيتسيو بالتوسل للحصول على العقاقير لكن القوى تخرج عن سيطرته بالكامل ويضعف جسده أمام احتواء هذه القوة، يهاجم بعدها تيتسيو كل من يقف في طريقه بينما يكبر حجم جسده ويتغير شكله إلى طفل كبير، ومن ثم لكتلة لحم أشبه بجرثومة عملاقة تبتلع كل شيء حتى أصحابه! أثناء تحوله لقنبلة موقوتة قادرة على تدمير نيو-طوكيو بأكملها، يجتمع الأطفال العجائز ويوحدون قواهم لنداء زميلهم آكيرا من خلال أجزائه المتبقية لينقذ نيو-طوكيو ويبتلع القنبلة الموقوتة، تيتسيو. البعد الأعمق للقصة إن العمل يتمحور حول المصير الديستوبي (الكارثي) للمستقبل، و من الغريب أن الكاتب تنبأ بتبني طوكيو للألعاب الأولمبية لعام 2020 و بإلغائها أيضاً. لكن لحسن الحظ يعود سبب الإلغاء لوباء كورونا بدلَا من قنبلة نووية. علم الاجتماع العالَم المستقبلي من نظر الكاتب مشع بإضاءة النيون التي تملأ المدينة بأحدث الصناعات التكنولوجية العصرية من دراجات نارية سريعة ومسدسات ليزر وصولًا إلى البحوث العلمية المتقدمة. العالم في قصة آكيرا لن يتحول إلى البهجة العلمية ببساطة، بل سيصبح وادي من الفوضى والظلم وسيحكمه نظام أشبه ما يكون بالغابة حيث يعيش القوي ويموت الضعيف. تبنى الكاتب هذه الفكرة وأظهرها في حب الحكومة للسلطة وفي وجود العصابات والجماعات الإصلاحية -أو الإرهابية من وجهة نظر الحكومة- فنرى كيف يسقط النظام التعليمي وتتفشى المخدرات بين الشباب وكيف يُسيّس العلم لدوافع إجرامية. في هذا المجتمع الفوضوي، تتكاثر الفئة المتعالية التي لا يهمها سوى جمع المال والعيش برفاهية أنانية بحته. يرى الكاتب بأن الأنسان يدور دومًا في دوامة البحث عن السُلطة والقوة. ولم يتطرق الكاتب لذلك فحسب بل سلط الضوء أيضاً على الفئة التي وجدت من بين الفوضى إيمانًا وباتت تنتظر وتؤمن ببوم عظيم يأتي ليدمر هذه المدينة الفاسدة كما دُمرت سابقاً بقنبلة نووية. تطرقت القصة أيضًا لدراسة سلوكية عميقة لما قد تبدو عليه شخصية ضعيفة وتابعة، وكيف يصبح حالها عندما تحصل على القوى التي لم تكن تحلم بإمتلاكها، ونرى كيف أن تيتسيو لطالما شعر بالغيرة والقهر وقلة الثقة لضعفه مقارنة بصاحبه كانيدا وبات همه الوحيد يدور حول الحصول على المزيد والمزيد من القوى، تماماً مثل الصراع الذي ذكره شكسبير في مسرحية مكبيث. وصوَر هذه النزوة بأنها الطريق الأمثل نحو الكارثة. فهو لم يطلب المزيد من القوى فحسب بل طمع لقدر كبير جدًا منها، لقدر لن يستطيع التحكم به. حتى بات يؤذي نفسه و العزيزين على قلبه. البيولوجيا والفيزياء تكمن فلسفة آكيرا في مناقشة مصادر الطاقة كما ناقشها الفيزيائيون سابقًا، فهو يضع أسئلة مثل: كيف للبشر الذين يصنعون الجسور والطائرات والصواريخ أن ينتجوا كل هذا؟ من أين حصلوا على هذا الكم من المعلومات وهذا الكم من الطاقة؟ ألم نكن يومًا سوى تطور لكائنات أصغر بكثير؟ إذا افترضنا أن البشر كانوا قردة وقبلها كانوا كائنات أصغر من ذلك بكثير، مثل الأميبا وهي جنس كائن حي وحيد الخلية ينتمي إلى مملكة الطلائعيات وشعبة الأنبوبيات. وهي تعيش داخل الجسم بشكل طفيلي أو متعايش، ولا تُرى سوى بالمجهر: وإذا أخذنا في الاعتبار قانون حفظ الطاقة المشهور: "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم" - يوليوس ماير. ألا يعني ذلك أن كل كائن في هذا الوجود له طاقة عظيمة، لكنه لا يستطيع إستخدامها سوى بالشكل الذي يتحمله الوعاء الذي يسكن فيه؟ ماذا سيحدث لو امتلكت الأميبا طاقة أشبه بالتي لدى الإنسان في حضور تفكيرها الذي لا يتعدى سوى إلتهام أي شي يقف أمام طريقها؟ إن الإنسان لا يصلُح أن يمتلك طاقة أكبر من تلك التي لديه بالفعل؛ فهو بطبيعة الحال لا يملك الوعاء أو الجسد الذي يستطيع أن يحتويها، حتى أنه لا يملك الإمتثال الأخلاقي الذي يؤهله للحصول هذه الطاقة. أو على الأقل ليس بعد. هذا ما ناقشه وصوَرهُ الكاتب في قصة آكيرا، إن الشخص المجهول الذي يُدعى بـ آكيرا ليس سوى مثال لطمع الحكومة للحصول على طاقة عظيمة يستخدمونها بغرض الإفساد في الأرض وشن الحروب. فمحاولاتهم المستمرة لتوليد أكبر قدر من هذه الطاقة أدى بهم لخلق قنبلة لم يتحملها وعاء الطفل آكيرا، مما أدى إلى دمار طوكيو. وما حدث لـ تيتسيو ليس إلا تكراراً للتاريخ الذي لا يتوقف البشر عن إعادة إحياؤه. فالطمع هو جوهر القصة. "الكل لديه قوى الآكيرا، وفي حال أوقظ الشخص هذه القوى؛ يجب عليه ان يتخذ قراراً، إما أن يستخدمه بالخير أو الشر" لربما نستطيع أن نأخذ فكرة الطاقة التي تتحدث عنها القصة بشكل مجازي ونربطها بأمور كالقنابل النووية أو أي نوع آخر من التكنولوجيا الحديثة التي تشكل خطراً على الإنسان أوحتى تلك التي تقوم بمساعدة البشر. ويمكننا أيضًا أن نأخذها بشكل علمي فيزيائي كما وصفها الكاتب، وهنا يكمن إبداع القصة! الفيزياء الكمية في نقاش الكاتب حول أصل الطاقة، هل إذا التمس الإنسان الطاقة المطلقة يعني أنه التمس الطاقة التي صنعت الكون بأكمله؟ تلك الطاقة التي صنعت الانفجار العظيم (Big Bang) وكونت العالم الذي نعرفه الآن؟ آكيرا ما هو إلا بشري ألتمس هذه الطاقة المطلقة وأدى به المطاف لعدم استيعاب جسده البشري الضعيف لحجم الطاقة وثقلها فانتهى به الأمر كقنبلة نووية تدمر طوكيو. ولأن "الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم"، آكيرا ما زال موجوداً في مكانٍ ما في هذا الفضاء. ففي نهاية الفلم يتم نداء آكيرا الذي التمس هذه الطاقة، ولكي لا يتكرر ما حصل في الماضي يأخذ آكيرا تيتسيو معه، ولربما أخذه إلى عالم موازي آخر، أو لإنفجار عظيم آخر. في مساحة أخرى في الفضاء.. يبقى السؤال الأكبر واحد ،هل تتعلم البشرية من كل هذه القصص؟ وتتوقف عن طلب ماليس لها به قوة ولا عقل؟

  • الليالي العربية بين شهرزاد وشهريار

    كما سُجل في كُتب ألف ليلة وليلة، أن الملك شاه زمان قد حكم مدينة سمرقند لمدة عشرين عامًا، وأن أخيه الأكبر شهريار ملك من ملوك ساسان بجزر الهند والصين وتميز حُكم الإثنين بالعدل والصدق. وكأغلب القصص، تبدأ الألف ليلة وليلة برد مأساة؛ حيث اشتاق الملك الأكبر شهريار لأخيه الملك الأصغر شاه زمان، ولذلك أمر الملك شهريار وزيره أن يأتي بأخيه لزيارته، فجهز الملك شاه زمان خيامه وجِماله وخدمه وأعوانه، وأعلن أنه سيزور مملكة أخيه شهريار، ولكن عندما أتى منتصف الليل تذكر الملك شاه زمان غرضًا نسيّه في قصره ورجع لأخذه، ليجد في القصر زوجته نائمة في فراشه معانقة عبدًا من عبيد القصر. "إن كان هذا الأمر قد وقع وأنا لم أفارق المدينة بعد فكيف سيكون حال هذهِ العاهرة إذا غبت عند أخي مدة؟!" هذا كان آخر ما قاله الملك شاه زمان قبل أن يسل سيفه وينحرهما الإثنين ليموتا مقتولين في فراش القصر. الأساطير والشخصيات المذكورة في قصص ألف ليلة وليلة تتنقل ما بين المشرق والمغرب، وتسرد في معظمها خيانات النساء المتعددة لأشهر وأقوى الرجال. إن هذهِ القصص بمثابة تمرد بارع لكسر صور النسوة المقيدة بالعفة والتقديس والتبجيل، وتصوير وصفي رائع لقدرتهن على تحقيق ما يرغبن به، حتى إن تطلب ذلك الأمر ، ضرب أقوى الرجال بلكمه في الجزء الأيمن من جسده أو لدغه من خلفه كالأفاعي، فالنسوة، على الأقل في قصص الخيال، لطالما استطعن الإنتصار. شبابيك وبُستان ما حدث للملك شاه زمان وخيانة زوجته له أثناء غيابه مع إحدى عبيده هو بلا شك حدثًا مؤلماً، ولعل قصة الملك شهريار أكثر ألماً ؛ فبعد أن وصل الملك شاه زمان إلى قصر أخيه الملك شهريار، أصرّ عليه شهريار أن يذهبا في رحلة صيد معًا، حيث أن هزالة جسد واصفرار وجه أخيه الأصغر زادت من قلقه نحوه فأراد شهريار أن يؤنس أخيه وأن ينسيه اشتياقه لمدينته، حسب ماكان يظن أنه بسبب تعبه. لكن الملك شاه زمان رفض هذهِ الرحلة وذهب شهريار لوحده للصيد. في قصر الملك شهريار، شبابيك عالية تطل على بستان جميل. جلس يتأمل الملك شاه زمان نحوه، وفي لحظة سكون، ُفتح أمام عينيه باب القصر الخارجي ليخرج منه عشرين جارية وعشرين عبدًا، وبينهما زوجة أخيه تتهادى بينهم، ثم تنادي على شخص يدعى بمسعود، ومن ثم يركض أحد العبيد نحوها ويعانقها، وكذلك يفعل باقي العبيد بالجاريات. واستمروا في عناق حتى ولى النهار، فقال الملك الصغير: "والله إن بليتي أخف من هذه البلية". فتاة الصندوق بعد أن علم الملك شهريار بما حدث في حديقة قصره، قال لأخيه الملك شاه زمان: "قم بنا لنسافر إلى حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالمُلك ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خير من حياتنا". لم يزل الملكين مسافرين أيامًا وليالٍي، حتى وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين ماء، بجانب البحر، شربا من الماء واستراحا معًا. ومن ثم، هاج البحر وظهر منه عمود أسود يصعد نحو السماء، ومن الخوف تسلق الملكين الشجرة على الفور، وأمعنا النظر في البحر، فخرج من البحر جني طويل القامة، وعريض المنكبين، واسع الصدر، وبرأسه صندوق، ومشى حتى وصل تحت الشجرة التي صعد إليها الملكين، وبعد ذلك، فتح الجني الصندوق، وأخرج منه "صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة"، استلقى الجني وغرق بالنوم على فخذ هذهِ الصبية، فرفعت رأسها حيث كان الملكين ينظران إليها. "إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي ثم وضعني على علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم ولم يعلم أن المرأة إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء!" رفعت الصبية رأس الجني من فوق فخذها ووضعته على الأرض، وقالت لهما بالإشارة: "انزلا ولا تخافا من هذا العفريت" وهددتهم بإيقاظ العفريت إذا لم يفعلا، ففعلا واستفرد بها كل ملك على حدى، وبعد أن انتهوا، أخرجت الصبية من جيبها خمسائة وسبعون خاتمًا وقالت :"إن أصحاب هذهِ الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتميكما". الملك شهريار أراد البحث عما إذا كان هنالك قصة خيانة أسوء من التي حدثت له، والإجابة هي بالطبع نعم، هنالك أسوء منها؛ فخيانة زوجته مع عشرين عبدًا وجارية لا تساوي شيئًا أمام خيانة فتاة الصندوق! فكلما كان الرجل أقوى، تزيد قوة خيانة المرأة؛ إذ خيانة زوجة الملك شاه زمان لم تكون أقوى من خيانة زوجة أخيه الأكبر شهريار والتي كانت برفقة عشرين جارية وعشرين رجل من العبيد، ونجد أن خيانة زوجة شهريار لم تكن بقوة درجة خيانة فتاة الصندوق التي خانت زوجها الجني مع خمسائة وسبعين رجلًا إنتقامًا على ما فعله بها! لا مُبرر للخيانة أبدًا، وقصص ماقبل ظهور شهرزاد، سردت ثلاثة قصص عن خيانات النساء وهم: خيانة زوجة شاه زمان مع أحد العبيد في فراشه. خيانة زوجة شهريار مع مسعود برفقة عشرين جارية وعشرون عبدًا آخرين في بستان القصر. خيانة فتاة الصندوق للعفريت. القصص صورت في البداية ثلاث خيانات للنساء لأقوى الرجال. باختلاف الرجل منهم إن كان ملكاً أو جنياً، فقدرة النساء على الخيانة واحدة، وكلما ارتفعت قوة الرجال بين الناس، زادت درجة خيانة نسائهن لهم، وتُثبت النسوة أنهن يستطعن أن يكسبن ويفعلن ما يفعلن. تُصور لنا هذهِ القصص، تمرد المرأة في كلا الجانبين، الخير والشر، لكن هل ما حدث للملك شهريار هو أسوأ ما كُتب عن الخيانات؟ وهل عندما تتزوج المرأة رغمًا عنها تتجه دومًا للخيانة؟ بعد أن عاد شهريار من رحلته، قام بإعدام زوجتة واعتقد بعد ذلك أن جميع النساء مُذنبات وخطائات بالفطرة. ولأن خيانة زوجتة له قضت على غروره وجبروته، قرر شهريار أن ينتقم من جميع النساء وأن يقتلهن واحدة تلو الأخرى كل يوم خلال الفجر بعد أن يفضي عذريتهن. كانت هذه الطريقة الوحيدة، بالنسبة لشهريار،لاسترداد قوته ونفوذه. ظهور شهرزاد استمر الملك شهريار ينتقم من خيانة زوجته السابقة بزواجه كل يوم من فتاة عذراء يزيل بكارتها ثم يقتلها في فجر اليوم التالي، هكذا لمدة ثلاث سنوات كاملة حتى بدأ يهرب الناس ببناتهم خارج المدينة. ولأنه لم تعد توجد أي فتاة عذراء بالمدينة، أمر الملك وزيره أن يأتي له بفتاة عذراء جديدة، فخرج الوزير ليبحث لملكه عما طلبه. ولكنه لم يجد له أي فتاة، وعندها رجع لمنزله غاضبًا وخائفًا على نفسه من ظُلم الملك له. إن الخوف الأكبر بالنسبة للوزير هو أن يضطر بأن يُسلم إحدى بناته الإثنتين للملك. إذ أن بنات الوزير كانتا ذاتا حسن وجمال. الكبيرة هي شهرزاد والصغيرة تدعى دُنيازاد. كيف للأب أن يُسلم إحدى بناته لهذا الملك الذي يعرف بأنه سيقتلهن؟ لقد تحول الملك شهريار العادل الذي يحبه الجميع إلى ملكًا ظالماً يخافه شعبه، كل هذا لأن شهريار لم يرد أن يسمح لأي إمرأة أن تخونه مجددًا. الجانب الفكري لشهرزاد والإنتصار الأخير على شهريار: إن شهرزاد مُختلفة عن أي فتاة سبق وأن تزوجها شهريار، ليس لأنها فقط ذات جمال وبهاء عال، بل لأنها على علم وإطلاع لسيّر الملوك السابقين وكتب التاريخ والأمم السابقة، حتى قيل أنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم والشعراء، فهي إبنة الوزير وتنتمي للطبقة الحاكمة في البلاد، ورغم جانبها الفكري الذي يعطي شخصيتها جاذبية ثقافية إلا أنها تعيش بين تقاليد وعادات المكان، وتميزت شهرزاد أيضًا بالشجاعة والقدرة الكبيرة على التضحية. فعندما رأت والدها في همٍ وغم، عرضت نفسها للزواج من الملك شهريار، بل وتوسلت لوالدها بأن تكون هي الزوجة التالية لرغبتها بمساعدته، والأهم لرغبتها بأن تُنهي الخوف والهروب المتكرر للنساء من المدينة. شهرزاد البطلة مُختلفة عن شهرزاد الراوية للحكايات، إن تشكيل شخصيتها مُبهر فهي تأخذ مهمة إصلاح الملك على محمل الحذر، وبالإستعانة بأختها دُنيازاد التي لا تختلف أهميتها عن شهرزاد، فلكل منهن دور مُهم لتغيير تفكير شهريار. في الليلة الأولى، تطلب دٌنيازاد من أختها شهرزاد أن تحكي لهم وتحدثهم لإكمال سهرتهم: "يا أختي حدثينا حديثًا نقطع به سهر ليلتنا" فترد عليها شهرزاد: "إن أذن لي هذا الملك المُهذب". هُنا في هذا النص يتشكل لنا نصف صورة إنتصار شهرزاد على الملك شهريار، فمنذ الليلة الأولى، تُحسن شهرزاد حديثها وتُلطفه عند الملك؛ حيث تستأذن منه وترفع من شأنه وتُظهر له صفاته الحسنة. وعندما سمع الملك كلامها -رغم ما كان ظاهراً عليه من قلق- إلا أنه سمح لها بإكمال الحديث، وعندما تبدأ بسرد أولى حكاياتها للملك، تختار أن تسرد قصة (حكاية التاجر مع العفريت). بكلام لطيف تحكي شهرزاد لتجعل شهريار يتناسى ما يريد أن يفعله، ولتشعره بأن ما فعله من قبل ما هو إلا شيء من الطبيعة فتقول: "بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجراً من التجار..." وبينما تحكي لهم الحكاية، يطلع الصباح عليهم فتتوقف عن الحديث،وتأتي دُنيازاد لتقول: "ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه"، فترد عليها شهرزاد:"وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة" وبهذه الطريقة لا يستطيع الملك أن يقتلها من دون أن يسمع باقي الحكاية، ويحلف أنه لن يقتلها حتى يسمع ما تبقى من الحديث. كانت شهرزاد تطلب من شهريار أن يأتي بأختها دنيازاد كل ليلة لتوديعها، إن مهمة أختها السرية هي أن تجلب لها كل يوم قصة جديدة تستطيع أن تقصها شهريار للملك لينسى بذلك أن عليه قتلها. تستمر شهرزاد كل ليلة تحكي للملك عن قصة ما: عن سندباد وعلي بابا والأربعين حرامي، وعن علاء الدين وسجادته الطائرة ومصباحه السري، وعن هارون الرشيد ووزيره... وغيرهم من قصص الخيال المشوقة. قد يكون اسم شهرزاد من أقل الأسماء المذكورة في حكايا السفر والمغامرات، والحب، إلا أن دورها في ألف ليلة وليلة قد شكل بصمة قوية في تاريخ الأدب، فقد طمست شهرزاد فكرة ضعف الإِناث وارتباطهن المقصور على الإِنجاب أو لعب دور الجدة أو الأم الحنون التي لا حول لها ولا قوة، ولعبت دورًا رئيسًا في عالم القصص الخيالية والسرد القصصي. شهرزاد لم تكتفي بتواجدها بين السطور والورق بل اِستمرت لتصبح إِرْثٌ ثقافي يُلهم أعمالِ الشِّعْرِ والْمَسْرَح، والرواية وَحتى الأوبرا! لعل أشهرها هي سيمفونية ريمسكي كورساكوف الخالدة والتي تحمل معزوفات (الْبَحْرَ وَسَفِينَةَ السِّنْدِبَادِ) و(الْأَميرُ الشَّابُّ وَالْأَميرَةُ) وغيرهما تحت عنوان شهرزاد نفسها. جميع هذهِ الأعمال ماهو إِلا دليل على التحول الثقافي التي أحدثته هذه الشخصية، الحكوَاتية شهرزاد إبنة الوزير وزوجة الملك وتلك التي لعبت دور رئيساً في نقل الشخصية الأنثوية من إطارها التقليدي والثانوي إلى دور بطوليّ ومحوري في عالم الأدب القصصي. حتى وإن ظلت الليالي الألف تتناقل على مسامع الشعوب وتحكى بين أوساط الناس من الطبقات الشعبية في الأسواق والأزقة وصولًا إلى ما هي عليه الآن من حكايات تداعب خيالنا بعالمها الممتلئ بالشخصيات والأساطير العربية التي خُلدت قِصصهم لأجيال وأجيال، إلا أن شهرزاد ستظل واحدة من أقوى الشخصيات الأدبية التاريخية، فهي الشخصية التي أكملت إطار الصورة الخيالية. مراجع: قصص ألف ليلة وليلة، سعيد علي الخصوصي، نسخة مصححة 1860م شهرزاد بين الأسطورة والنقد، ماجدة بن عميرة، 2014 فن الترجمة بين النقل والإبداع في شخصية شهرزاد، د. ياسمين فيدوح، 2012 Arab Studies Quarterly by Pluto Journals, 1991, Samar Attar and Gerhard Fischer. The Georgia Review,1980, Infidelity and Fiction: The Discovery of Women's Subjectivity in Arabian Nights by Judith Grossman. Marvels & Tales Vol. 18, No. 2, The Arabian Nights: Past and Present 2004, Shahrazâd Is One of Us: Susanne Enderwitz.

bottom of page