top of page
Writer's pictureضي الراشد

العلم خلف الأعمال اليابانية: آكيرا

دراسة تحليلية للعلوم الطبيعية الملهمة للقصص اليابانية العصرية.


إن الأعمال اليابانية الثقيلة، سواء كانت أفلامًا أو رسومًا متحركة أو قصصًا مصورة، هي التي لا تزال راسخة في ذاكرتي، ولا أقصد بذلك الأعمال التي تعتمد اعتمادًا كاملاً على المواقف والحوارات الاجتماعية المعتادة، فعندما أسميّ هذا النوع من الأعمال بالـ"ثقيلة"، فأنا هنا لا أخترع مصطلحًا جديدًا، فالكثير من الأعمال الفنية تجاوزت مواضيعها مقاعد ودور السينما واجتاحت أحاديث الأكاديميين والعلماء، ذلك لأن المعلومات التي تحتويها قد تساوي محاضرة علمية طويلة أو حتى كتاب فيزيائي مرجعي!


من أجمل مايميز هذهِ الأعمال هي الطريقة التي تُستخدم فيها العلوم بطريقة أشبه بما يسمى بالتعليم الممتع؛ فهي تضع المعلومات بين أحداث القصة وشخصياتها بإبداع دونما اللجوء لحشو المعلومات بطريقة مبتذلة، لتُشكل بذلك عمل روائي فني بحت.


لعل من أنجح هذهِ الأعمال هو فيلم آكيرا الياباني (1988): وهو من إخراج وتأليف كاتسوهيرو أوتومو، وهو أيضًا صاحب القصص المصورة (مانقا) لآكيرا، التي كانت من رسمه وتأليفه واصدرها سنة (1982) وتدور أحداث الفيلم في مستقبل طوكيو، بالتحديد في عام 2019، بعدما دمرتها الحرب العالمية الثالثة.


آكيرا، 1982:

من أشهر قصص الخيال المستقبلي والما بعد كارثي اليابانية وتعتبر السلسلة مرجعًا فنيًا، ومصدر إلهام للكثير من الأعمال اليابانية المشهورة مثل: سلسلة (Ghost in the Shell) و (Battle Angel Alita) و (Cowboy Bebop)، كما حظيت القصص المصورة لآكيرا على فيلم رسوم متحركة عام 1988، وحقق ضجة في العالم أجمع.


بالطبع، كان لا بد وأن تُقتص بعض من تفاصيل القصة لتتناسب مع طبيعة الفيلم القصيرة، وتغيرت بعض الأمور كالسنوات وبعض التفاصيل الأخرى، لكن لم يختلف مضمون القصة في الفيلم عن مصدرها الأساسي. فكاتب القصص المصورة هو أيضًا كاتب الفيلم. ولهذا سوف نتخذ من الفيلم مصدراً لمعلوماتنا في هذه المقالة.

* المقالة تحتوي على حرق لأحداث القصة.


القصة من منظور سطحي:



تبدأ القصة بانفجار عظيم يدمر معظم أجزاء مدينة طوكيو في عام 1988، تبدأ بعدها الحرب العالمية الثالثة التي حتمت الدمار على جميع العالم، ومن ثم يأخذنا الفيلم لما بعد ذلك بواحد وثلاثين عامًا لنرى مستقبل الكارثة بعيون كانيدا وأصحابه المتهورين سائقي الدراجات النارية في المدينة الجديدة نيو-طوكيو، وتأخذنا المطاردة الرشيقة لمصير مُحتم لصديقه تيتسيو إذ يصطدم بطفل عجوز ذي قوى خارقة للطبيعة، ونتيجة لذلك، تستيقظ القوى الخارقة الخاصة بتيتسيو -والتي من شأنها لفت نظر منظمة حكومية سرية- فيُأخذ لمعاملهم السرية لإجراء الاختبارات عليه.


تصبح مدينة نيو-طوكيو مكانًا يعج بالفوضى والعصابات الإرهابية -أو الإصلاحية من وجهة نظرهم- التي تنوي الإطاحة بالنظام الحكومي الفاسد، هذا غير الجماعات الدينية التي تنذر بظهور الآكيرا المنتظر الذي سيكون سببًا في خلاص المدينة من الظلم والفوضى!


تيتسيو

يتبين لنا خلال القصة أن تيتسيو لطالما شعر بالدونية والضعف مقارنة بأصحابه الآخرين، بالتالي، تُأجج هذه المشاعر لديه حب السلطة وربما الانتقام أيضًا. تأخذ قوى تيتسيو بالتطور رغم العقاقير المستخدمة للسيطرة عليه، فيبدو للعلماء أنها أشبه بقوى تجربة سابقة قاموا بها على شخص يدعى بـآكيرا ومن هنا يبدأ الأطفال العجائز بمحاولة القضاء على تيتسيو، لكنهم يفشلون وذلك لضعفهم مقارنة بقوى تيتسيو الخارقة، فينتقلون لمحاولة مجاراته بالمنطق بقول:


الأطفال العجائز
"بشر مثلك لا يتوجب عليه إمتلاك قوى خارقة كهذه! يجب علينا إيقافك قبل أن يحدث شيئا فظيعًا! يجب ألا تصبح بقوة آكيرا.."

للأسف هذه الجملة لم تجدِ نفعًا معه، فهنالك قوى أكبر منه تُأجج النار بداخله. يهرب تيتسيو للبحث عن الآكيرا، لتصبح نيو- طوكيو تحت رحمته. يتبين لنا بعد ذلك أن الأطفال العجائز ليسوا سوى عينات تجارب —تحت سيطرة العقاقير- للمنظومة الحكومية السرية التي تريد أن تستحوذ على سلاح فتاك لاستخدامه في الحرب وأن آكيرا هو عينة تجربة سابقة، وبعد أن خرجت قوته عن السيطرة تسببت بالانفجار الذي دمر طوكيو مسبقًا!

في مقر آكيرا، لا يجد تيتسيو سوى أجزاء متبقية من جسده احتفظت بها المنظمة لإجراء الاختبارات عليها. يشتد غضبه ويفقد السيطرة على قواه التي تبدو أنها بحاجة للعقاقير لتهدئتها، فيتوسل للحصول على العقاقير لكن تخرج قواهِ عن سيطرته بالكامل ويضعف جسده أمام احتواء هذه القوة! يهاجم تيتسيو بعدها كل من يقف في طريقه بينما يكبر حجم جسده ويتغير شكله من طفل كبير، إلى كتلة لحم أشبه بجرثومة عملاقة تبتلع كل شيء حتى أصحابه!


أثناء تحوله لقنبلة موقوتة قادرة على تدمير نيو-طوكيو بأكملها، يجتمع الأطفال العجائز ويوحدون قواهم لنداء زميلهم آكيرا من خلال أجزائه المتبقية لينقذ نيو-طوكيو ويبتلع القنبلة الموقوتة: تيتسيو.

تيتسيو بينما يفقد السيطرة على القوى

البعد الأعمق للقصة:

إن العمل يتمحور حول المصير الديستوبي (الكارثي) للمستقبل، و من الغريب أن الكاتب تنبأ بتبني طوكيو للألعاب الأولمبية لعام 2020 و بإلغائها أيضًا، لكن لحسن الحظ يعود سبب الإلغاء لوباء كورونا بدلَا من قنبلة نووية.


علم الاجتماع

العالَم المستقبلي من نظر الكاتب مشع بإضاءة النيون التي تملأ المدينة بأحدث الصناعات التكنولوجية العصرية من دراجات نارية سريعة ومسدسات ليزر، وصولًا إلى البحوث العلمية المتقدمة. العالم في قصة آكيرا لن يتحول إلى البهجة العلمية ببساطة، بل سيصبح وادِ من الفوضى والظلم وسيحكمه نظام أشبه ما يكون في الغابة حيث يعيش القوي ويموت الضعيف.

تبنى الكاتب هذه الفكرة وأظهرها في حب الحكومة للسلطة، وفي وجود العصابات والجماعات الإصلاحية -أو الإرهابية من وجهة نظر الحكومة- فنرى كيف يسقط النظام التعليمي وتتفشى المخدرات بين الشباب وكيف يُسيّس العلم لدوافع إجرامية. في هذا المجتمع الفوضوي، تتكاثر الفئة المتعالية التي لا يهمها سوى جمع المال والعيش برفاهية أنانية بحتة. يرى الكاتب بأن الإنسان يدور دومًا في دوامة البحث عن السُلطة والقوة. ولم يتطرق الكاتب لذلك فحسب بل سلط الضوء أيضًا على الفئة التي وجدت من بين الفوضى إيمانًا وباتت تنتظر وتؤمن بيومِ عظيم يأتي ليدمر هذه المدينة الفاسدة كما دُمرت سابقًا بقنبلة نووية!



تطرقت القصة أيضًا لدراسة سلوكية عميقة لما قد تبدو عليه شخصية ضعيفة وتابعة، وكيف يصبح حالها عندما تحصل على القوى التي لم تكن تحلم بامتلاكها، ونرى كيف أن تيتسيو لطالما شعر بالغيرة، والقهر، وقلة الثقة لضعفه مقارنة بصاحبه كانيدا وبات همه الوحيد يدور حول الحصول على المزيد من القوى، تمامًا مثل الصراع الذي ذكره شكسبير في مسرحية (ماكبيث)، وصوَر هذه النزوة بأنها طريقِ نحو الكارثة. فهو لم يطلب المزيد من القوى فحسب بل طمع لقدر كبير جدًا منها، لقدر لن يستطيع التحكم به، حتى بات يؤذي نفسه والعزيزين على قلبه.


البيولوجيا والفيزياء

تكمن فلسفة آكيرا في مناقشة مصادر الطاقة كما ناقشها الفيزيائيون سابقًا، فهو يضع أسئلة مثل: كيف للبشر الذين يصنعون الجسور والطائرات والصواريخ أن ينتجوا كل هذا؟ من أين حصلوا على هذا الكم من المعلومات وهذا الكم من الطاقة؟ ألم نكن يومًا سوى تطور لكائنات أصغر بكثير؟


أميبا

إذا افترضنا أن البشر كانوا من جنس هومو، وقبلها كانوا كائنات أصغر من ذلك بكثير، مثل الأميبا وهي جنس كائن حي وحيد الخلية ينتمي إلى مملكة الطلائعيات وشعبة الأنبوبيات، وتعيش داخل الجسم على نحوِ طفيلي أو متعايش، ولا تُرى سوى بالمجهر، ولو أخذنا في الاعتبار قانون حفظ الطاقة المشهور:

"الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث من العدم" - يوليوس ماير.

ألا يعني ذلك أن كل كائن في هذا الوجود له طاقة عظيمة، لكنه لا يستطيع استخدامها سوى بالطريقة الذي يتحمله الوعاء الذي يسكن فيه؟ ماذا سيحدث لو امتلكت الأميبا طاقة أشبه بالتي لدى الإنسان في حضور تفكيرها الذي لا يتعدى سوى التهام أي شيء يقف أمام طريقها؟

إن الإنسان لا يصلُح أن يمتلك طاقة أكبر من تلك التي لديه؛ فهو -بطبيعة الحال- لا يملك الوعاء أو الجسد الذي يُمكنه من احتواء ما هو أكبر، حتى أنه لا يملك الامتثال الأخلاقي الذي يؤهله للحصول هذه الطاقة. أو على الأقل، ليس بعد.


هذا ما ناقشه وصوَرهُ الكاتب في قصة آكيرا، فالشخص المجهول الذي يُدعى بـ آكيرا ليس سوى مثال لطمع بعضهم للحصول على طاقة عظيمة يستخدمونها بغرض الإفساد في الأرض وشن الحروب. فمحاولاتهم المستمرة لتوليد أكبر قدرِ من هذه الطاقة أدى بهم لخلق قنبلة لم يتحملها وعاء الطفل آكيرا، مما أدى إلى دمار طوكيو. وما حدث لـ تيتسيو ليس إلا تكرارًا للتاريخ الذي لا يتوقف البشر عن إعادة إحيائه. إن الطمع هو جوهر القصة.

"الكل لديه قوى الآكيرا، وفي حال أوقظ الشخص هذه القوى؛ فيجب عليه أن يتخذ قرارًا، إما أن يستخدمه بالخير أو الشر"

لربما نستطيع أن نأخذ فكرة الطاقة التي تتحدث عنها القصة مجازيًا، ونربطها بأمور مثل القنابل النووية، أو أي نوع آخر من التقنية الحديثة التي تشكل خطرًا على الإنسان، أوحتى تلك التي تُساعد البشر! ويمكننا أيضًا أن نأخذها على نحوِ علمي فيزيائي كما وصفها الكاتب، وهنا يكمن إبداع القصة!

الفيزياء الكمية

هل إذا التمس الإنسان الطاقة المطلقة، يعني أنه التمس الطاقة التي صنعت الكون بأكمله؟ تلك الطاقة التي صنعت الانفجار العظيم، وكوّنت العالم الذي نعرفه اليوم؟

الانفجار العظيم

آكيرا ما هو إلا بشري ألتمس هذه الطاقة المطلقة، وأدى به المطاف لعدم استيعاب جسده البشري الضعيف لحجم الطاقة، وثقلها فانتهى به الأمر بصفتهِ قنبلة نووية تدمر طوكيو.


ولأن «الطاقة لا تفنى ولا تستحدث من العدم»؛ آكيرا ما زال موجودًا في مكانٍ ما في هذا الفضاء. في نهاية الفلم، يُنادى آكيرا الذي التمس هذه الطاقة، ولكي لا يتكرر ما حصل في الماضي، يأخذ آكيرا تيتسيو معه، ولربما أخذه إلى عالم موازِ آخر، أو لانفجار عظيم آخر، في مساحة أخرى في الفضاء.


يبقى السؤال، هل تتعلم البشرية من كل هذه القصص؟ وتتوقف عن طلب ما ليس لها به قوة ولا عقل؟


bottom of page