قد لا يكون من البلاغة أن أبدأ في هذا المقال باعتراف شخصي، لكن علي القول هنا بأن الكلمات تتهاوى مني، وبأنني قد قضيت ساعات طويلة أحدق في أغلفة كُتب موراكامي محاولةً الاصطباغ بجنونه؛ لعلي أكتبُ بداية سريالية تُشبه عوالمه الساحرة، وبرغم ذلك، لم أجد بداية أفضل من الاعتراف بالاستسلام أمام روعة موراكامي.
في عوالم هاروكي موراكامي لا وجود للحواجز أو الأسقف؛ فما يكتبه هو بلا شك خارج نطاق القوانين الطبيعية والعلمية التي نعرفها. إذ لا يكترث بإرسال رسائل أخلاقية في رواياته على نحوٍ مبطن، أو حتى بأن يوضح مقصده مباشرةً. هو خبيرًا في خلق العوالم السريالية، تلك العوالم التي تمتزج فيها الأحلام بالواقع لدرجة أنهما لا يظهران كشيئين منفصلين أساسًا. عوالم يصبح فيها وعينا وفهمنا للحياة مجرد إيجاز.
إن قراءة رواية كافكا على الشاطئ تجربة سريالية بالمعنى الحقيقي والمطلق، ولأن هذا النوع من الروايات يصعٌب تعريفه - وحتى محاولة تلخيص هذهِ الرواية وتحليلها قد تبدو كاستعراضٍ طائش- سأعتبر هذهِ المقالة نظرة مختصرة على فلسفة روايته «كافكا على الشاطئ»، ومحاولة لتحليل بعضًا من رموزها وألغازها. ولأني أؤمن بأن أقرب شيء يمكنني فعله للحصول على إجابات للأسئلة التي يثيرها موراكامي تكمن في طرح المزيد منها، سأبذل قصارى جهدي لأضع كل انعكاساتي للرواية، فهي واحدة من أفضل الكتب التي قرأتها على الإطلاق، إنها ملحمة فلسفية عميقة وأعتقد أن الإنترنت بحاجة إلى المزيد من المراجعات حولها. وهذهِ هي محاولتي المطولة والمتعمقة لفهم فلسفتها.
* المقالة تحتوي على تفاصيل أحداث الرواية.
الشخصية الرئيسة الأولى في الرواية هي كافكا؛ الصبي الذي يبلغ من العمر 15 عامًا. وكأي مُراهق، أبرز صراعات كافكا هي أزمة الهوية. ففي الفصول الأولى نرى كافكا وكأنه يتحدث مع "صبي يدعى الغراب" الذي قد يكون رمزًا لشخصيته البديلة (Alter ego). يتمنى كافكا أن يعيش تحت جلد وحمض نووي مختلف وأن يتحول لشخص آخر تمامًا:
"يمكنني أن أبذل قصارى جهدي لعدم السماح لأي عواطف بالظهور، ومنع عيني من الكشف عن أي شيء، وتضخيم عضلاتي، ولكن ليس هناك الكثير مما يمكنني فعله بشأن مظهري. أنا عالق مع حواجب والدي الطويلة الكثيفة والخطوط العميقة بينهما. ربما يمكنني قتله إذا أردت ذلك - أنا بالتأكيد قوي بما يكفي لفعلها- ويمكنني محو أمي من ذاكرتي. لكن لا توجد طريقة لمحو الحمض النووي الذي نقلوه إلي. إذا كنت أريد أن أذهب بعيدًا، فعلي أن أتخلص مني".
يعيش كافكا مع أبيه، بعد أن تركتهما والدته مصطحبة شقيقته الكبرى معها، حيث يسمع كافكا عن النبوءة (التكهن) التي تقول بأنه سيقتل أباه وينام مع أمه ومن ثم أخته. وبدافع الخوف والصدمة، يهرب كافكا من المنزل مُعتقدًا أنه يستطيع الهرب من مصيره أيضًا.
الشخصية الثانية هي ناكاتا؛ رجلًا عجوز يمتلك تفكيرًا محدودًا بعض الشيء بسبب تعرضه لحادثِ طفولة غامض حرمه من القدرة على القراءة والكتابة ومنحه بدلاً من ذلك هِبة التحدث إلى القطط! يعيش ناكاتا حياة مسالمة، دون أن يأبى بماضيه ومستقبله. يبدو ناكاتا كشخص دون ملامح أو هوية واضحة؛ إنه فارغ من الداخل وحياته عبارة عن سلسلة من قوائم الأعمال؛ فهو يبحث بلا غايةً أو هدف عن قطط الآخرين لملء أيامه. هو يبحث عن أشياء لا يفهمها.
الإرادة الحرة وأسطورة أوديب:
أي شخص على دراية بقصة أسطورة أوديب سيرى التشابه بين قصتي كافكا على الشاطئ وأسطورة أوديب، فكلاهما يثيران أسئلة حول الإرادة الحرة وإمكانية الهرب من المصير. فمثل حال والد كافكا، يسمع الملك لايوس من عرافة بنبوءة تخبره عن إنجابه لولدٍ سيكبر لاحقًا ليقتلهُ ويتزوج من أمه. وبعد فترة من سماعه لهذهِ النبوءة، تحمل زوجة الملك لايوس، وفور ولادتها بطفلها يُعطي الملك الطفل لحارسه لكي يقتله، فيأخذه الحارس إلى الجبل وهو مقيدًا بالأغلال من قدميه (وهذا سر تسميته بأوديب التي تعني باليونانية المصفد بالأغلال)، ولكن بدلًا من قتله؛ يقرر الحارس أن يترك أوديب حياً مع راعٍ يقابله في طريقه.
ينجو أوديب من الموت، ويكبر ليعرف هو الآخر عن النبوءة ويعزم أن يهرب منها. ومن خلال هروبه وتصميمه على عدم تحقيق قدره نرى كيف أن جميع جهوده لتخطي القدر هي الأشياء التي تُحققه وتأخذه إليه. فقد قادته كل جهوده إلى مسارًا واحد وهو مصيره. إذ يقتل شخصًا مجهولًا له للدفاع عن نفسه دون أن يعلم أنه أبيه، ويتزوج بعدها من والدته. وعندما يعلم أوديب لاحقًا أن النبوءة قد تحققت وأنه لم يستطع الهرب من مصيره، تطغى عليه مشاعر الخزي والعار ويأخذ دبابيس زوجته/ أمه ويضعها في عينيه ليُعمي بصره.
"باسم الآلهة،
أخفوني في مكان ما بعيدا عن هنا.
اقتلوني، اقذفوا بي في البحر،
أو على الأقل في أي مكان يحجبني عن الأنظار إلى الأبد.
أقبلوا، تكرموا بلمس تعيس، بئيس. آه!
صدقوني، لا تخافوا، إن مصائبي لا يمكن لأحد حملها عني"
لأن الحتمية تُذكرنا بغياب المصادفات، وأن كل شيء وُجد وخُلق لسبب ما، وأننا جميعاً نمتلك مصيرًا واحدًا قد كُتب مُسبقًا ولا يمكننا تغييره، فإن أوديب وكافكا يشكلان رموزًا للأشخاص الذين حاولوا الهرب من القدر وتغيير مصيرهم، إنهم رموز تدل على تفوق نظرية الحتمية وإنكار وجود الإرادة الحرة. فمن وجهة نظر حتمية، كلٌ من وعينا اللامحدود، والأشياء التي نتفاعل معها، والأمنيات التي نتمنى أن نحققها ما هي إلا حُلم. حلم العيش بحياة حُرة، بلا قيود، بينما لا نستطيع تجاوز كوننا مجرد آلات تُثرثر دون هدى.
عندما يهرب كافكا من منزله، تقوده الطرق إلى مكتبة يعمل فيها رجلًا يدعى أوشيما- في وقت لاحق نعرف أنه متحول جنسيًا- ويأذن له بأن يُقيم فيها. في الرواية تُوصف المكتبة وكأنها جنة من جنات عدن، مكانًا يتيح لكافكا أن يتعلم ويبعث في روحه السلام. المكتبة التي يُقيم فيها كافكا تعود إلى الآنسة سايكي، وهي امرأة نحيفة في منتصف الأربعينيات من عمرها. امرأة من المحتمل أن تكون أم كافكا. بوتيرة بطيئة، نرى كيف لحُزن عينيها، ولأحاديثها، وتحركاتها ولهالتها المجردة أن تسقط بثقلٍ على روح كافكا التائهة، ليشعر كافكا بشيء نحوها؛ شيئًا عميق مثل الارتباط والصلة، أو لعل سايكي لمست ذكرى قديمة لحياة قد سبق لكافكا أن عاشها.
يقضي كافكا أيامه في المكتبة يقرأ ويتأمل الحياة ولوهلة يُخيل له أنه وجد السلام الداخلي، وأن أكثر هواجسه رعبًا لا يمكن لها أن تتحقق، على الأقل ليس هنا في هذهِ المكتبة الهادئة. يُخيل لهُ أيضًا أنه الوحيد المُتحكم بكل الأفعال التي تخرج من جسده، ولأن هذا نسبيًا صحيح؛ يصبح ناكاتا (الشخصية ذات الروح الخاوية) الشخص الذي يحقق النبوءة الأولى عوضًا عنه، حيث تقوده الطرق إلى قتل والد كافكا، المتجسد في جسد جوني ووكر. وبالرغم من أن جسد كافكا لم ينزح من مكانه إلا أنه يستيقظ في اليوم التالي ليجد نفسه مغطى بالدماء بالقرب من الضريح.
وبعد وقتًا قصير من مقتل والد كافكا -المتجسد في جوني ووكر -، تُمطر السماء سمك السردين، وهو حادث قد تنبأ به ناكاتا قبل حدوثه. ولكي نفهم فلسفة وإسقاطات الرواية، فمن المهم ألا نتغاضى عن قراءة وتحليل هذا الحادث الغريب.
ما المعنى خلف حادثة مطر سمك السردين؟
يُكرر موراكامي خلال الرواية جُملة :"إن كل شيء عبارة عن استعارة"، وهذا قد يكون أحد مفاتيح فهم الرواية، وبالتالي أرى أن حادثة مطر سمك السردين هي استعارة تشير إلى اختلال توازن الكون وفقدهِ لبعضٍ من قوانينه الفيزيائية عندما قُتل والد كافكا على يد ناكاتا بدلاً من كافكا نفسه. إن الكون في الرواية يملك نسخة واحدة من القدر، وليس باستطاعته تحمل نسخ مختلفة، ولذلك, فأي خللٍ يظهر أثناء سير الأحداث المكتوبة مُسبقًا سيؤدي إلى حدوث كوارث وتغيرات لا منطقية؛ كأن تُمطر السماء سمك السردين!
أعتقدَ كافكا أن بإمكانه أن يسجن نفسه في مكتبة صغيرة ليمنع القدر من الحدوث، إلا أن ذلك لم يغير سير الأحداث تمامًا، فنرى في الرواية كيف أن كافكا يستيقيظ بعد مقتل أباه بشعورٍ من الندم والخوف والعار، كما لو أنهُ قد قتل والده فعلًا. ذلك لأن قدر كافكا كان مُحتمًا، ورغبته المدفونة لقتل أبيه لم تكن بوسعها أن تُسجن، وهكذا نرى كيف أن القدر والرغبة تجسدا بداخل روح ناكاتا الفارغة وقاداه لقتل الأب وتحقيق القدر.
هل الإرادة الحرة وهم؟ وهل هذا ما يحاول موراكامي قوله؟
إن الطريقة الوحيدة لفهم رواية كافكا على الشاطئ تكمن في قراءتها من وجهة نظر فلسفية، ذلك لأن النظرية التي تتناولها أحداث القصة هي الحتمية وإنكار وجود الإرادة الحرة.
الحتمية تقول لنا أن كل حدث في الكون بما في ذلك إدراك المرء وتصرفاته خاضع لتسلسلًا مُحدد سلفًا من ضمن سلسلة غير منقطعة من الحوادث الذي يؤدي بعضها إلى بعض وفق لقوانين محددة. يؤمن البعض بأن هذه القوانين هي قوانين الطبيعة في حين يؤمن آخرون بأنها قضاء الله وقدره الذي رسمه للكون والمخلوقات. لذلك فمن وجهة نظر حتمية نحن لا نملك القدرة على تغيير مسار حياتنا.
لو قرأنا الرواية من زاوية النظرية الحتمية، فهل الإيمان بالحتمية يُخلص ويُحرر كافكا من عواقب خطاياه كونه لم يملك أي خيار لتغيير قدره؟ ربما، ولكن لماذا إذًا يشعر كافكا بالذنب عند معرفته بمقتل أبيه على الرغم من أنه لم يكن القاتل؟ وإذا افترضنا أن حياتنا حقًا محددة مسبقًا ولا يمكننا تغييرها، فما المعنى خلف خوضنا لهذهِ الحياة؟ وكيف يُفترض علينا أن نتحمل مسؤوليات وعواقب خياراتنا وأفعالنا؟ ولماذا لا نتخذ الإجراء الوحيد الذي يخلصنا من لعنة الحتمية وهو الانتحار؟
في البداية يختبر كافكا الحياة من خلال العبارات والصور، كلحظة سرد الغراب لمصير حياته:"سوف تقتل والدك، وتنتهك عرض أمك وأختك.” وبكل غضب يندب حظه، ويكره ماهيته وقدره. بعد ذلك يقرر أن يوقف هذه النسخة من الحدوث عن طريق حبس نفسه في المكتبة. ولكن في أحلامه أو ربما في وعيّه، يُحقق كافكا هذهِ اللعنة بطريقة أو بأخرى. إن كافكا يعيش بداخل عاصفة لا تهب من بعيد؛ إنما واحدة تعصف بداخله:
“القدر أحياناً يشبه العاصفة الرملية الصغيرة التي لا تنفك تغيير اتجاهاتها بينما تُغيّر اتجاهاتك، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيف وتتبعك. تلعب معها هكذا مراراً وتكراراً، كرقصة مشؤومة مع الموت في الفجر. لماذا؟ لأن هذه العاصفة ليست شيئاً يهب فجأة من بعيد، ليست شيئاً لا يمت لك بصلة، إنها أنت. إنها شيء ما في داخلك. وكل ما عليك فعله هو أن تستسلم لها. ادخل نحوها مباشرةً. أغمض عينيك، وسد أذنيك حتى لا تتسلل الرمال إليهما، وسِر في العاصفة، خطوة بعد خطوة. ليس من شمس هناك، ولا قمر، ولا اتجاهات، ولا إحساس بالزمن. فقط دوامة من الرمال البيضاء الناعمة تصعد إلى السماء كعظامِ مطحونة، هذه هي العاصفة التي عليك أن تتخيلها. وعليك أن تنجو من وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية، بغض النظر عن مدى ميتافيزيقيتها أو رمزيتها. الخطأ ممنوع: ستقطع العاصفة اللحم كآلاف الأنصال. وسينزف الناس هناك، وستنزف أنت أيضًا، ستنزفون جميعاً دماً أحمرًا ساخنًا. وستتلقف أنت هذا الدم بيديك: دمك، ودم الآخرين. ولحظة انتهاء العاصفة، لن تتذكر كيف نجوت منها، لن تتذكر كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا. ستكون متيقنًا من أمر واحد فقط: أنك حين تخرج من العاصفة، لن تكون الشخص ذاته.”
يدرك كافكا أن نظرته المجردة إلى الكون والوجود ليست سوى حلم. حلم يختبره بوعي ومن دونه أحيانًا. وأن كل رغباته، وخطاياه، وفضائله، وسِماته الموروثة، ومهاراته المكتسبة، حتى كل ما يحبه وما يكرهه ما هم إلا حلم أيضًا. ومع أنه لم يختر هذا الحلم ولا الجسد الذي هو فيه، إلا أنه ما يزال مسؤولا عن كل ذنوب هذا الجسد حتى قبيل ارتكابها. وإن الاختباء في مكتبة أو حتى في أبعد نقطة في نهاية الأرض لن يُمكنه من محو المصير المكتوب في عروقه.
في الرواية، يقتبس أوشيما قصيدة للشاعر الأميركي ويليام بتلر ييتس:
"تبدأ مسؤوليتنا عند القدرة على التخيل. كما قال ييتس: "في الأحلام تبدأ المسؤولية"، فكر بهذا جيدًا وبعدها يمكنك القول أن في حال عدم وجود قوة للتخيل، لا يمكن أن تنشأ المسؤولية"
المقصود هنا أن عدم تذكر أو عدم معرفة ما إذا كان كافكا قد قتل والده بالفعل من خلال ناكاتا أم لا، لا يهم إطلٍاقٍا. فذلك، لا يمنحه أي خلاصٍ أو إعفاء، لأن كافكا قبل أي شيء، مسؤولًا عن نفسه، وعن الجسد الذي ولد به وعن كُل العواقب والمسؤوليات الناتجة من احتواء هذا الجسد (المصير المقرر له) ولا توجد فروق بين ما رغب به كافكا وما آلت إليه الأمور.
يحاول موراكامي هنا تغيير أو ربما أيضًا تحرير تعريفنا لمفهوم الأخلاق عن طريق مزج الأفعال التي نقرر أن نتخذها والنوايا والرغبات التي نتمنى أن نفعلها أو أن تحصل لنا؛ ففي رواية كافكا على الشاطئ، نرى أن كافكا قد نجح بالإفلات "جسديًا" من مصيره، إلا أن جزءًا صغيرًا بداخله لا يزال يتمنى قتل أباه، الأب الذي رمى عليه هذهِ اللعنة. ومن أجل وجود هذهِ الرغبة بداخله نراه يشعر بثقل مسؤولية جريمة لم يرتكبها.
عن إعادة بناء الذات وثقل الوقت:
"إن الحاضر المحض هو تقدم لا يمكن إدراكه للماضي الذي يلتهم المستقبل. في الحقيقة، كل إحساس نشعر به هو ذكرى مُسبقة.” - هنري برغسون.
لقد حدثت اللعنة الأولى من خلال ناكاتا، أما الثانية فهي على قائمة الانتظار. أثناء سكن كافكا في المكتبة، يظهر شبح سايكي وهي في عمر الخامسة عشرة لكافكا كُل ليلة. إذ تجمدت روح سايكي بهذا العمر عندما كانت غارقة في الحُب، الحب الذي تحطم عندما انتقل حبيبها إلى طوكيو وتوفي هناك جراء حادث. ولأنها لم تقدر على تجاوز الحزن، تُمضي سايكي بقية أيامها كما لو كانت ميتة. روحها الحيّة - الشبح - تغادر جسدها كل ليلة لتعود إلى الغرفة التي كانت لحبيبها لتنظر إلى صورته المعلقة على حائط الغرفة حيث ينام كافكا.
عندما يرى كافكا شبح سايكي لأول مرة، يُحدق نحوها مُطولًا، ويدرس ملامحها، وجمالها الشاحب، وجسدها الساحر. شبح سايكي يبدو وكأنه فاقدًا للوعي. تنظر نحوه سايكي أحيانًا، لكن نظراتها تتخطى إلى ما هو وراءه. يتظاهر كافكا بالنوم فقط لمواصلة النظر إليها بينما تجلس هي على مكتب غرفة النوم.
"يجب أن تكون شبح. بادئ ذي بدء، إنها جميلة للغاية. وذات ملامح رائعة. ليس هذا فقط. إنها مثالية للغاية وأنا أعلم أنها لا يمكن أن تكون حقيقية. إنها مثل شخص خرج مباشرة من حلمً ما. إن نقاء جمالها يمنحني شعورًا قريبًا من الحزن - وهو شعور طبيعي جدًا، أنه نوع الشعور الذي يمكن أن يثيره شيء غير عادي إطلاقًا."
قد وجد شبح سايكي طريقًا إلى قلب كافكا، وأثار الحزن بداخله. فهي لم تكن شيئًا جديدًا بالنسبة له؛ إنها ذاكرة محذوفة كان يحملها مرة وهي تخطو نحوه وتصب في روحة مثل رؤيا سابقة، أو مثل الدي جا فو. ولهذا الشبح وزنًا ثقيلًا ومثير، ورفضهُ لها لم يعد خيارًا، يتخطى كافكا حدوده ويستسلم لمصيره ويقبله. ذلك لأن هروبه الأول قاده إلى ما كان يخاف منه، وحتى هذا الهروب الذي لم يكن مصادفة، بل إنه مصير محدد مسبقاً ولا يمكن تغييره.
إن جميع الأشياء كانت مكتوبة قبل أن يتواجد كافكا بوقتٍ طويل. وهو لم يعد قادرًا على الاختيار بعد الآن فقد سبق له أن اختار من قبل ربما في حياة سابقة أو في منامه، أو حتى في جسدٍ (حاوية) آخر. السبب الوحيد لوجوده الحالي هو لمعرفة سبب اختياراته. ماضيه المؤرّق وهويته المليئة بالخطايا تزول بمجرد مواجهة كافكا لمخاوفه. الغوص بالكامل في الأعمال الأكثر سوداوية أعطاه حريته وخلاصه، وفقدان السيطرة كان طريقه الوحيد نحو الحرية المطلقة.
"الوقت يدفعك للأسفل مثل الحلم القديم والغامض. أنت تواصل التحرك، وتحاول النوم متجاوزًا إياه. ولكن حتى لو ذهبت إلى نهاية الأرض، فلن تتمكن من الهروب منه. ومع ذلك، يجب عليك أن تكون متأهلًا لتذهب إلى حافة العالم. هناك شيء لا يمكنك فعله ما لم تصل إلى هناك."
الإسقاطات الرمزية والألغاز واللاجدوى:
في الرواية يستخدم موراكامي الكثير من الإسقاطات ضمنيًا، وفي بعض الأحيان مباشرةً. من خلال الشخصيات؛ يكتب موراكامي أن أجسادنا عبارة عن حاويات لشيئًا أكبر يُسمى بالأرواح، وأن علينا النظر نحو الجسد والروح كشيئين مختلفين. يدانا، وأعيننا، والدم الذي يجري في عروقنا، وكل الملامح الموروثة ما هي إلا غلاف خارجي.
يعبر أكثر عن ذلك من خلال أوشيما في أحد فصول الرواية: "لو أننا عكسنا الغلاف الخارجي والجوهر ستكون الحياة أكثر سهولة للفهم" يطلب مِنا موراكامي أن ننكر كل الحدود والتعاريف التي تُحاصر أذهاننا وأحكامنا؛ فإن سايكي التي نظنها أم كافكا، قد تكون أمه فعلًا أو ربما قد تكون روحًا عابرة بداخل غلاف خارجي مختلف. وبالمقابل، كافكا قد يكون ابنها، أو قد يكون تجسيدًا لعشيقها!
إنها خُدعة رمزية. ففي الرواية لا يوجد دليلًا لكون سايكي والدة كافكا، لكننا نعتقد أنها كذلك وهذا ما يُشعرنا بالتقزز من علاقتهما لكن عندما نختار أن ننسى كونها والدته، تختفي هذه المشاعر!
موراكامي يتعمد في الرواية ألا يعطينا أي دليل يؤكد ما إذا كانت سايكي والدة كافكا أم لا. جرب أن تنسى جسد (حاوية) سايكي والأفكار المسبقة عن علاقتها بكافكا. لنُبقي أرواحهما فقط، مساحة بلا أوعية، أمازال من الخطأ أن يُقيم كافكا علاقة مع سايكي؟ إذا كان الجواب لا، فهل تتعارض أخلاقنا مفهوم مع الزمان والمكان والمعرفة؟ بمعنى آخر، لنتخيل ماذا لو أن أرواحنا تحررت من هذا الوقت، ومن منطلق معرفتنا الضحلة، ومن هذه الحاوية التي لم نخترها، هل ستظل أرواحنا مُلزمة بإتباع نفس القيم والأخلاق الأساسية التي نتبعها الآن؟ وما مقدار ما نعرفه حقًا عن الوقت والأرواح؟
"إن كل شئ ماهو إلا رمز"
من خلال هذه الطريقة (استخدام الغموض حول علاقة كافكا بوالدته وأخته) يكسر موراكامي جميع القواعد التي نعتقد أننا نعرفها عن الأخلاق. ذلك لأن الرموز الأخلاقية غير موجودة في الرواية، أنه يخلق مكانًا للاستعارات ونحن نمر بها بوعي ودون وعي أيضًا، مكانًا يطفو فيه الوقت والذكريات والأحلام والواقع تحت نفس السطح بطريقة تجعلك تعزل نفسك عما تعلمته مُسبقًا، بل حتى التطرف عليه وإنكاره تمامًا، ففي نهاية المطاف ما هو الحق واليقين فعلًا؟ وما هي الصورة المثالية؟ ومن صنعها؟ موراكامي يجعلنا نبدو مثل الروبوتات التي مُلئت وتعتقد أنها تعرف كل شيء ليأتي آخذًا الدليل اليدوي الذي امتلأنا به ويمزقه أمامنا، وعلى الأرجح أنه يستمتع بذلك..
نستطيع أيضًا أن نرى الرمزية في شخصية ناكاتا؛ فهو يبدو لنا كشخصية فارغة وجوفاء. يكاد يبدو بلا ملامح، إنه مثل الوعاء أو الحاوية التي تُمثل بحث كافكا عن هويته الحقيقية وتجسد صراع كافكا أيضًا.
هذهِ بعض الألغاز الأخرى التي أظن أني فككتها في الرواية:
عندما يُقابل ناكاتا والد كافكا -جوني والكر- يتناقشان حول العملية الأوتوماتيكية للحركة، تلك التي لا تتزعزع ولا هوادة فيها ويمكن أن تستهلك كل شيء بمجرد ترسيخها. وفي فصولًا لاحقة، يقرأ كافكا سيرة آدولف أيخمان وهو مجرم الحرب النازي الذي صمم الحل النهائي للقضاء على اليهود. يقرأ كافكا أنه في محاكمته، لم يستطع أيخمان معرفة سبب مُحاكمته وأنه كان مجرد فني وجد الحل الأكفأ للمشكلة التي كٌلف بها! أيخمان كان يحرق اليهود كعملية أوتوماتيكية دون تفكير. أيضًا، جوني والكر اسم لشركة خمور، وشعارها "سوف يأخذك الفرح إلى أبعد من ذلك. واصل السير - Joy Will Take You Further. Keep Walking"
ناكاتا يخسر القدرة على التحدث مع القطط بعدما يخسر كافكا عُذريته.
بدا لي أن ناكاتا يلاحق سايكي لإرسالها إلى العالم الآخر، ولكن قبل ذلك تطلب منه سايكي أن يحرق يومياتها. فنراها لاحقًا في العالم الآخر تقول إنها تفقد ذكرياتها الماضية تدريجيًا. هل هذهِ استعارة على حرق يومياتها؟ هل ما نفعله في هذه الحياة سيكون له تبِعات في العالم الآخر؟
بعدما يخسر ناكاتا قدرته على التحدث مع القطط، تتجه القطط إلى هوشينو. وفي ذلك استعارة لانتقال روح ناكاتا إلى هوشينو.
أوشيما هو متحول جنسي، وفي مسرحية أوديب شخصية تُدعى ب (تيريسياس) وهو معروف لكونه مُستبصرًا للقدر وهو أيضًا قد تحول إلى امرأة لمدة سبع سنوات. تيريسياس كان الرائي الأعمى الذي عرف لعنة أوديب وأجبره على مواجهة حقيقة هويته. وفي المقابل، أوشيما لا يشبه تيريسياس في التحول الجنسي فحسب، بل إنه أيضًا الشخص الذي يقدم لكافكا مكانًا في مكتبة سايكي مما يجعله أقرب إلى تحقيق النبوءة.
كافكا يختار لنفسه هذا الاسم، نحن لا نعرف اسمه الحقيقي. وكافكا تعني "الغُراب". بينما شخصيته الآلتر ايغو تُسمى بالـ"الفتى الذي يُدعى بالغُراب”.
يبدو أن للدم رمزيةً ما في الرواية؛ ففي بداية الرواية، يقول الغُراب "سوف تنزف أيضًا، دمًا ساخناً وأحمر. وسوف تأخذ هذا الدم من يديك، ودماء الآخرون". ثم نرى في نهاية الرواية كافكا يلعق دم سايكي: "دمها ينزل في أعماق حلقي.إنني أمتصه بهدوء نحو الطبقة الخارجية الجافة في قلبي. الآن فقط أفهم كم كنت أريد هذا الدم "
والد كافكا هو رسام وأحد أشهر أعماله هي المتاهة (The Labyrinth)، وهذهِ استعارة للمتاهة الإغريقية. وهي متاهة متقنة أُجبر ثيسيوس على التنقل فيها لقتل وحش مينوتور المختبئ في أعماقها. في الرواية يشرح أوشيما أصل مفهوم المتاهة لكافكا:
"سكان بلاد ما بين النهرين القدامى كانوا يُخرجون أمعاء الحيوانات – وأحيانًا أمعاء البشر، كما أظن- ويستخدمونها للتنبؤ بالمستقبل. لقد كانوا مُعجبين بالتكوين المعقد للأمعاء، ولهذا فإن أساس كلمة المتاهة، هو كلمة الأمعاء. مما يعني أن مبدأ المتاهة بداخلك، ويتداخل هذا مع المتاهة الخارجية".
حقيقةً، لم أستطع التفكير في رمزٍ أفضل للحياة من المتاهة؛ إن الحياة حقًا متاهة عظيمة والوحش الموجود فيها يُمثل الكثير من مخاوفنا وآمالنا وخطايانا. وأن الطريقة الوحيدة لإعادة بناء هويتنا تستند على من نكون، كما قال أوشيما: الحياة بداخلنا نحن.
إن السعي إلى أن نكون وأن نحلم وأن نخطئ إنما هي مسارات ضرورية وقسريّة في الحياة. ومعنى الحياة يوجد في اللحظات التي نشعر فيها بالوضوح المُطلق لمسارنا، وبتجلي الأشياء أمامنا، وأخيرًا في المغفرة التي نُقدمها لأنفسنا. مغفرة كافكا لأمه أعطاه هذا النوع من الوضوح والسلام الداخلي. أن نترك الأشياء تعبرنا بِسلام، وأن نؤمن أن كُل شيء في نهاية المطاف سوف يأخذ مساره الصحيح وأنُه لا سبيل لتغيير ذلك هو الطريق الأسلم لتحريرنا وتخليصنا من الشعور الدائم بالذنب. إن رواية كافكا على الشاطئ تُعلَمنا أن اختيار الحياة دومًا والاستيقاظ على حقيقتها هي الشجاعة المحضة.