top of page
  • Writer's pictureوليد الرجبان

الذات

«أنا؟» - انسان.


أسرار الأفق - رينيه ماغريت
أسرار الأفق - رينيه ماغريت

ما زال قول سقراط «اِعرِف نفسك!» يتردد صداه إلى هذا اليوم ورغم اختلاف آراء الفلاسفة، فلا يوجد مخطط يطرحه أحدهم للنفس باستثناء ديكارت وتحولات نيتشه إلى الإنسان الأعظم برمزيات الروح الثلاثة: الجمل، فالأسد، فالطفل التي تفتح مجالات لتفسيرات كثيرة، إلا أن كل تلك النظريات لم تأتِ بتعريف واحد لمعرفة النَّفس. يقول ديكارت في تأملاته: يَعرف المرء نفسه إذا كان مُدْرِكًا لأفكاره ومشاعره، لكنِّي أرفض تعريفه هذا الذي لا يجعلني لا شيء سوى نتيجة (أي الأفكار والمشاعر) ولا أعلم حقًّا مصدرها.


حرف الألف، قد يكون بداية الكذبة الأولى التي كذبنا به على (أنفسنا)، أو نتيجة المعصية عندما (بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا) – الأعراف، ٢٢.


تختلف الحضارات وأهلها بالطريقة التي يشيرون بها إلى أنفسهم لكن في جذور اللغات والمصطلحات التي تنقل معنى (أنا) التي وُجِدت في اللغة الأفريقية الآسيوية البدائية وعن اللغة الهندية الأوروبية البدائية تبدأ بحرف أَ أو إِ. فكلمة أنا، تعود إلى كلمة (أناكو) والتي اُشتقت منها كذلك العبرية التي أعطتنا (أني/إِياه). المثير للاهتمام، أنَ الحضارات الشرقيَّة تستخدم وَ أو وُ للتعبير عن (أنا) في لغتها، إما في فلسفاتها فثمة إهمال لمعنى الـ أنا. إذ اُعتبرت كشيِء صادر عن خيال العقل وجزء من العالم بأكمله.

الجدير بالذِّكْر أنَّهُ في البوذيَّة، التي يُرى أنَّها ابتدأت من اللغة البالية، كانت تعاليم بوذا تنص أن يتجنب أتباعه اللغة السنسكريتية، الكلمة التي تصف الكبرياء في البالية هي الكلمة نفسها التي تصف الـ (أنا) في السنسكريتية (أهام). (١-٣)

علم الأعصاب كذلك لا يُساعد قضيَّتُنا حيث لم يُثبَت مركز لهذه الأنا صاحبتنا.

على أيَّةِ حال، لا أرى أنَّ هذه نقطة خلاف لنا وليس هنا حديثنا؛ فأنا هي فكرتي لإدراكي بنفسي وبما حولي وأرى أنَّ الفلسفة الشرقيَّة قتلت هذه الفكرة للهروب من العلاقة الحقيقية للإنسان بهذه الحياة وبما بعدها ومِن أهم سؤال يسأله الإنسان نفسه: «من أنا؟».

الهويَّة

”أنا رجلٌ مريض... أنا رجلٌ شرير. بالأحرى؛ أنا رجلٌ مُنفِّر“ – مذكِّرات في قبو، دوستويفسكي.

هذا ما كتبه رجل القبو في بداية مذكِّراته لنا وأسهب لنا في الكذب ليوصِل لنا فكرة عن نفسه، لكنها كانت بعيدة عن الحقيقة. فحينما يتحدَّث الفكر الغربي عن الهويَّة من منظور فلسفي، سنلاحظ فورًا أن ثمة فارقًا بين العربية والإنجليزية في مفهوم هذهِ الكلمة بين اللغتين؛ إذ إنَّ الأخيرة قد تسببت في مشكلة فكريَّة نوعًا ما. فكلمة (هوية) باللغة الإنجليزية آتية من كلمة متطابق/متشابه وهي من جذور لاتينية، أي أنَّ الفِكر الغربي قُيِّد باللغة. بمعنى أنَّهُ ثمَّة افتراض أن الناس متشابهون. لذا، كانت هنالك محاولات اختزالية لتقسيم هذه الهوية إلى رقمية (عددية أو اسمية) أو خصائصيه. فعلى سبيل المثال: إذا كان معاذ قد خسر ذاكرته، هل يبقى معاذ؟ وإذا قد خسر معاذ سمعه أو بصره، هل يبقى معاذ هو معاذ؟


طبعًا، هذا النقاش سيبدو منطقيًّا فقط حينما نأخذ بعين الاعتبار أن الإنسان ليس سوى جسد ودماغ. أما من ناحية الهوية، فالتعريف اللغوي للهوية هي ماهية الشيء وجوهره ونفسه، وبالتَّالي هي نقيض هذا الاختزال وتُرِكَ سرُّ الهوية وجوهرها للمسؤول عنها. ولهذا أجد أن العرب يرون هذه الهوية على أنَّها ميتافيزيقية غير اختزالية بفضل اللغة والدين. وإذا حاولنا أن نترجم مصطلح الهوية من اللغة الإنجليزية ترجمة حرفيًّة قد تصلنا مفردات مثل: تماثل أو تطابق . المثير للاهتمام هنا هو أصل كلمة ماهيَّة يعود إلى مائيَّة، ولكن قلبت الهمزة هاء وفي رمزيات كارل يونغ في اللاوعي الشامل أو الجماعي، الماء يرمز إلى اللَّاوعي!


لوحة ابن الإنسان - رينيه ماغريت
لوحة ابن الإنسان - رينيه ماغريت

نرى في اللوحة التفاحة تحجب جزءً من وجه الرجل في إشارة إلى إخفاء هويتنا عن النَّاس وربما عن أنفسنا كذلك، كما قال رينيه عن اللوحة: «كل ما نراه، يحجب شيئًا ما».


هويَّة الإنسان تتطور عبر الأزمان وتتطور هويَّة المرء أثناء حياته. وإن كان جون لوك يرى أن هويَّة الإنسان هي نفسه، ولا ألومه على ذلك، فقد سبق وعرفّنا الهوية على أنَّها جوهر المرء. لكن لو أخذنا عبارة «حدِّثني عن نفسك»، فسنرى أن إجابات هذا السؤال ستختلف اختلافًا تامًّا بناءً على السائل، فالإجابة ستختلف لو كان السؤال صادًرا من موظفة الموارد البشرية أو من الطبيب النفسي؛ فحينما تسألنا الأولى تأملُ هي ألَّا تسمع منك خصال قد تجعلك تشعل النار في مكان العمل، أما الأخير فهو يأمل أن يستمد منك خصال سبب إشعالك النَّار في مكان العمل!


في هذهِ الحالة، نرى أن تعريف الهوية قد تغيَّر وأصبح تعريف اصطلاحي يتماشى مع سياق المراد بتعريفه. بعبارةٍ أخرى، أصبحت الهويَّة في الحقيقة مجرَّد أقنعة نرتديها باختلاف الحفلة المراد لنا حضورها وإجابتنا عن الأنا متقلبة بتقلُّب الظروف.

إن كانت مجموعة الهويَّات حلًا مؤقتًا لزمننا الآن، فأرى أنَّها تحمل عواقب وخيمة على مدى الأجيال القادمة، خصوصًا أن التَّباين قد أصبح واضحًا في ذواتنا باختلاف الأقنعة التي نرتديها، وذلك يعوز إلى توسع دائرتنا المعرفية ومحيطنا الاجتماعي الذي يغطي الكرة الأرضية بخلاف العقود الماضية. فإن كانت لا وجود للهويَّة دون مؤسَّسة، (سواء كانت مؤسسة ذاتية، وطنية، دينية، رقمية، مهنية، لغوية، منزليَّة.. إلخ)، فمن المنطقي إنْ نقول إنَّ لكل مؤسَّسة الـ أنا الخاصَّة بها للفرد. وما يُعطي هذه المؤسَّسات قيمتها هو أفرادها وقوانينها وموازينها الأخلاقية. وزيادة الانتماء للمؤسَّسات يعني أن يأتي أحدها على الآخر إلى أن تفقد المؤسَّسة الأضعف قيمتها. كما أنَّها قد تفقد قيمتها حينما لا يكون ثمة تعريف مُحْكَم للـ (أنا) الخاصَّة بأفرادها، مثلما نرى الآن في الهوية الجنسيَّة في الغرب.


من جانبٍ آخر، يضمحل العقل الفرد وينتن قلبه حين تتصارع هذه الهويَّات مع بعضها، فهنالك الـ أنا الذاتية و الـ أنا المخفيَّة، التي لا يعلَمُها سوى المتحدِّثُ بها يعرف صاحبها بآثامها (أو يُحاول معرفتها) ووحيدًا يبحث عن حلول أسرارها بينما توبخه بعد نهاية يوم طويل في العمل أو مع أصحابه، إذا ما أتى وقت انتزاع القناع عنها لتصرخ به: «كيف لك أن تسبغني بهذا اللون القبيح وذاك؟!»


النَّفس

”كنت أمارس جنوني بالليل بخفيّة وخجل، وأنا منفردٌ بنفسي، وقد تشبَّعت دواخلي بالخوف والعار والخزي، وهي تلك المشاعر التي لم تبارحني أبدًا حتى في أحطِّ اللحظات التي تفضي بالذات إلى اللعنة. لقد ظلت روحي منذ تلك اللحظات تحمل في دخيلتها قبوها القاتم. وكنت أعيش خوفًا شديدًا من أن يراني، أو أن يصادفني، أو أن يتعرف عليَّ أحد ما من معارفي .“ - مذكِّرات في قبو، دوستويفسكي.

طال الزَّمن أو قصر، لا مهربٌ للإنسان من نفسه؛ فهي الصُّورة المبهمة التي يعرِّف نفسه بها حينما يقف وحيدًا أمام المرآة وهي المرَّةُ الوحيدة التي يُعرف بها الانسان نفسه كـ (أنا أنا) فقط لعجز الكلمات عن الحديث عنها وعن صفاتها، ليس له إلَّا ترجمة إرادتها ورغباتها ومشاعرها عبر وسائل الفنون أو الكتابة أو غيرها، ولطالما -من حُسنِ حظِّ الحضارات وسوء حظِّ المرء- أنَّ ترجماته لم تكن كافية، فسيَجد نفسه وحيدًا معها، لا يُجيْد الحديث معها أو جعلها تُنصِت له. هو أكثر ما قد يكون من الوحدة معها. ومع هذا، لا يبدو لي أنَّ للإنسان مهربٌ من وحدته إلَّا لنفسه، فهي حافظة أسراره ومخبأه الذي يلوذ إليه ونراها تُحكم قبضتها عليه في ضِعفِه ونجده يقول كلمات لم يعنها في حين ويشعر بأنَّ عقله سينفجر من الخوف عندما تدس له مخاوفه من خلف السِّتار في حينٍ أخرى. لا أعلم من النَّفس بالنَّفسِ إلَّا خالقها. وفي حالات انفرادنا مع أنفسنا، جميعنا مجانين كرجل القبو.

السؤال الأزلي، السؤال الذي أعمل جاهدًا الإجابة عليه هو :من أنا؟

كرّس العديد من عمالقة القرن الماضي ممن عَمِلوا على التحليل النفسي: فرويد، يونغ، جاك لاكان، ماسلو وغيرهم جهودهم للتحليل النفسي وبرغم اختلاف مدارسهم وأفكارهم إلا أنهم اتَّفقوا على أنَّ العقل الباطن أو اللَّاوعي هو المحرِّك الأساسي لدوافع الإنسان، هذا بفضلِ فعَّاليَّة معظم وسائلهم للعلاج في ذاك الوقت والتي ما زالت تستخدم في وقتنا حتَّى الآن، لكن لم يُثْبِت علم الأعصاب هذه المحتويات الدَّفينة في العقل وبالنَّسبة لهذا المجال، فاللَّاوعي لا يحتوي إلَّا على ذكريَّات وردَّات الفعل والمهارات المكتسبة كالقيادة.


كما أنَّه لم يُسْهِب أحدٌ منهم كما فعل كارل يونغ في نظريَّتِه للتفرُّد، إذ قال إنَّ حياة الإنسان بمجملها هي محاولة للوصول إلى تلك المرحلة. بمعنى آخر، أنَّه لمن المستحيل أن يصل المرء إلى التفرِّد التَّام، وهي مرحلة لا يصل إليها الإنسان إلا حينما تكون محتويات اللاوعي الخاصة بهِ في وعيه. حتى هذه اللحظة، ما زالت علوم النفس والأعصاب في بداياتها وبعيدة عن الإجابات الشافية على أسئلتنا عن النفس ­-وقد نفى الأخير وجودها، مُتماشيًا مع الفلسفة الشَّرقيَّة-.

” نحن ذوو المعرفة لا نعرف أنفسنا، ولسبب جيِّد. فكيف إذًا نُعرف أنفسنا؟ وما صحَّة قول: أينما كان كنزك ستجد في مكانه قلبك؟“ - في جينيولوجيا الأخلاق، فريدريك نيتشه.

ثمَّة اختلاف كبير في تفسير المقولة السَّابقة كما هو الحال في كثير من كتابات نيتشه المليئة بالرمزيَّات.لكن الأهم، أن نيتشه قد سَبق فرويد ويونغ في الحديث عمَّا هو أجلّ من معرفة المرء (السطحية) لنفسه، أو الوعي، وهو وجود وعاء أعمق كُتِبَ فيه أفكارًا وغرائز ورُسِمت على جدرانه رموزًا تجعل من لا يعي بها في حالة من الاشمئزاز من تصورها. لكن للأسف، ومع كثرة تآويل كُتُب نيتشه، تظل رموزهِ ناقصة مقارنة بيونغ. هكذا، قد فشلت الفلسفة كذلك في الإجابة عن سؤالي.

القرآن الكريم قد تطرق إلى النَّفس في أماكن عديدة، ففي سياقنا هنا عن النَّفس، أتت في القرآن من جانب الخير والشَّر في مواقف عِدَّة، لكنِّي أرى أنَّ أهم آية في حديثنا هنا هي من سورة الذَّاريات:

”وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنفُسِكُمْ ۚ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)“ - القرآن الكريم.

إن الصُّورة التي تكونت عن أنفسنا هي نتيجة انعكاس رؤيتنا لهذا العالم الذي نعيش، لهذه البيئة التي تحيط بنا. لكن هذه الصُّورة ليست بالكاملة؛ إذ إنَّ الصُّورة الكاملة لهذه النَّفس ما زالت مخفيَّة، وهنا نحتاج للبصيرة، لتلك العين التي ترى من خلف الأمور. «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ». الآيات المقصود بها لا تُرى عظمتها وقدرة خالقها إلَّا بتفسيرها، واحدى تلك الآيات «فِي أَنفُسِكُمْ ۚ»، لكن ما هي البصيرة هنا؟

أنا:

إنَّ تعريف المرء لنفسه (البصيرة: أي الإدراك) يجمع ما بين القسمين الفلسفي والنفسي: الأول في الإدراك بالمشاعر والأفكار التي بوعي المرء، والثاني في علم النَّفس التَّحليلي ليونغ عن طريق الإدراك بمصادر الأفكار عبر دراسة اللاوعي، بالإضافة أنَّ اختزال هذه الأفكار إلى كلمات يُجرِّد من قيمتها. لكن مهلًا! إذا افترضت أنَّ هذه النَّفس وما يُشكِّلها هي مجرد أفكار والأخيرة مُجرَّد عمل انقدح في الذهن نتيجة للوظيفة العقلية، فهل هذا يعني أنَّني عُدت لنقطة البداية؟ وأنَّ النَّفس حقًّا وهم كما يدَّعي البوذيُّين؟


هذه الفكرة عن أنفسنا التي تمثلت على شكل رمزي أو صورة ما ليس لها تأثير فقط على العالم الداخلي للمرء (وإن كان ذلك كافيًا لديكارت أن يُثبت وجوده) بل أيضًا على العالم الخارجي كذلك (أو كما نتصوره على الأقل).


لطالما رفضت فكرة رؤية المرء نفسه عبر عدسة حرفته؛ فهي ناقصة والإنسان الذي اُبتلِي بالعجز عن الحركة والكلام ستثور نفسه في محاولة لإيجاد تعريف غير هذا وأرفض اختزال الصفات نفسية التي امتازت فقط بمصطلحات اُطْلِقت عليها بناءً على فهمنا الذي ما زال بسيطًا عن جوهر الإنسان. على سبيل المثال، مؤشر مايرز بريغز للأنماط الذي اشتهر بتقسيم رؤية الناس للحياة إلى ستة عشر قسمًا، أو أن صفات النَّاس عبارة عن طيف يتراوح بين تلك الصِّفات، فهي كذبات علميَّة مُستحدثة، بُنيَت على نظريات كارل يونغ ونرى تناقض ما قام به هؤلاء مع نظرية الأخير في التفرَّد.


أخيرًا، قد يكون جلَّ بحثي عن تعريف لهذه النَّفس ليس سوى تراهات، أو قد خلطت الحابل بالنَّابل بإجاباتي البدائيَّة ولعلي أركض في حلقة مفرغة، فقد يمضي ألف عام حتَّى يصل العلماء والفلاسفة للإجابة عن سؤالي، بل قد تكون الإجابة واضحة للجميع، لكنِّي بجهلي أرفض تصديقها. وإنَّ طرحي لهذا السُّؤال هو من التفاهات التي لطالما تطرقَّت إليها، وأنكم جميعًا تتعجبون من حديثي هذا وترونني كمجنون دوستويفسكي، لكن حتى وقت خروجي من كهفي، أو إفاقتي من أوهامي، سأظل أحاول معرفتها وأن أجد بصيرتي.


 

المصادر:

1. The Semitic Languages (Routledge Language Family Series) 2nd Edition. By John Huehnergard.

2. The Pali Text Society’s Pali-English Dictionary.

3. Why did the Buddhists adopt Sanskrit? by Vincent Eltschinger.

4. Identity – Stanford Encyclopedia of Philosophy.

5. Collected Works of C.G. Jung, Volume 9 (Part 2): Aion.

6. مذكرات في قبو - دوستويفسكي. ترجمة أحمد الويزي


bottom of page