خرجت يوم الأربعاء الماضي، بعدما أدرت ندوة حوارية عن السعادة، وللمفارقة لم أنم سعيدًا تلك الليلة! تذكرت قبل أن أنام موقف المغني المغربي سعيد الزيناني فقد سُئل، وهو في أوج شُهرته، إن كان سعيدًا كما هو اسمه خصوصًا بعدما جمع بين المال والشهرة، فأجاب: "أنا سعيـ"، وما زلت أبحث عن الدال. ثم تدين بعد فترة وترك الغناء، ليتحول إلى داعية، ويحصل على دال السعادة ودال الدعوة.
من التحديات في الحديث عن السعادة، صعوبة الاتفاق على وجود تعريفِ لها، إذ يُعرفها البعض بالرضا، وآخرون بالمتعة، والبهجة، وراحة البال، وخلو الهم، والاستقرار النفسي. لكني سأعتمد على تعريف علماء النفس؛ الذي يرون أن السعادة تتحقق عندما تزيد الأحاسيس الإيجابية عن السلبية في فترة زمنية محددة. ولأن لا يُمكن لأحدهم أن يستحوذ عليه شعورِ إيجابي طيلة حياته، أتذكر هنا الطُرفة التي أوردها ابن كثير عن الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك، فقد طلب ممن حوله ألا يدخلوا عليه أي كدر في حياته، واجتهد الخدم في تقديم كل ما يُحسن من مزاج الخليفة، لكن بينما هو في القصر، سقطت عليه ريشة حمامة فيها بقعة دم، فتكدر وقال "يا رب، ولا يوم واحد!"
حين أعود لتحليل شعوري تلك الليلة بالتعاسة استغرب ما حصل لي، فبناءٍ على تعريف علم النفس، يُفترض أن أكون سعيدًا لأن معظم ساعات اليوم كانت تتخللها أحاسيس إيجابية بدءً من الإفطار الشهي حتى تصفيق الحضور نهاية الندوة! لكن ما أثر في مزاجي تلك الليلة كان تعليق أحدهم الذي أعرب فيه عن عدم رضاه عن الطريقة التي أدرت بها الندوة. يذكر الدكتور باري شوارتز في كتابه معضلة الاختيار دراسة نفسية لقياس مستوى السعادة بعد التجارب وقبلها، وجدت الدراسة أنه لو حصل لك تجربتين متماثلتين: السفر مثلًا، لكن الأولى بدأت بموقف سلبي، بينما انتهت الثانية بموقف سلبي، فعلى الأرجح أن تقييمك سيكون أعلى للتجربة الأولى، أي لو أتاني التعليق السلبي في بداية اليوم، لاعتبرت نفسي سعيدًا فيه!
هل تعكس هذه التجارب، كوننا كائنات غير عقلانية، لا نُحسن تقييم اللحظات الإيجابية في تجاربنا؟
في محاضرته يشرح دان جلبيرت لماذا نتخذ قرارات سيئة، أنه لو أعطيت شخصا جالسًا مع مجموعة 100 ريال فقط، فسيكون سعيدًا، ولكن لو أعطيت كل شخص في المجموعة 100 ريال، فستقل سعادته! أما لو أعطيت كل شخص 200 ريال، ولم يتلق هو سوى 100 ريال، فسيشعر بالحزن! هذه المقارنات لا تقودنا فقط إلى اتخاذ قرارات سيئة، إنما تجعلنا نشعر بالتعاسة. فحينما نتخيل موقفًا معينًا، ولا يتوافق مع توقعاتنا، سنشعر بالتعاسة حتى لو كانت النتيجة الفعلية مُرضية.
إذا كانت لا عقلانيتنا كما يرى كُلًا من شوارتز وجليبرت تدفعنا لمقارنات سخيفة تجلب التعاسة، فهل تكون العقلانية هي الحل؟ نلاحظ أن من يُصنفون على أنهم عقلانيون لديهم حيوات رتيبة. أتذكر هُنا، إحدى حوارات مسلسل ساينفيلد، حينما يرفض جورج كوستانزا مصاحبة أصدقائه للسينما لأنه قادر على مشاهدة الفيلم مجانًا في شقته، فلم يدفع سبعة دولارات في السينما؟ ليرد عليه صديقه كريمر: "لماذا نذهب إلى المطاعم إن كنا قادرين على تسخين الأكل في الميكرويف؟"
السعادة بين الدين وميزان الحياة العادل:
يتحدث بعض المتدينين عن تجاربهم الروحانية، وكيف قادتهم إلى السعادة. ومن الصعب بالتأكيد التحقق من صحة هذه التجارب لأنها ذاتية بحتة. فبعد التجربة الروحية تكون المكافأة غالبًا غير مباشرة، فعندما يعبد المرء الله، يُكافئ بالسلام والرضا. ومع ذلك، إذا سعى المرء إلى السعادة من خلال عبادته بدلاً من البحث عن رضا الله، فعلى الأغلب أنهُ لن ينالها. تحكي لنا الأدبيات الصوفية قصة أحمد بن مسكين الزاهد، الذي دعا لصياد أن يرزقه سمكة، فاستجاب لدعائه، وعندما أراد الصياد أن يُطعمه من الحلوى، رفض و قال كلمته الشهيرة: “لو أطعمنا أنفسنا هذا، ما خرجت السمكة!"
لا شيء يُقدم أحاسيس إيجابية بلا مقابل، يحكي جوناثان هايت في كتابه فرضية السعادة، أنه يُعاني درجة عالية من القلق لأسباب جينية تجعله يعيش لحظات تعيسة لفترة طويلة. لذلك بدأ بتناول عقاقير، التي أذهبت عنه القلق، لكنها بالمقابل تسببت بفقدان جزئي للذاكرة، فقرر الإقلاع عنها لأن عمله الأكاديمي يتطلب منه ذاكرة جيدة. هُنا، فضّل جوناثان هايت المجد الأدبي على الأحاسيس الإيجابية.
تذكُرنا مؤلفة كتاب أمة الدوبامين أن أدمغتنا مصممة للحفاظ على التوازن بين المتعة والألم، فعندما نشعر بالجوع، يمكننا الاستمتاع بوجبة، كما قد يجد الأشخاص الذين يعيشون حياة خالية من أي ألم، أن شعورهم بالمتعة يتضاءل. وقد يُفسر هذا لما ينزعج المترفون غالبًا من الأمور التافهة التي يراها الآخرون غير مهمة. لذلك أعتقد أنه لا يمكن لشيء أن يمنحك السعادة الدائمة، سواء كان تحقيق الأهداف، أو إشباع العواطف، أو الحصول على وظيفة مرموقة، أو صديق مخلص أو هواية ممتعة.
ما عليك فعله هو القيام بما تعتقد أنه صحيح بإتقان، إذا كنت طالبًا، فادرس بجد، إذا كان لديك عائلة، اعتز بها، إذا كنت موظفًا، فابذل قصارى جهدك. ذلك لإن القيام بالشيء الصحيح بإتقان سيجلب لك لحظات إيجابية أكثر من السلبية، ووفقًا لتعريف علماء النفس، ستكون سعيدًا.
留言