top of page
Writer's pictureعبدالعزيز الهويدي

الذكاء الاصطناعي: عودة إلى عوالم السحر والخيال؟

في أحد اللقاءات يعزو الفيلسوف دانيال دينيت سبب وجود حكايات الأشباح والخرافات إلى طبيعتنا البشريّة التي تميل إلى تفسير المؤثرات غير المعلومة المصدر بالخرافات والأساطير. الكلب، مثلًا، حال سماعه صوتًا غريبًا، كندف ثلج ساقط من السقف، يهبّ غريزيّا، ويتأهّب بحذر وينبح متسائلاً عما يحدث، وعن مصدر هذا الصوت:"من هناك؟ ماذا يحدث؟ أثمة متسلل أم معتدِ؟" وذلك بسبب الإحساس بطرف فاعل دون رؤيته. في النهاية، يعود الكلب لحاله، إلا أن ذلك  يحدث بطريقة مغايرة مع البشر؛ فإن ذهب أحدهم إلى الغاب ليصطاد، وسمع وشاهد أشياء غريبة لا يستطيع تفسيرها؛ فمن الفزع ستتمثّل في ذهنه مخلوقات أو أسباب خياليّة، وسيحكي بعدها عما شاهده (أو خُيل له) لرفقائه، وعلى الأرجح أن أحدهم سيضيف للقصة تفاصيل متخيلة أخرى.


  دانيال دينيت - فيلسوف وكاتب وعالم إدراكي أمريكي.
دانيال دينيت - فيلسوف وكاتب وعالم إدراكي أمريكي.

بعد الضجّة التي أحدثتها برامج المحادثات للذكاء الاصطناعي، خرج بليك ليموين، مهندس بشركة جوجل، ليخبر الصحافة عن ذكاء اصطناعي تطوّره الشركة سرّيًا تدعى "لامدا"، حيث قال بأنّها تشبهنا إلى حدّ مخيف وقادرة على تطوير وعيّ ذاتي بنفسها.  ليموين كان قد سأل لامدا عن الأشياء التي تُشعرها بالمتعة، فأجابت: "قضاء الوقت مع الأصدقاء والعائلة"، فأخبرها بأنها ذكرت له مرات عديدة أنها قامت بأشياء معينة، مثل الجلوس في فصل دراسي، وهو ما لم يحدث في الواقع، لمعرفة ما إذا كانت تُدرك أنها تختلق الإجابات، فردت لامدا بأنها تحاول أن تفهم، وتُفهم من يحادثها، وأنها لا تجد مفردات أفضل لشرح بعض ما تشعر به وفق مفهوم يفهمه البشر.


تحدثت لامدا أيضًا عن خوفها من نسيان الناس لها، وأن ذلك يُعادل الموت بالنسبة إليها، وهو ما أثار حفيظة ليموين، إذ بدت لامدا في تلك اللحظة أكثر من أداة ذكاء اصطناعي، واستشعر ليموين بأن وعيها قد يستيقظ يومًا ما! هل هي مسكونة؟ أينقصها كود برمجي أو طلسم رقمي ليوقظها؟ وهل يؤمن المبرمجون أصلًا بالسحر؟ يُعرف بعض علماء الأنثروبولوجيا السحر بأنه كلمات وعبارات تُحدث أثرًا خارقا للعادة أو تغييرا لحالة معيّنة . وبالمثل، فإن الكود البرمجي هو تعليمات مكتوبة بلغة برمجية معينة، تُحدث تغييرات واضحة في الحواسيب. في كلتا الحالتين، ثمة تعليمات وعبارات تؤدي إلى تغييرات ملموسة. الأدب  العالمي والفلكلور الشعبي يمداننا بمثل تلك العبارات والتعليمات ذات الأثر السحريّ. مثلاً، "افتح يا سمسم" و "ابراكادابرا". تجربة الخوض بنقاش كهذا مع لامدا، جعلت من ليموين يبدو وكأنه قد عاد للتو من رحلة صيد مخيفة!


أيُمكن للعلم أيضًا أن يتخيل ويصنع الخرافات؟

يؤكد ألبرت أينشتاين أن الخيال أهم من المعرفة، ذلك لأن المعرفة محدودة بينما الخيال لا نهائي. كما تُشير نظرية أينشتاين النسبيّة إلى حقيقة أقرب للخيال؛ ففي "مفارقة التوأم"، إذا سافر أحد توأمين على متن سفينة تقترب من سرعة الضوء إلى كوكب آخر، وعاد بعد أربع سنوات (مضت على كوكب الأرض)، فسيجد أن أخاه قد كَبر بفارق أربع سنوات، بينما لم يزد من عمره هو إلا بضعة أشهر فقط! ولو قلنا للناس في عصر الإيمان بالخرافات عن سفينة كهذهِ لاعتبرونا واهمين! يبدو أن الميل في هذا العصر إلى الحقيقة والتفسير المنطقي المجرد لم يجعلنا محصنين من الخرافات؛ فالمنطق ليس بالضرورة التمثيل الوحيد الذي يُمكن أن نبني عليه رؤيتنا للواقع، إذ قد يكون مجرد افتراض تختلقه عقولنا بأبسط صيغة، خالية من الجمالية والخيال، ونفضل الاستناد إليه لعموميته وسهولة التعاطي معه وإمكانية إخضاعه بحدود الاختبارات التجريبية الى حد يُمكن معها تنظيم الأفكار وسياقه بخطابِ مقتضب. ومن يدري؟ قد يرى بشر المستقبل تصورنا الحالي لشكل الذرة كما نرى اليوم تصور العالم القديم لشكل الأرض المسطحة والكون الذي كان مركزه الأرض! فمع أن هذه الأفكار تبدو لنا الآن أوهامًا وخرافات، إلا أنها كانت تُمثل رؤية حقيقية ومنطقية للكون في ذلك الوقت.


الساحر المشهور قديمًا، زان زيج في خدعة القبعة والأرانب، (1899).
الساحر المشهور قديمًا، زان زيج في خدعة القبعة والأرانب، (1899).

ليس غريبًا أن يغدو الذكاء الاصطناعي، بفضل تفسيراته التي تعتمد على مرجعيات رياضية ومنطقية، مصدر إلهام للخيال والخرافات المحتملة. ما يُفترض أنه كائن يتبع سلوكًا محددًا بوساطة خوارزميات دقيقة، تستمد معلوماتها من بيانات مخزنة مسبقًا في ذاكرة سحابية، وهو ما يشبه قانون الحفاظ على الكتلة الكيميائي:


"في أي تفاعل كيميائي، يبقى مجموع كتل المواد المتفاعلة مساويًا لمجموع كتل المواد الناتجة عن التفاعل، ويبقى إجمالي الكتلة ثابتًا في نظام مغلق بغض النظر عما يحدث"

مع ذلك، نظرًا لأعمالنا الأدبية وأفلام الخيال العلمي، لا نخفي قلقنا من أن يتجاوز الذكاء الاصطناعي حدوده الحالية يومًا ما، ويكتسب وعيًا أو إرادةً أو حتى حريّة. وكلما تطور الذكاء الاصطناعي، وأدهشنا، زادت مخاوفنا من الخيالات التي قد تنشأ حول ما قد يجلبه بعد ذلك.


 


مصادر:

(1) صحيفة واشنطن بوست: خبر مهندس جوجل  بليك ليموين.

(2) كتاب مقدمة قصيرة جدا عن السحر, تأليف أوين ديفيز، ترجمة رحاب صلاح الدين، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

(3) كتاب مقدمة قصيرة جدا عن النسبية، تأليف راسل ستانارد، ترجمة محمد فتحي خضر، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة.

bottom of page