أن تسمع فقط ما تُرد سماعه، وأن تُحيط نفسك فقط بمن تُريدهم حولك، وأن لا تقرأ إلا ما يعنيك وأن لا تعرف إلا من يُشبهك تاركًا خلفك ما يُعكر مزاجك لتبني جدران وهمية تحميك. أليس هذا كُله حالة من الجمود الفكري؟
هذه الحالة من الجمود الفكري والتعصب لأفكار خاصة تُسمى بالـ(الدوغمائية). لكن الحديث هُنا لن يكون عن هذهِ الحالة، بل عن كيفية هدمها وبناء تفكير حُر وناقد بدل عنها مُستخدمين الفلسفة منهجًا لذلك.
ما معنى الفلسفة؟ وما الذي يجعلها مختلفة عن الدراسات الأخرى؟
نستطيع البدء بالقول إن كلمة "فلسفة" أتت من اللغة اليونانية ومعناها (حُب الحكمة). لكن هل يُمكننا القول إن أي شخص لديه حب للحكمة هو بالمُقابل فيلسوف؟ إذا نظرنا إلى أولئك الذين حصلوا على لقب فيلسوف على مر العصور سنلاحظ أنّهم مفكرون عميقون ومحبون للخير، وبعضهم الآخر أشرار وفاسدون ومتشائمون! ما الذي يربط بينهم؟ ومتى نُصنّف الشخص بأنه فيلسوف؟ وأخيرًا، لماذا أصبح مفهوم الفلسفة بهذا الشمول؟!
أساسيات الفلسفة 101:
دراسة دقيقة عن معنى الفلسفة ومعاييرها الخاصة.
لو أخذنا التعريف الأشهر للفلسفة وهو: "البحث عن الحقيقة بِاستعمال المنطق وحده"، فما نفهمهُ هو أن الفلسفة هي رحلة بحث مُستمرة غايتها الوصول إلى الحقيقة باستخدام الحجج والأدلّة المنطقية.
قد يكون السجلّ التاريخي الأول لِعلم المنطق موجودًا في كتابِ أرسطو (أورغانون) والذي يعني الآلة، لأن المنطق عند أرسطو هو «آلة العلم» والوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة. لكن ما زال هذا التعريف شاملًا جدًا. هل أي شخص يقدّم فكرة عن كيفية عيش الحياة هو فيلسوف؟ وهل تندرج كل فكرة منطقية تحت سياق الفلسفة؟ وما الفرق إذاً بين أن تكون حكيمًا أو أن تكون مُفكرًا أو أن تكون فيلسوفًا؟ والسؤال الأهم مِن هذا كله، ما الغاية من الفلسفة؟
حتى نستطيع أن نجيب على هذِه الأسئلة؛ اخترنا كتابًا يساعدنا على فهم الفلسفة أكثر، الكتاب اسمه: ما هي الفلسفة؟ للكاتب والفيلسوف الفرنسي: جيل دولوز (Gilles Deleuze).
في هذا الكتاب يقدّم دولوز شرحًا أدق. فبدايةً، يشرح لنا دولوز من أين ابتدأت الفلسفة وما الفرق بين الحكمة والفلسفة؛ ففي في أغلب الحضارات كانت المجتمعات تحترم وتنصت إلى الحُكماء إذ في كل ثقافة وحضارة أسماء كُتبت في التاريخ لحِكمتها. كان لدى الإغريق أيضًا الكثير من الحُكماء، لكنّهم ظنّوا أن الحكيم يُعامل وكأنهُ إله وبأنه المصدر الوحيد للحقيقة ونتيجة لذلك، تولّد نموذجٌ آخر للمعرفة وهو ما نسميه الآن بالفيلسوف.
على عكس الحكيم، الفيلسوف هو الشخص الباحث عن الحِكمة والذي يقترب مِنها ولكنّه في نهاية المطاف، يعرف أنّهُ لا يستطيع الوصول إليها. فإذا كان الحكيم هو المصدر الوحيد للحكمة والمولود بهذه الصفة، فالفيلسوف هو الشخص الباحث عن الحكمة، لكنّه بالمقابل يعرف أنّه لا يمتلكها.
انولدت الفلسفة ليس لاحتكار الحقيقة، بل من أجل البحث الدائم عنها في شتّى المجالات، والغاية الأساسية مِنها هي تحسين ومعرفة فنّ العيش. إذ أن الفلاسفة كانوا يتحدثون ويناقشون (مستخدمين المنطق والحِجج) معنى العدالة وكيف يمكن تحقيقها ويتسائلون عن معنى الخير والشر وكيف يُكوّن البشر المعيار لكلٍ منهم.
كانت هذهِ بداية الفلسفة وولادتها. وبعدها انتشرت العلوم الفلسفية في أرجاء العالم وتفرعت إلى مدارس كثيرة ومختلفة، مثل: الفلسفة الوجودية، والعدمية، والعبثية، والفلسفة الميتافيزيقة، والرواقية… وغيرها الكثير حتى بات تعريف الفلسفة صعب التحديد.
دولوز يعيد تعريف الفلسفة:
“الفلسفة هي فنّ تركيب، وابتكار، وصنع المفاهيم"
هذا هو تعريف دولوز للفلسفة، ومن هذا المُنطلق نرى أن المفاهيم تحتاج إلى شخص ما ليُركبها ويصنعها. وبالنسبة إلى دولوز، فإنّ هذا الشخص (الفيلسوف) يجب عليه أن يتحلى بما يُسميه "الشخصية المفاهيمية".
“الفيلسوف هو الصديق المُقرّب للمفهوم، وهو التصوّر الحيّ لهذا المفهوم”
أي أنّ الفلسفة ليست مجرد فنّ لتركيب أو اختراع أو اختلاق المفاهيم؛ لأن المفاهيم ليست بالضرورة تركيبات أو اكتشافات أو منتجات. إنما هي انضباطِ ينطوي على خلق المفاهيم. ويتابع ديلوز:
"ماذا ستكون قيمة الفيلسوف إذا لم يخلق مفاهيمه الخاصة؟ “
دعونا نعطي أمثلة على كل هذا من أجل نفهم أكثر. دولوز يقول أن الفيلسوف يجب أن يمتلك:
مفاهيمه الخاصة.
انضباط وصرامة لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه.
التعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه وكُتبه وتعليمه.
ويقول أيضًا أن مصير الفيلسوف هو أن يُصبح هو المفهوم (concept) نفسه. فالفيلسوف الحقيقي يعيش في فلسفته ومن أجل فلسفته. وكل فيلسوف يُعبِّر ويرمز إلى مفاهيمه الخاصة مثل: أفلاطون ونظرية الكهف، نيتشه ومفهوم الإنسان الأعلى، وسارتر والإيمان الخاطئ.
لنستخدم مثالًا لشخصٍ ألتزم بهذهِ المعايير: المهاتما غاندي.
إحدى فلسفات غاندي تتمثل في المقاومة دون استخدام العنف، واسم هذا المفهوم الذي ابتكره هو (الساتياگراها) ومعناه (الإصرار على الحق أو قوة الحق). وهي فلسفة ترُكز على المقاومة اللاعنفية وجعلها وسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي. ابتدعها غاندي وطبقّها في جنوب أفريقيا أولاً، ثم في الهند نفسها ابتداءً من 1917 م.
غاندي إذاً:
ابتكر هذا المفهوم وأعطاهُ اسمًا.
أصرَّ على الاستمرار في مبدأ المقاومة برغم التهديدات.
قضى طيلة حياته مُطبقًا لهذا المفهوم حتى أصبح هو التصوّر الحيّ لفلسفة المقاومة المحايدة واللاعنف.
مما جعله ينجح في تكوين الشخصية المفاهيمية (التي تعيش وفق مفاهيمها) وانضباطه في تكوين هذه الشخصية والتفكّر الدائم بها جعل منها فلسفة خاصة!
هل الفلسفة تبحث عن الحقيقة أم عن الاحتمالات؟
لنجيب عن هذا السؤال، دعونا نبدأ بإحدى أشهر مقولات سقراط:
“كُلّ ما أعرفه والشيء الوحيد المُتيقن منه هوَ أني لا أعرف شيئا”
لذا من الأفضل لنا أن نقول إن الفلسفة هي فنّ التّبحر في اكتشاف الاحتمالات الموجودة، والتي لم تُخلق بعد، وأن الفلسفة تُبنى على احترام العلم وليس على الفائض منه. ولذلك من أهم الأنشطة الفلسفية هي: المحاورات، والمُناظرات، ودعوة فيلسوفان أو أكثر (ذوي مفاهيم مُختلفة عن الأخرى) وحثّهما على مناقشة مفاهيمهما.
مثال: أن نحضر مناظرة بين فيلسوف يتبنّى النظرية الرأسمالية وآخر الشيوعية وجعلهما يتحدثون عن أي نظام اقتصادي هو الأنفع للبشر والاقتصاد.
ولهذا فالفلسفة مُهمةٌ جدًا فهي تُعلمنا أن نتواضع أمام العلم الذي نحمله وأن نبحث دائمًا عن احتمالٍ آخر ومن أفضل ما تُعلمنا إياه هو العيش بوعي، وأن نُصنف الأشياء وأن نُعطيها معنى وتعريفًا ودراسة. الفلسفة تهدم، بذلك، الدوغمائية وتُساعدنا بأن نعيش بوعي وإدراك لما تحملهُ ذواتنا وما حولنا.
Comments