top of page
  • Writer's pictureمحمد السلمان

أن تنظر للمألوف بعين الغرائبية

هل شعرت يومًا أثناء قيامك بشيء تعدُّه طبيعيًا، بأنه لو نظر إليك كائن فضائي ما، فقد يرى أن ما تفعله أمرٍ عبثي وغريب؟ وربما قد يذهب لأبعد من ذلك ويجده حتى مدعاة للضحك؟!


هذا النوع من التفكير يتجذر في أفكار الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي كانت غرابة أفعال الإنسان موضوعًا يلازمه في أبحاثه ورواياته. بإمكاننا رؤية ذلك بوضوح في كتابه «الوجود والعدم» الذي يحتوي على فصل كامل تحت عنوان «العالم أغرب مما نعتقد». أيضًا، روايته الأولى «الغثيان»، التي نشرت في عام 1938، كانت مليئة باللحظات الغريبة، كتلك اللحظة التي كان البطل فيها واقفًا داخل ماسورة القطار، ثم وضع يده على المقعد الذي بجانبه، ولكنه فجأةً بادر بسحبها سريعًا، وتفحص المقعد كما لو أنه لم يسبق له أن رأى مثله من قبل. ليُصبح بعدها عالقا في هذا المنظور وهذه الفكرة وغير قادر على الخروج منها بسهولة، إذ أخذ يجبر نفسه على أن يتذكر أن ما بجانبه هو شيء يجلس البشر عليه! إن نر أنفسنا، ولو للحظات قصيرة، مجرّدين من بديهيات الواقع قد تكون لحظات في غاية السذاجة إلا أن تلك اللحظات هي أساس فلسفة سارتر الذي يسميها «سخافة العالم».


فعلى نقيض «وهم سبق الرؤية» أي النظر لشيء جديد كما لو كان قد رأيناهُ من قبل. أتحدث هنا عن «المألوف المنسي» أي النظر إلى المألوف كما لو كان غريبًا!


جان بول سارتر وجان لوك غودار
جان بول سارتر وجان لوك غودار

شخصيًا، لا أدري منذ متى فقدت القدرة على رؤية الأشياء إلا بمظهرها الطبيعي والغرائبيّ في آن واحد. هو منظور ازدواجي يبقى صامدًا حتى في أصعب المواقف وأحزنها؛ إذ أذكر أن ذهني قضى وقتا طويلا في تساؤلات حول أسباب وجذور مراسيم العزاء واختلافها بين البشر أثناء شعوري بالحزن والفقد في أحد مجالس العزاء.


أرجح أن هذا المنظور الفضائي لأنفسنا هو في الحقيقة وسيلة لمراوغة الحياة، فالحياة نفسها ليست غريبة على الكثير من الغرائبية، فنحن غير قادرين على التنبؤ بالأحداث الغريبة أو المنعطفات غير المتوقعة في حياتنا أو حتى التعامل اليومي مع شخصيات غريبة والتي غالبًا ما نتجاهل التمعن في جمالها وذلك لانشغالنا بالانزعاج منها. في رأيي، التمعن في الأمور التي قد تبدو طبيعية وتفكيكها حتى تستشعر بغرابتها هو من أجمل الأحاسيس التي تدعو للتفكير الإبداعي بعيدًا عن المنظور التقليدي الذي يحكمه منطق افتراضي يأخذ حيز في حياتنا المليئة بالأفعال والأحداث التي غالبًا ما تحيد عن المنطق أصلًا.


لحسن الحظ، التعبير عن العبث والغرابة يتخذ مكانًا خاصًا في عالم السينما؛ إذ تعمل السينما كعدسة فاحصة يمكننا عبرها استكشاف جوانب تحلّق بعيدًا عما هو معتاد وتُسائل المسلّمات في آن واحد. كما يُمكن أن يجسدّ العبث في الأفلام بعدة أشكال، بدءًا من الشخصيات في طبيعتها المتناقضة وصولًا للمناظر الطبيعية السريالية التي تتحدى قوانين الفيزياء، وهو خروج متعمد عن المألوف. هذا الاختيار الفني يسمح لصنّاع الأفلام بتقدير الجمال الكامن في الفوضى وتوليد أحاسيس متنوعة مثل؛ إيجاد الفكاهة في ما لا معنى له وأيضًا يعتبر وسيلة لاستكشاف التعقيدات والشكوك والمشاعر التي قد لا يفصح عنها الناس فيما بينهم، رغم أنها تلعب دورًا في حياتهم.


من فيلم: حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود، روي أندرسون
من فيلم: حمامة جلست على غصن تتأمل الوجود، روي أندرسون

ثمة الكثير من الأفلام التي تتأرجح ما بين الواقع وعدمه، على سبيل المثال فيلم «رقصة الواقع» للمخرج الفرنسي أليخاندرو يودوروفسكي، الذي يمزج ببراعة ما بين الواقع والخيال. أو الأخوين كوين بأفلامهما الساخرة ذات الأحداث الغريبة التي تشبه الواقع كما في فيلم «ليباوسكي الكبير»، أو «ثلاثية المعيشة» للمخرج السويدي روي أندرسون، الذي يتناول عبثية الوجود الإنساني والبحث عن المعنى داخل إطارات كئيبة وساخرة. ولعل أبرز المخرجين الذين جعلوا إعادة النظر لسلوكيات البشر موضوعًا مركزيًا في أعمالهم هو اليوناني يورجوس لانثيموس الذي عادةً ما يضع المشاهد في رحلة من التوتر السردي، مجردًا فيه سلوكيات البشر من معانيها التقليدية ليعيد اكتشافها في مواقف غريبة وحتى مزعجة في بعض الأحيان. يظهر ذلك جليًا من أول فيلم له «ناب الكلب» الذي يُعد من أغرب الأفلام؛ إذ يحاول والدان إعادة تشكيل واقع أبنائهما الثلاثة وسلوكياتهم وفقًا لمنظورهما الخاص، جاعلين أنفسهم المصدر الوحيد للمعرفة عن طريق عزل الأبناء عن العالم الخارجي وتعليمهم في المنزل معان مختلفة تمامًا عن الواقع. فعلى سبيل المثال، عندما يسأل الابن أمه عما هو الزومبي، تجيبه: "إنها زهرة صفراء".


من فيلم ناب الكلب، يورجوس لانثيموس
من فيلم ناب الكلب، يورجوس لانثيموس

تعود هذهِ الفكرة بوضوح في آخر أفلام المخرج «كائنات مسكينة» الذي يروي حكاية امرأة متوفاة في لندن الفيكتورية يسترجع عالم جسدها وذلك عن طريق زرع دماغ جنينها في رأسها لتبدأ رحلة جديدة لاكتشاف سلوكيات البشر واكتشاف ذاتها مرة أخرى!


أعتقد أن غرائبية المواقف هي إحدى أهم صفات الواقع وليس العكس، وأن الأفلام التي تُوظف عبثية وغرائبية الحياة تضع المشاهد في المنطقة الرمادية غير المريحة للجمهور العام، إذ إنها تدعو للتفكير في "تقييدات الحياة". وبما أن السينما مُتهمة بالترفيه البحت، لا تجد هذهِ الأفلام رواجًا حتى عند بعض المفكرين الذين اعتادوا على استهلاك المواضيع الجادة من الفنون الأخرى كالشعر والرواية، وهذا يفسر أن الأفلام ذات الحبكة المُحكمة والصدف المتناغمة والشخصيات الواضحة والمنطقية كُليًا توفر رغبة دفينة عند الناس وهي الهروب من الواقع ذو التعقيدات والملامح غير الواضحة.


ولعل من المناسب ختام هذا المقال باقتباس من فيلم «ماجنوليا» للمخرج بول توماس أندرسون:


"أعلم أن هذا قد يبدو سخيفًا، مثل مشهد في فيلم"

" هذه الأشياء الغريبة تحدث دائمًا"

bottom of page