أحذر من مُشاركة أفلامك وكُتبك المفضلة!
ظهر قبل عدة سنوات، وسم يعبر فيه المغردون عن إحباطهم لما قرؤوا روايات، تُعتبر من روائع الأدب، وتبين لهم أنها مجرد أعمال عادية، أو شاهدوا أفلامًا شهيرة، لكنهم وجدوها مملة! وكنتُ ممن شارك فيه، فقد غردت بأنني لم أكمل رواية مئة عام من العزلة لغابرييل غارسيا ماركيز؛ لأني وجدتها تفصيلية بشدة، وانتصفت في مشاهدة فيلم «الإيرلندي - The Irishman»، لأنهُ كان ثقيلًا. كان وسمًا ظريفًا، ليس فقط لأنه كشف عن أناس يعبرون عن امتعاضهم من أعمال أدبية وسينمائية معروفة، بل أيضًا لأنه أظهر تباين أذواق الآخرين. فقد علق أحدهم قائلًا:” أسمح لك أن تنتقد: فيلم الإيرلندي، لكن تنتقد رواية مئة عام من العزلة، ما عندك سالفة!"
أخمن أن تقييمنا للأعمال الفنية والأدبية يتفاوت، بسبب اختلاف استمتاعنا بالتجربة الشعورية التي يُقدمها العمل الفني أو الأدبي. سأوضح الفكرة بمثال شخصي، انضممتُ قبل مدة لفريق إعلامي، وعملت معهم عن بعد، كان انضمامي لهم بعدما بدؤوا بالمشروع، وكان مشروعًا جديدًا علي، لذلك كُنت أبذل جهدًا كبيرًا للحاق بهم. بعدها، شاهدت فيلم «الشيطان يرتدي برادا» ، الذي يحكي قصة صحفية تنضم إلى مجلة متخصصة في عالم الموضة والأزياء، وتجد صعوبة في التكيف مع بيئة العمل الجديدة. ومع أن أفلام الموضة والأزياء ليست من نوعي المفضل، إلا أنني استمتعت بالفيلم، لأنه جَسد لي تجربة شعورية كنت أمر بها في ذلك الوقت: الشعور بأنك غريب على بيئة العمل، لكنك بحاجة لأن تكون فردًا منهم.
التجربة الشعورية:
ربط أرسطو في كتابه «فن الشعر» بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل، إذ عَد أن التطهير الذي ينجُم عن مشاهدة العنف يُشكل عملية تنقية وتفريغ لأحاسيس العنف الموجودة لدى مشاهدي المسرحية. هذا، في نظري، ما يجذبنا إلى الأعمال الفنية والأدبية، ويجعلنا نتفاوت في الإعجاب بها، فهي تقدم لنا فرصة لخوض تجربة شعورية ما دون المخاطرة. على سبيل المثال، الأشخاص الذين يحُبون حل الألغاز، قد ينجذبون للقصص البوليسية دون الحاجة لأن يكونوا محققين، بينما من يرغبون في كسر قواعد الواقع، وهم جالسون على مقاعدهم قد يشدهم الأدب الواقعي السحري أو الفانتازيا.
استمتعتُ برواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، التي تحكي قصة سعيد مهران، الذي يدفعه الانتقام لمحاولة قتل غريمه. بالتأكيد، على أرض الواقع، لن أتصرف مثله، لكن الرواية منحتني فرصة لتجربة شعور الانتقام. أيضًا، مسلسل «اختلال ضال- Breaking Bad» يُعد مثالًا جيدًا. فقد أعجب به الكثيرون لأنه يعرض شخصية إنسان نبيل يجد نفسه مجبرًا على التعامل مع مجرمين. الحيرة الشعورية التي يمر بها السيد وايت، بطل المسلسل، تعكس ما نشعر به عندما نجد أنفسنا نرغب في حماية أحبائنا، فنضطر إلى العمل مع أناس لئام!
يرى الناقد هارولد بلوم أن الأعمال الأدبية ليست متساوية من حيث الجودة، وأنا أتفق معه في هذا الرأي. فالعمل الجيد هو ذاك الذي يُقدم تجربة شعورية لعدد كبير من الناس. على سبيل المثال، رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» للروائي السوداني الطيب صالح تُعد مثالًا على ذلك. فهي تحكي عن الشاب السوداني مصطفى سعيد، الذي يحمل شعورًا مزدوجًا تجاه الإنجليز: فهو يكرههم لأنهم احتلوا بلاده، لكنه يراهم أيضًا وسيلة لتطوير ذاته! وهذا شعور كثير من العرب اليوم: فهم ينتقدون الأوروبيين والأمريكيين كثيرًا، لكنهم في الوقت نفسه يستهلكون الكثير من منتجاتهم الثقافية.
لماذا يتفاوت شعورنا نحو نفس العمل؟
حدثت صديقًا مرة عن إعجابي بمسلسل «دكستر»، يحكي قصة شخص لديه ولع بالدماء، ويوجه هوسه هذا بطريقة إيجابية، إذ يتتبع القتلة ويقتلهم بنفسه! جامعًا بين تحقيق العدالة وإرضاء هوسه بالدماء. لذا، نصحني برواية «أرق» للطاهر بن جلون، التي تحكي قصة رجل يعاني الأرق، ويجد أن الطريقة الوحيدة للحصول على ساعات من النوم هي بقتل أشخاص أشرار، ليجمع بين كونه إنسانًا خيّرًا وقاتلًا للمجرمين، كما يفعل دكستر. لكن في البداية، لم تشدني الرواية كثيرًا فتوقفت عن قراءتها. لاحقًا، عدت إليها بعد سنوات، واستمتعت بها كثيرًا! أعتقد أن قلة استمتاعي بالقراءة الأولى للرواية كانت لأنني كنت قد انتهيت للتو مشاهدة مسلسل "دكستر"، الذي أشبع رغبتي في الاقتصاص من الأشرار. ولما تلاشى هذا الشعور بمرور الوقت، تمكنت من الاستمتاع بالرواية على نحوِ أكبر.
التداخل بين الشعور والواقع:
هل إعجابنا بعمل أدبي أو فني يعني أننا نود خوض تلك التجربة فعليًا بعدما استمتعنا بها شعوريًا؟ أعتقد أن العكس هو الصحيح؛ فإذا خضنا تجربة ما في الواقع، فمن غير المرجح أن تجذبنا في عالم الخيال. مع ذلك، من المهم الحذر، لأن بعض الأشخاص قد يشكلون تصورات سلبية عنك بناءً على تفضيلاتك الأدبية والفنية! أتذكر عندما عبرت لمجموعة من الأصدقاء عن إعجابي بمسلسل «الغجر -Gypsy» فعلّق أحدهم قائلاً: "حمود! أثرك تحب هالسوالف!"يحكي المسلسل قصة حب بين امرأة متزوجة وفتاة. كما قد مدحت مرة رواية «لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، فاستهجن من حولي (لأن الرواية تتناول موضوع الانجذاب الجنسي للفتيات ما قبل سن البلوغ).
في كتابه «الخليج يتحدث شعرًا ونثرًا»، يذكر غازي القصيبي أنه تلقى الكثير من الكتب هدايا، ولم يكن لديه الوقت لقراءتها جميعًا. لذلك كان يمنح كل كتاب عشر دقائق، فإذا نجح في جذبه، أكمل قراءته. لدي اليوم قاعدة مشابهة: إذا لم يتمكن العمل الفني أو الأدبي من اندمج في الحكاية شعوريًا بسرعة، فهذا يعني أن مزاجي ليس ملائمًا له في تلك اللحظة. ربما يكون من الأفضل تأجيله إلى وقت لاحق عندما يكون مزاجي متوافقًا مع تجربته الشعورية.
Comments