top of page
  • Writer's pictureوفاء أحمد

العباية: بين الدين واليَقظة الثقافية

مُذكرة نقدية عن هذا الرداء الذي حمل على عاتقه أكثر مما كان يجب أن يحمل.



العباءة والأعباء

أتذكّر أوّل يوم أخبرتُ به عائلتي بأنّي سوف ارتدِ «العباية»، في الثامنة من عُمري، كُنت حينها مثل بُرعمة لم تّتخذ لونها بعد، واتخذت نهج أمي لونًا لي، تعلُو وجنتيّ حماسة التشبُّه بوالدتي، نلتُ احتفاءً من والدي الذي بدوره ابتاع لي عباءة كتِف سودَاء ذهبتُ بها في أول خروجٍ من المنزل، ثم إلى أول يوم في المدرسة، وأول يوم إلى اجتماع العائلة، كان حدثٌ برّاق لازمني لعدّة أعوام، وكُرّمت من أجله في المدرسة، هذا الصّرح الذي حوّل الاختيار إلى إطَار مُثقل بأعباءٍ لا حصر لها، تمامًا مثلما قصّت مديرة المتوسطة «النّقاب» إلى نصفين، ورمته في سلة القمامة أمام أنظَارنا الصامتة، مُشهرة في وجُوهنا أمر ارتداء «الشّيلة» غطاء للوجه كاملًا، مع تثبيتها بعباءة الرأس. في تلك اللحظة، خرجت «العباية» من نطاق الحدث البرّاق في حياتي إلى جُعبة المُسلّمات التي تُناقض باستمرار من مديرة المدرسة والمعلمات اللواتي يرتدين ما يحلو لهن عند الخروج وما تُلزمن به الطالبات.


تقبّلنا الأمر كمسلّمة لا ضير بها. لاحقًا، أدركنا جيدًا مزلاج الحافلة المدرسية الذي أتاح لنا إظهار الاختيارات الفردية لتغطية الوجه بالنقاب أو البرقع والتي كنا نخبّئها منذ الصباح تحت مقاعد الحافلة، هذا الحيّز الصغير الذي استمر باحتواء اختياراتنا الفارقة بين نهجي العائلة والمدرسة حتى مرحلتنا الثانوية، حيث تُحلّق في عليّته غيومًا مثقلة بالآراء حول جدوى ارتداء العباءة، فما تلبثُ طويلًا تلك الغيوم وإلا وأن تتبدّد فور نزولنا من عتبة الحافلة، كوننا ندرك أبعاد اختلاف النهجين، فنهجُ العائلة حمل على عاتقه مدى تحفّظ الأسرة وكرامة القبيلة ومتطلّبات العفّة والوقار الذين لا بد من أن تتحلّى بهم الفتاة، بينما النهج الثاني حمل على عاتقه الالتزام بصورة المرأة المسلمة ونجاح مسؤولية مديرة المدرسة ووضع حدود حمراء واضحة بين الجنسين. ومع زيادة إدراك أهمية دور المرأة لتحقيق استقامة الأبناء، فقد كانت تُملى الأخلاق التي يجب أن تتحلى بها المرأة لتتحقّق تلك الاستقامة، فكلّما اشتدت حاجة المجتمع بأن تكون المرأة مُتمثّلة بالأخلاق المرجوّة، زاد التعدّد في وسائل الدعوة لفرض ارتداء العباءة في هيئة تقوّض رفاهية الإقناع أولًا، مما جعل الفرض يُثقل كفّة الميزان. تحاملت تحقيق الدعوة للإسلام ومدى انتشارها وتأثيرها على المُجتمعات الغربية والحاجة للتمثُّل بالأخلاق والأحكام التربوية ودور المرأة في تنشئة الأجيال وتكريم مكانتِها، جميعها على طريقة ارتداء المرأة للعباءة، ما لبثت إلا وتفشّت كل تلك الأعباء إلى أجزاء صغيرة حادّة عند دخول الفتاة إلى المرحلة الجَامعية، ذلك الحرم الواسع الذي أغرقنا في التساؤلات والنظر مطوّلا نحو المسلّمات.


 اليقظة الأخلاقية والثقافية

في الجامِعة، بدَت تساؤلاتِنا وآراؤنا التي كانت حصرًا في الحافلة المدرسية صالحة للتفكير في هذه المساحة الشاسعة من الرّغبات والاختيارات التي كان لا بد من أن نضع قرارًا من أجلها، أصبحنا أكثر تقبّلا لتوسيع دائرة صداقاتنِا، واكتسب صوتُنا آراء صارخة، ومُدّ نظرنا إلى ترسبات حفَرت تحت المظهر الخَارجي للعباءة والتي أظهرت أنماط سلوكية متفاوتة الحدّة، حاملةً قضايا مُجتمعية من الانحلال الأخلاقي وتشابك عميق من الغضب والكبت والرّفض لهذا المظهر السطحي الذي نتج عنه مقياس مشوّه عن الدين والجَمال والعفّة، اختفت المنشورات التي كانت تحمل كاركتير الحلوى المكشوفة تدريجيّا، وأصبح مقبولًا إدخال الخرز اللّامعة والتصاميم الجماليّة لها. هطلت غيوم الحافلة أخيرًا وجرَت أوديتها جارفةً آراء مُتضادّة، وأساليب تتداخل بلا مبرر لها ولا شَفيع، في حلقاتٍ متباعدة، ورداء يُبلى قيمتُه بمرور الوقت، يخشى أن يلقى حتفَه، ويأمل أن يُعاد تعريفه. عندما نستعين الآن بأحد محركات البحث التي تمثّل أول مصدر للفضول النابع حديثًا حول العالم ففي «ويكيبيديا»، سنجد بأنه يعرفها تعريفًا فضفاضًا يُشبه ورقة مكوّمة في سلّة مهملات علق بها فُتاتٍ من عناوين الإعلام، مثل: «العباءة أو العباية هي رداء ترتديه المرأة المسلمة في بعض مناطق الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وبالأخص في دول الجزيرة العربية  فوق الملابس العادية عند الخروج من المنزل. وهو تقليديًا ذو لون أسود. تعتبر العباءة الزي الرسمي في السعودية» يُحدّد هذا التعريف جغرافية واحدةً لها، ولونًا مكتسبًا من التقاليد، يُكمل ترحيلها عنوةً إلى الموضة، مما يجعل احتمالية شفائها تمامًا من التشوُّه أمر مؤجل إلى إشعارٍ غير معلوم. 


أقدم صورة لإمرأة سعودية ترتدي البرقع، 1954م - إيلو باتيجيللي
أقدم صورة لإمرأة سعودية ترتدي البرقع، 1954م - إيلو باتيجيللي

العباءة رمز ديني 

تجاهل كِلًا من الإلزام المدرسي والكاركتيرات والتحاملات الأخرى لانتشار الدعوة والحاجة للتمثُّل الأخلاقي أهمية غرس القيمَة الأصيلة لهذا الرداء فقد جعلها مُشكلة ليس من اليسير حسم القولِ فيها دون أن تكونَ حساسة تجاه العُرف والتقاليد والدين، كوني أراه الآن بعد تجريده في ذهني كرمز ديني، قيمتُه الأصيلة الحشمة، ذو فضاءٍ تتحلّى به المرأة لتكوّن مساحة خاصة بها في أي مكان تذهب إليه، رمزٌ يفرض مسؤولية أخلاقية لا تتراجع قيمتها بتسارع الزّمان ولا تنحسِر أهميّتها بإثرائيات الثقافَة المتطوّرة. فبعد أن انقضى نُعاس منعطفات الحافلة المدرسية، تنامى في ذهني هذا التساؤل، كتبته في دفتر مُلاحظات منسيّ، وُعدت إليه بعين تُبصر انتقاد القصّة الغربية الدخيلة وتحوِيرها من رَمز ديني إلى موجة من الموضة التي تُضفي معَنى لجغرافية الوَطن العربي وَحده في نظرة ضخّمت صورتها بصفتها تقاليد موروثة وحسب، بينما العباءة رمز ديني مذكورٌ أمرُه في القرآن الكريم بمرادف «الجِلبَاب»؛ وهو مِلحف يُلبس فوق الثياب ليشمل الجسد كُلّه. يُذكرني هذا الفضاء الخاص بالعباءة برداء الإحرام الذي فُرض ارتداءه للرجال في مناسك العُمرة والحجّ، إذ يبدو لي وكأنهما رمزان ذوا قدسيّة عظيمة، تُكرّم من يرتديها بإخلاص وتفان، بالتزام تام نحو النيّة التي تخدِم ارتداءهما، لا ينفك الرمز الديني «الإحرام» من منحي معنًى سامِي لارتداء العباءة، إلا أن نُسك «الإحرام» يتجاوز العباءة بأبعاد روحيّة مقدّسة تجعل الروح تجري حافيةً إلى بارئها باغيةً الطُّهر والقبول كونُه نيّة مقرونة بإتمام المناسك للجنسين، ولكن يمكنني القول بأن الهالة التي دارت بها رداء الإحرام في ذهني من تقارب دلالاته الروحيّة والمعنوية إلى ارتقاء قيمة العباءة، مما جعلها تتشكل في مرحلتها الثالثة من طريقة ارتدائي للعباءة وتجلّي معناها إليّ، في اتّساق جمالي يُبلوِر قيمتها لتكوّن إنعكاسًا لا مُتناهي لذاتها، لا ترتبط بالجغرافية العربية، ولا التقاليد الموروثة، في رؤية أصفى من تلك التي نُقلت في ذهني لأعوام، رؤية تصبُو بأن لا تناقض صورتها لدى الأجيال الناشئة، تلك الأعين التي تتّسع حدقتها فضولًا حول المبادئ، والغاية، والمُنتهى. لن يُروى ظمأ هذا الرّداء، ولن يستقيم ظهرُه ما دام يُوازي قيمته الأصيلة، ويُهمل نقد ظُهوره، في وعي ناعس، يُشبه نعاس الحافلة الذي كان يراودني، عن قيمة مهدرة ورداء معطُوب لم يتعافَ بعد حتى الآن. 


bottom of page