تواصل ليلى مهمّة توصيل سلّة الغذاء والنبيذ لجدّتها المريضة مُرتدية رداءها الأحمر بعد أن قابلت الذئب في طريقها، لتصل إلى منزل الجدّة حيث الذئب متنكّرا بهيئتها بعد أن التهمها. قام الذئب بمُناداة ليلى لتقترب منه كي يلتهمها أيضًا؛ فأزالت رداءها الأحمر واقتربت منه فانتهى الأمر بموتها!
هل كانت هذه نهاية ليلى والذئب كما سمعتموها في طفولتكم؟
جميعنا نذكر أحداث قصّة ذات الرداء الأحمر لكن بتفاصيل نهايات مختلفة، فالقصص الخياليّة\ الـ(Fairy tales) تناقلتها الأجيال كتابيًا وشفهيًا؛ لتقع تحت تأثير التغيُّر الحتمي. ما يقع على هذه القصص من تغيّرات هو بسبب تضمّنها لأيديولوجيا وتصوّرات المجتمع نفسه عن الواقع وما هو مقبول وغير مقبول، فلا بدّ من أن تعبّر الكتابات عن أفكار كاتبها، وأيضًا السياق التاريخي والثقافي الذي وُلدت منه، وقصص الأطفال لا تُستثنى من هذه القاعدة. ترى الناقدة جاكلين روز في قضيّة بيتر بان: استحالة أدب الأطفال (The Case of Peter Pan: The Impossibility of Children’s Literature) أنّه يستحيل وجود كتاب نقيّ للأطفال بسبب الفجوة الحتميّة بين البالغين والأطفال، ما يقع خلف تلك الكتب في الحقيقة أفكار متحكّمة وأحيانًا شرّيرة، في الواقع هذه الكتب تمثّل رؤية البالغين المثاليّة عن الطفل ومرحلة الطفولة، وليست الطفولة الحقيقيّة، فنحن لا نعرف شيئًا عن عالم الطفولة! بحسب رأي الفيلسوف الفرنسيّ جان-جاك روسو.
هذا مجرّد إيضاح بسيط لما تتضمّنه قصص الأطفال عامّةً، والقصص الخياليّة خصوصًا.
قبل أن نسرد الحكاية الخفيّة لذات الرداء الأحمر، علينا أولًا أن نُعرّف ماهية القصص الخياليّة ونحكي عن تاريخها وما طرأ عليها عبر التاريخ من تغيُّرات. عبارات كـ "كان يا مكان في قديم الزمان" و "عاشا بسعادة أبديّة"، وشخصيّات كـ زوجة الأب الشرّيرة تجعلنا نميّز القصّة فورًا على أنّها قصّة خياليّة. لكن الأمر ليس سهلًا؛ تختلف آراء نقّاد الأدب في تعريف هذا النوع من القصص، مثلًا تذكر الروائيّة أنجيلا كارتر في الكتاب السليط للقصص الخياليّة (The Virago Book of Fairy Tales) أنّها قصص عن عوالم خياليّة -لا يُشترط وجود الجنيّات بها-، حدثت في أماكن وأزمنة غير محدّدة، تتضمّن أحداث تكسر قوانين الطبيعة، تناقلتها الأجيال عبر الأزمنة شفويًا، وتتغيّر بناءً على الشخص الناقل، وأنّها اعتُبرت وسيلة ترفيه الفقراء. تعريفها برأيي هو الأقرب لوصف هذا النوع من القصص، بالإضافة إلى كونها تتضمّن السحر والمخلوقات الخياليّة غالبًا.
بالنظر إلى تاريخ هذه القصص في مقال جاك زايبس المنشأ: القصص الخياليّة والقصص الشعبيّة (Origins: Fairy Tales and Folk Tales)، نعود بالزمن إلى ما قبل القرن الخامس عشر، تحديدًا قبل معرفة علم الطباعة حيث كانت القصص الخياليّة تُنقل شفهيًا عبر الأجيال، فالفلّاحون من الطبقة الفقيرة سردوا هذه القصص لأسيادهم من الطبقات الوسطى والأرستقراطيّة أثناء عملهم كخدم وحرّاس لديهم. وما هو غير متوقّع؛ كون هذه القصص غير مُخصّصة للأطفال أبدًا! بل كانت تتضمّن عبارات ومشاهد بذيئة مليئة بالعنف والجرائم، لا تصلح بتاتًا للمُستمع صغير السنّ، بل لا يفهم بعض النقّاد، كـ جون رونالد تولكين كاتب الهوبيت (The Hobbit)، كيف أصبحت تُصنّف القصص الخياليّة على أنّها قصص للأطفال! بعد معرفة الطباعة في القرن الخامس عشر؛ بدأ الكتّاب يقتبسون أفكارًا من هذه القصص الشفهيّة ويضعونها في قصصهم المكتوبة، ثمّ غُيّرت اعتقادات وأفكار طبقة الفلّاحين الموجودة في القصص الشفهيّة وعُدّلت بحيث تناسب القرّاء من الطبقات الأعلى، فأصبحت تتضمّن تعليقات عن الزواج والحبّ والأدوار الجندريّة بعد أن كانت مُتنفّس الفقراء لرغبتهم بوضعٍ أفضل، وتعويضات لحالتهم المزرية. أشهر الكتّاب الذين تبنّوا القصص الخياليّة بشكل كامل في كتاباتهم الإيطالي جيوڤاني فرانسيسكو سترابارولا في القرن السادس عشر.
ظهر مصطلح Fairy Tales أو بالفرنسيّة Conte de fées لأوّل مرّة في القرن السابع عشر، تحديدًا في فرنسا في الصالونات الأدبيّة التي أسّستها النساء الفرنسيّات، وسادت موضة كتابة هذا النوع من القصص. في هذا القرن تحديدًا برز نجم كاتب القصص الخياليّة الأشهر تشارل پيرو (Charles Perrault) ومجموعته القصصيّة قصص وحكايات من أزمنة سابقة (Stories and Tales of past times) والتي تضمّنت قصص كذات الرداء الأحمر وسندريلا.
لنتقدّم بالتاريخ بسرعة نحو القرن التاسع عشر، تحديدًا بعد أن اعتاد الكتّاب توجيه هذه القصص للأطفال، اعترض رجال الدين والمعلّمين على قراءة الأطفال لهذه القصص؛ معتبرين أنّها تفتقد العناصر الأخلاقيّة، لكن هذا لم يمنع الكتّاب من كتابة القصص ونشرها.
ظهر الأخوين غريم في هذا القرن، وبدآ في عمليّة تطهير القصص الخياليّة من المشاهد القذرة والدمويّة، وإضافة العناصر والمعانِ الدينيّة المسيحيّة لها؛ بحيث تُناسب القارئ الطفل أكثر في مجموعتهم حكايات الأطفال والأسرة (Children’s’ and Household Tales) التي تضمّنت ربانزل، سندريلا، وأيضًا ذات الرداء الأحمر وغيرها الكثير. قبل تاريخ ١٨٢٠، كان السائد أنّ كتب الأطفال ينبغي جعلها تعليميّة ومليئة بالفضائل والأخلاق، لكن هذا التاريخ كان مفصليّ؛ بدأ العديد من الآباء والمعلّمين بالإيمان أنّ وقت المُتعة للأطفال مهمّ، وأنّ هذه المتعة لن تُفسد عقولهم بالضرورة، بل يحتاج الأطفال وقت راحة بعد يوم طويل، سواءً كانوا أطفال مصانع أو أطفال مدارس، هم يحتاجون التسلية على حدٍ سواء. فتمّ قبول هذه القصص بشكل كامل في المجتمع مع صدور أعمال هانز كريستيان آندرسن، الذي برع في دمج العنصر الخيالي والفكاهة مع التعاليم المسيحيّة، جامعًا بذلك بين المتعة والفائدة.
الإختلاف ما بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر يوضّح كيف أنّ كلّ ما يُكتب يقع تحت تأثير السياق الثقافي، هذا النوع من القصص كانت مُجرّد تسلية للبالغين في التاريخ الأسبق، ثمّ لاحقًا صُنّفت كأهمّ أفرع أدب الأطفال. لتوضيح هذه الفكرة بشكل أكبر؛ سأستعرض لكم تحليلًا بسيطًا لنُسختين من قصّة ذات الرداء الأحمر، نسخة البالغين التي كتبها تشارل پيرو في القرن السابع عشر، ونسخة الأطفال من كتابة الأخوين غريم في القرن التاسع عشر -سأضع رابط تحميل القصّتين للاطّلاع في نهاية المقال-.
كلتا النسختين تتشابهان بوجود شخصيّة الفتاة الصغيرة ذات الرداء الأحمر، الذئب والجدّة، وعبارات تتكرّر في النسختين كـ:
"Grandmother, what big eyes you have!"
"All the better to see with, my child."
"Grandmother, what big teeth you have got!"
"All the better to eat you up with."
-
"جدّتي، لديكِ عينان كبيرتان!"
"لأراكِ بشكلٍ أفضل، ياطفلتي."
"جدّتي، لديكِ أسنان كبيرة!"
"لآكلكِ بشكل أفضل."
-Perrault, 1697
"But, grandmother, what big eyes you have!" she said.
"All the better to see you with, my dear."
"But, grandmother, what large hands you have!"
"All the better to hug you with."
"Oh! but, grandmother, what a terrible big mouth you have!"
"All the better to eat you with!"
-
"لكن، جدّتي، لديكِ عينان كبيرتان!" قالت.
"لأراكِ بشكلٍ أفضل، عزيزتي."
"لكن، جدّتي، لديكِ يدانِ كبيرتان!"
"لأحضنكِ بشكلٍ أفضل."
"أوه! لكن، جدّتي، لديكِ فم كبير فظيع!"
"لآكلكِ بشكل أفضل!"
-The Grimm Brothers, 1857
رغم التشابه الصريح في بعض العناصر، إلّا أنّ انطباع اللغة والنهاية تختلفان كليًا. فلا نهاية سعيدة في نسخة تشارل پيرو؛ حيث تنتهي القصّة بموت ذات الرداء الأحمر، ومُرفق في نهاية القصّة عِظة تُحذّر الفتيات الجميلات من الألسن العذبة التي تخفي أسنان حادّة:
"Children, especially attractive, well-bred young ladies, should never talk to strangers, for if they should do so, they may well provide dinner for a wolf. I say "wolf," but there are various kinds of wolves. There are also those who are charming, quiet, polite, unassuming, complacent, and sweet, who pursue young women at home and in the streets. And unfortunately, it is these gentle wolves who are the most dangerous ones of all."
"الأطفال، خصوصًا الفتيات الجذّابات المُهذّبات، ينبغي أن لا يتحدّثوا مع الغرباء، لأنّهم لو فعلوا، سيقدمون أنفسهم كعشاء لذئب. أقول "ذئب،" لكن هناك أنواع عديدة من الذئاب. هناك أيضًا الفاتنين، الهادئين، اللبقين، المتواضعين، الراضين، واللطيفين الذين يسعون وراء النساء الصغيرات في المنزل وفي الشوارع. ولسوء الحظّ، هؤلاء الرجال النبيلين من الذئاب هم الأخطر على الإطلاق."
-Perrault, 1697
وجود هذه العِظة يُصعّب على القارئ فهم القصّة بشكلها الظاهريّ، في الحقيقة هناك العديد من الرموز التي تبيّن عناصر جنسيّة في القصّة، كالرداء الأحمر ورمزيّة عفّة الفتاة، كان لفظ (فتاة رأت الذئب) شائعًا في فرنسا والذي كان يُطلق على فتاة فقدت عذريّتها، بالتأكيد لفظ كهذا كان مألوفًا لدى بيرو. القصّة تحذّر، خصوصًا الفتيات، من خطر الخضوع لإغواء الغرباء. وهذا ما يجعلها قصّة للبالغين، لا تُناسب الطفل أبدًا.
في قصّة الأخوين غريم من ناحية أخرى، انتقلت الغاية من كونها تحذّر الفتيات من مخاطر جنسيّة، إلى تحذير الأطفال بشكل عام من مخاطر عدم طاعة البالغين. ذات الرداء الأحمر تتناسى تحذير أمّها من التعمّق في الغابة، معرّضةً بذلك حياتها وحياة جدّتها إلى خطر الذئب، فقط بتدخّل عنصر الذكر البالغ، والذي يُمثّل الأب من وجهة نظري، شخصيّة الصيّاد، أُنقذت كلتاهما، وانتهت القصّة بنهاية سعيدة. ذات الرداء الأحمر تعلّمت درسها واستطاعت التغلّب على ذئبٍ آخر قابلته لاحقًا، بذلك تكون الفكرة؛ طاعة الوالدين والامتثال لأوامرهما يجعلاك آمنًا.
كما رأينا؛ اختلف معنى القصّة تمامًا بين ذاك العصر والآخر، لكون غاية القصص ذاتها تغيّرت لتصبح ملكًا لأدب الأطفال، ومفهوم الطفل وما يناسبه من قراءات تغيّر أيضًا. هذا التغيّر يوضّح حقيقة كون أدب الأطفال عمومًا ليس سهلًا أو هامشيًا لدراسات أدب البالغين، وأنّها مسئوليّة عظيمة على عاتق الناشرين أن يُحدّدوا ما يُنشر وما لا يُنشر في محتوى كتب الأطفال. كغيرها من الأفرع الأدبيّة؛ القصص الخياليّة لن تتوقّف عن التطوّر وتضمّن أفكار تناسب المجتمعات الحاليّة والقادمة، فالأفكار والاعتقادات تتطوّر عبر العصور، والمكتوب مرآة لهذا التطوّر.
المراجع:
Carter, A. (ed) 1990. The Virago Book of Fairy Tales, London, Virago.
Hunt, P. 2009. (Instruction and Delight) in Maybin, J and Watson, N, ed. Children's Literature: Approaches and Territories. Basingstoke; New York: Milton Keynes: Palgrave Macmillan; The Open University.
Montgomery, H. 2009. Study Guide: Children's Literature. Milton Keynes: The Open University
Rose, J. 1984. The Case of Peter Pan, or The Impossibility of Children's Literature. Basingstoke, Macmillan.
Rousseau, J.-J. (1979). Emile: or, On education. New York, Basic Books.
Zipes, J. 2009. (Origins: Fairy Tales and Folk Tales) in Maybin, J and Watson, N, ed. Children's Literature: Approaches and Territories. Basingstoke; New York: Milton Keynes: Palgrave Macmillan; The Open University.
Comentarios