top of page
Writer's pictureضي الراشد

الحلم وواقع المرأة

أتقنت الأحلام والطموحات في طفولتي. كانت هوايتان رائعتان! في كُل مرة اختار فيها حلم جديد، ثم أتعلمه، وبعدها أرى نسختي من النجاح فيه. لم يكن ثمة شيء مستحيل. كل ما احتجتهِ وقتئذ هو تعلم هوايةً ما حتى الإتقان؛ "ستتمكن يداي من فعلها بالتأكيد"، هذا ما رددت قوله دومًا "فما الذي يملكه غيري، هذا الشخص المحترف، ولا أملكه؟ لا يبدو لي أن لأحدهم أصابعِ أكثر مني، الجميع متساوِ!". 


آخر صورة موثقة لطفل يستخدم الورقة والقلم بدلاً عن جهاز ذكي.
آخر صورة موثقة لطفل يستخدم الورقة والقلم بدلاً عن جهاز ذكي.

كنت أهوى النجاح حدِ الإدمان. 


بدأت قصتي حينما كانت والدتي تُطريني بكل مرة ارسم فيها شيئًا رأيته في المنزل، رسمت علبة الزيت في المطبخ وجهاز التحكم بالتلفاز والدراجة الهوائية في فناء المنزل. غذّت دهشتها سعادتي ولعل جزءًا مني كان يشعر بالاستغراب أيضًا. ذلك لأن الموضوع قد بدا لي سهلا للغاية؛ كنت أراقب شكل علبة الزيت وانقل ما أراه على ورق. ما المدهش فيما افعله؟ أكان فعلًا أمر خارج عن الطبيعة؟ ولماذا لم تكن إخوتي قادرات على فعل ما أفعل؟ أيُعقل أن أكون عبقرية؟!


هكذا كُنت أفكر، وفقًا للمعطيات حينذاك، حتى اختلطت بأطفال آخرين في المدرسة، حيث لم يكن النجاح هناك كافيًا. فوقتما تعلمت الجمع والطرح كان ثمة من تعلمت الضرب والقسمة قبلي! بدا لي الأمر مثيرًا للغضب إذ كان دومًا من هي أفضل مني، كنت متفوقة لكن لم أكن الأولى مما جعلني أتساءل: ما الذي عليّ فعله لأكون الأولى؟ هل علي أن أُشعر متفوقة العام الماضي بالرعب لكي تخاف مني وتُقلل من جهودها بالدراسة؟


كنت مقتنعة تماماً بأن وجهي سيرعبها، لكن يبدو ان قصة شعري كانت فكاهية اكثر من اللازم
كنت مقتنعة تمامًا بأن وجهي سيُرعبها، لكن يبدو أن قصة شعري كانت فكاهية أكثر من اللازم

لم ترضني الأرقام والمستويات حينها فقد كان يجب علي أن أكون مميزة! لحسن الحظ، فإن حبي للتعلم المجرد يفوق هوسي بالتميز، وجدت نفسي في عمر المراهقة حينما بدأت بتعلم مهارات لاصفية (غير متعلقة بالمدرسة) ومن مصادر لم تكن رسمية إطلاقًا. مثل تصميم المواقع الإلكترونية. كان الموضوع ممتعًا! لِمَ لم نتعلم هكذا أشياء في المدرسة؟ في الإنترنت، منعتني لغتي الإنجليزية الضعيفة من الحصول على معلومات أكثر. فرحت وتعلمتها، كنت أريد المزيد، ولم تكن المصادر العربية كافية. فتعلمت وتعلمت وتعلمت، حتى أن صديقاتي لم تعرفن بحقيقة ما أفعله في المنزل. فلما كانوا يتعلمن رقصة (سوبر جونير) الجديدة كنت منهمكة بصناعة موقعي الخاص المصمم بشخصية (آفريل  لافين) وابحث عن طريقة تجعل من حركة فأر التحكم في موقعي تشبه شكل الجيتار.


وددت لو أني أعرف بعض الرقصات الشهيرة. الفتيات حظنّ بوقتٍ رائع
وددت لو أني أعرف بعض الرقصات الشهيرة. الفتيات حظنّ بوقتٍ رائع

في المجتمع، كنت أسمع كثيرًا مقولة ثقيلة تقول: "كوني حذرة عند تحديد المسار الذي ستتبعينه لأنه بمجرد أن تكبري وتتزوجي، سيكون من الصعب إعادة النظر وتصحيح هذا القرار مرة أخرى" في خضم الحديث عن أي شيء يتعلق بالمستقبل. 


كنت أكره هذه العبارة، فقد كانت تبدو لي وكأنها نهاية أحلامي وأن الكِبر والزواج لمحطات وصول ينبغي عليّ أن أهدئ عندها. كنت أغضب بحق لما أسمعها، ولعل ما كان يجعلني أغضب أكثر هو التيار النسوي السعودي الذي أحاط بالفضاء الفكري العام في منتصف العقد الثاني من الألفية، كان تيارًا قويًا جعلني اتخذ قرارات لم أكن مقتنعة بها فقط لأبرهن أني قادرة على النجاح! كنت عنيدة ولا أرضى بالهزيمة. فلماذا يجب علي أن أتوقف عن التعلم عندما أتزوج؟ ولماذا عليّ أن أركز في المنزل ولا شيء سواه؟ لماذا يجب علي الاهتمام بصحون ملونة ومزهريات مرقطة عندما لا يثيرني ذلك البتة؟ لماذا أصلًا يجب على أحلامي أن تتوقف وأن تستمر أحلام شريكي المستقبلي؟ كنت غاضبة جدًا ولدي الكثير لأعتب عليه.


بدت الحياة حينها مثل تحدِ يجب عليّ الظفر به. لكن تغير الأمر في نهاية مسيرتي الجامعية؛ استوعبت حينها أمورًا أخرى بالحياة، حتى صارت طموحاتي تلك ترددُ صوتها في آخر رأسي: "يا لها من من أفكار سخيفة، ويا لها من معضلة مزيفة. كليشيه لحياة مراهقة لم تعِ شيئًا بعد. فسوق العمل لا يعرف الأرقام ولا الشهادات. إنه لا يعرف ما مررت به إلا لو كان مسجلًا بالتأمينات الاجتماعية. إنه سوق يريد من يضيف إليه. إنه لا يحب المترددين ولا البسطاء. إنه يوتوبيا المتملقين. إنها المهارات التي لا ندرسها!"


لحسن حظي، وعيت بذلك في وقت مبكر. لكن كان يجب علي تحمل عواقب قراراتي؛ فالتحدي والعناد أخذا بي لاختيار التخصص الجامعي غير المناسب لي وأخرنيّ عن طموحاتي الفعلية بفارق سنتين من سائر جيلي. لم تكن الآراء التي سمعت صحيحة، وحتى الرجال الذين كنت أبغض لم يكونوا بالسوء الذي تصورت حينما بدأت بالحديث معهم (ذلك لأن المدارس والجامعات نسائية تمامًا، ولم أختلط حقًا بالرجال إلا بعد الوظيفة). باختصار، لم يكن أيَا مما قاله لي البعض حقيقة. والأهم، لم تكن ثمة مبارزة على النجاح، ولا ثمة اختبارات أو حتى مواعيد لتحقيق أي شيء. والأغرب والأفظع؛ لم تكن الأرقام تعني شيئا بعد الجامعة، وحتى المعدلات الدراسية العالية لم تكن ضمانًا لتميزي ونجاحي. ما هو النجاح أصلًا؟ فأنا لا أرى لائحة ترتيب المتفوقين في أي مكان!


تشبعت أثناء طفولتي بأخبار مشاهير ديزني الموهوبون منذ الصغر والعباقرة الذين أنهوا الجامعة بسن صغير وبالناشئين الذين حققوا ثروات جمة. كان سماعي لأخبار كهذه باستمرار يجعلني أُسيء لنفسي واحملها ما لا طاقة لها به. رحلتي الجامعية شَكلت ما أكون أنا اليوم. لم أكن هناك العبقرية ولا حتى مميزة بأي شكل كان. كنت قد فقدت الأمل بموضوع كهذا. ما يهم آنذاك هو أن أكون سعيدة؛ كان يجب علي أن أعيّ بأن أن يكون المرء عاديًا لأمر غير مفزع. الوعي والرضى كان لا بد منه. والمنافسة المستمرة لمرض يتعب القلب.


"كوني حذرة عند تحديد المسار الذي ستتبعينه لأنه بمجرد أن تكبري وتتزوجي، سيكون من الصعب إعادة النظر وتصحيح هذا القرار مرة أخرى"

لم تبرح هذه العبارة عقلي الى يومنا هذا. وها أنا امرأة بالغة بعمر الثامنة والعشرون استطيع القول اني فهمتها. فهمت قصدهم؛ أن المستقبل الذي يقصدون هو العمل من التاسعة صباحًا وحتى السادسة مساءً، دون التطرق إلى طريق الذهاب من المنزل واليه بساعتين اضافة على ذلك، المستقبل الذي يقصدون هو ذاك الذي لا تقدر فيه ترك مصدر دخلك الوحيد لتحقق ما يجول في عقلك، انها القدور والصحون في المجلى التي تنتظرك كل يوم.، انها كومة الملابس التي يجب عليك أن تغسلها وإلا فلن تخرج غداً، انها طعامك الذي إذا لم تصنعه ستموت جائعاً، إنها المواعيد التي يجب عليك أخدها لئلا تتدهور حالتك الصحية، إنها الرياضة التي يجب أن تمارسها بين كل هذا!


إنها الحياة، إنها كل ما يمر به الأعزب والمتزوج. إنها الدوامة التي لا تستطيع الفرار منها.


ويا ويلتاه لو كنت طموحًا في خضمها!


حينها، سيكون طريق الصباح وقتًا لتخيل أحلامك وممارسة أحلام اليقظة،  وسيكون الاستحمام وقتًا للرد على أسئلة المذيع المشهور الذي تتخيل أنه سيُقابلك، والموسيقا ستغدو انغامًا وخلفيات صوتية لمشاهد طموحاتك.



مكبر الصوت لي وحدي... ياللمسؤولية!
مكبر الصوت لي وحدي... ياللمسؤولية!

ولسوف تتساءل كيف فعلها الآخرون؟ كيف وجدوا الوقت والمال؟ كيف وجدوا من يمسك بأيديهم ويدلهم على طريق النجاح إذ لا طريق واضح ولا شهادات ولا أرقام تشفع.


لم تكن العبارة واضحة جدًا ولعلي لم أفهمها وقتها. فالزواج لم يكن بأمر مفزع؛ تعلمت- من خلال الزواج- أنه ينبغي عليّ البحث عن استقلاليتي وأن أشارك حياتي مع شخص أحب بنهاية المطاف، وهذا شيء محبب. كما لم تكن القرارات التي اتخذت قبل زواجي هي بمشكلة أبدًا. ليست القرارات الدراسية على الأقل. إذ ليس هناك علم ضار.


ما أريده حقًا مقابل إمكانياتي هي ما كان ينبغي عليّ أن أفكر به وأضعهِ في الاعتبار. وإنه لشيء مفزع بأن يُترك الأمر لطفل بأن يتخذ هكذا قرارات. 


كان ينبغي القول بأن ما تريده المرأة يختلف عن الرجل. دون الانتقاص من الزواج وصَبغهِ بشعور النهايات.


حبي للمجوهرات كان يجب أن أضعه بعين الاعتبار حتى اختار وظيفة عالية الدخل.

كما أن حبي لصناعة أعمال فنية وقضاء وقت مع الأهل والأصحاب يستلزم مني أن أختار مجالا يعطيني وقتًا كافيًا لنفسي.

وحبي للتحديات الجديدة من المفترض أن يدلني لاختيار وظيفة متجددة وغير رتيبة.


كان يجب علي، باختصار، أن أحُب نفسي وأن أعرف ما يُناسبني، عوضًا عن محاولة سماع آراء الآخرين التي لم تكن بالضرورة مُفيدة.


تزوجت طوعًا وسأختار الأمومة طوعًا وسأنتظر المناسبات السعيدة توقًا لكي ألبس وأتزين بما تشتهي نفسي. إنها متع لذيذة وشهية لامرأة مثلي. ولا أعتقد أني سوف أذهب بعيدًا في تحقيق حلمي لدرجة خسارة ما أسميه بحياة سعيدة. فهي تُغذي حلمي. وتُلهمني لصناعة عمل يليق بأن يمثل الحياة؛ لأني عشتها.


ربما كانت الوسائل التي كنت أتنافس مع زملائي عليها وما كن المعلمات يدعوننا للاجتهاد فيها ليست سوى محطات مبالغ فيها وتخلو من الإنسانية. فلست أذكر اليوم نظرية فيثاغورس ولا كم تساوي الباي (أحم... أعتقد أنها 3.14) ولكني أذكر مغامراتي مع صديقاتي وما صنعنا من ذكريات! لست أقول بأن التعليم ليس مهما ولكني أندد واشدد على أهمية الجانب الإنساني من التجربة العلمية أيضا. فهي تصنع العلاقات التي قد تؤدي بنا للحصول على توصية وظيفية، أو تجعل منا متحدثين لبقين لنيل العقود الاستثمارية، وربما قد تعرفنا على مجالات تشكل هويتنا الجديدة.


يبدو أني ما زلت مهووسة بالنجاح؛ ولكن بطريقةِ أخرى؛ أعرف أني سأنجح في الخروج من دوامة الحياة بينما أنُجز كومة الأعمال اليومية والمواعيد المتتالية وسأحقق، بإذن الله، ما أطمح إليه دون أن أمنع نفسي من عيّش الحياة التي أُحب. بطريقة ما.. سأتعلم ذلك. 


نجمة، وان كان ضيائي لا يمنح النور إلا لي
نجمة، وان كان ضيائي لا يمنح النور إلا لي


Comments


bottom of page