top of page
Writer's pictureنورة المري

نحن والأنا العليا

لطالما كانت عقولنا وطريقة عملها وما تحويه من أفكار ومعتقدات ودوافع وأوهام محط اهتمام العلماء والمفكرون. فما الذي يدفعنا إلى فعلٍ أو قولٍ ما ويمنعنا عن آخر؟ حاول عالم النفس النمساوي سيغموند فرويد الإجابة على الكثير من الأسئلة التي لا بد وأنها راودتنا بطريقةٍ أو بأخرى حول مشاعرنا وأخلاقياتنا وقيمنا المكتسبة.


 النظرية البنيوية -Structural Theory لسيغموند فرويد
النظرية البنيوية -Structural Theory لسيغموند فرويد

قدّم فرويد في النظرية البنيوية ما يرى أنه تفصيًلا مناسباً لفهم المحركين الأساسيين لعقولنا، وهما الوعي واللاوعي. قامت النظرية على تقسيم العقل إلى الهو (اللاوعي) حيث تكمن الحاجات البيولوجية والدوافع البدائية والغرائز، والأنا العليا (الوعي الجزئي) حيث يكون الضمير وحكمه وتأنيبه بناءًا على ما اكتسبه الفرد من عادات وقيم ومعتقدات، والأنا (الوعي) وهو الجزء المعتدل والممزّق في الآنية ذاته بين بدائية الهو ومثالية الأنا العليا وهو كذلك الجزء الذي يقدم الأنسان في أكثر حالاته توازنًا.


يرى فرويد أن تفاعل الثلاثة أجزاء معًا وبتوازن ينتج عنه شخصية الفرد السويّة، فلو كان (الهو) مسيطرًا فستكون النتيجة إنسان بدائي يفعل ما تمليه عليه غرائزه وحاجاته وشهواته ضاربًا بُكل معايير الصواب والخطأ عرض الحائط، ولو كانت (الأنا العليا) في محل السيطرة فسينتج تفكير لا واقعي ولا يمكن تطبيقه أو مواصلة الحياة إتّباعًا له وحده.


لقد تعلمت هذه النظرية خلال دراستي الجامعية وبالتحديد في مقرر النقد الأدبي حيث كنا ندرس أحد أهم أعمال فرويد وهو (تفسير الأحلام - The Interpretation of Dreams). على الرغم من أن نظريات فرويد تعرّضت للكثير من النقد بعد وفاته وبغض النظر عن مدى دقة تحليله للنفس البشرية إلا أن النظرية البنيوية علقت في ذاكرتي ولازمتني كلما أردت أن أحلل فعًلا أو قوًلا ما، سواءًا لي أو لغيري. فعلى سبيل المثال، عندما لا أشعر بالرضى عن نفسي خلال اليوم أو عندما أفشل فيما كان من المفترض أن أنجح فيه، كنت أشكي لأختي مبالغةً أنني لم أحظى بلحظة هدوء طوال اليوم لأنني لم أنفك عن سماع الأنا العليا توبّخ وتلعن وتُهين الأنا ليس بالعربية أو الإنجليزية وحسب، بل بعدّة لغات أخرى لم أفهمها بعد. وعندما أسمع عن مراهق اعتدى على غيره وأخذ ما ليس له عنوةً، أفسّر الموضوع على أنه هو نفسه أحد المتضررين ولا أنا عليا لديه وبالتالي لا يعوّل عليه، وهذا لأنه يعيش ظروف معينة أدّت إلى تراخي أو حتى موت أحد أجزاء شخصيته الرئيسة متمثًلا بالأنا العليا. ولكن كيف لي أن أتأكد من أنني متوازنة؟ أو بأن الشخص الذي أمامي كذلك؟


John Holcroft illustrations
John Holcroft illustrations

لطالما صعقتني قدرتي وقدرة الآخرين ممن أعرف القليل أو الكثير عن حياتهم الخاصة على التمثيل ولعب الأدوار وخلق ما يشبه الحكاية المثالية لساعة أو ساعتين من الزمن لينجحوا بالوصول للصورة المثالية في دائرة معارفهم الصغيرة وقفص مجتمعهم فـ(الأولاد يعملون وملتزمون، والبنات متفوقات وعلى وجه زواج، و"أبونا" كادح ومحب وأوضاعنا المادية مطمئنة) ففي مثل هذه اللقاءات والمواقف تأخذ الأنا العليا زمام الأمور وتحرص تمام الحرص على إتباع البروتوكولات المتعارف عليها بغض النظر عن صحة الصورة المقدمة للآخرين، فالأهم هنا هو أن نحافظ على الصورة التي فُرضت علينا كالخيار الوحيد المتاح لتكون عليه أحوالنا كعائلة أو كأفراد.


 على الرغم من أهمّية الأنا العليا في توازن الفرد وإدارة حياته إلا أنها وأحيانًا كثيرة تلعب دور الدكتاتور القامع. فما المانع من اظهاري لحقيقة أن حياتي عكس ما أظهر تمامًا؟ وأن الأسرة مفككة وأفرادها تائهون ومنهكون ولا يجمع بينهم سوى سقف؟ هل الصورة المزعومة أمام الآخرين أهم من علاقتي بأفراد أسرتي وبتصالحي مع ذاتي وواقعي وتقبلي له؟ الأنا العليا هنا تقول نعم فيما الأنا التي يقودها الهو جزئيًا ترى أنه لابد أن يكون هناك صدق كنوع من التصالح والتحرر!


هذا الجزء من شخصياتنا متمثًلا بالأنا العليا ليس إلا نتاج سنوات من التلقين المباشر والغير مباشر بأهمية الالتزام بالإطار الاجتماعي المقدس الذي يبرز صورة اجتماعية محددة وينفي ما سِواها. فلا تفسيرًا آخر لمدى حرص الأفراد على الالتزام الخانق بهذا الإطار على حساب أنفسهم وسعادتهم وخلاصهم. هل كان الخوف من كلام الناس أول البذرات التي كوّنت الأنا العليا؟ أم هو التعالي والخوف والاشمئزاز من شفقة الأخرين؟ سأرجح التفسير الأول، فنحن كائنات ضعيفة تحتاج إلى المشاركة والتنفيس والصدق ولو لمجرد ساعات تجابه بها ثقل الحياة وعبثية الوجود وسوء الطقس أحيانًا. حتى أولئك الذين يدّعون كره المشاركة لما يرونه شأنًا شخصيًا يجدون أنفسهم في أحلك الأوقات بحاجة للتجرّد من كل الصور التي سبق ورسموها لمعارفهم وأصدقائهم تعطشًا منهم لمعرفة ما قد يعتقده الطرف الآخر عن معاناتهم أو حقيقتهم ليخففّ من ذعر الوحدة، ورغبةً منهم في هذه اللحظة الآنية ذاتها، بأن تزيح ولو القليل من ثقل الحمل ،بمجرد صياغته في جُمل أو حتى كلمات تصف القليل أو الكثير مما حدث ويحدث وسيحدث.


بعيدًا عن إحتمالية ما قد يعترينا من ندم لمجرد الحديث، وبعيدًا عن الخوف من أن نضع أنفسنا في مرمى الأحكام بعد تجربة التجرّد من الزيف، إلا أن الشعور بالانتماء أو الصدق لمجرد أيام أو ساعات أو حتى دقائق يستحق المخاطرة بما نزعم من كبرياء وصلابة. أنا لا أنفي أهمية المحافظة على صورة الفرد المتزن نفسيًا وعقليًا واجتماعيًا فقد شهدت وقد نكون جميعنا شهدنا أو سمعنا ولو بالصدفة التأثير السلبي لما دونها، سواءًا على المستوى الشخصي أو المهني أو الاجتماعي، فقد يُقصى المتجرّد من الصورة الاجتماعية المعتبرة بكلمات مثل"مسكين، شكّاي بكّاي، يحتاج مساعدة" مما يجعل الكثيرين يفضّلون ما هم فيه من صمت خوفًا من الإقصاء. ولكن كبح وقمع رغبة الفرد في أن يكون نفسه معبّرًا عن مشاعره السلبية وأفكاره السوداوية لا ينتج عنه إلا أفراد منهكين من تراكم الحمل وتزايد الحاجة لتخفيفه أو التخلّص منه.


قد يلجأ الكثير من الناس لمختلف السبل محاولةً منهم لتخفيف الحِمل والخروج بأقل الخسائر فيما يخص صورتهم الإجتماعية مثل التحدث إلى الغرباء أو اللجوء إلى معالج نفسي أو حتى الاكتفاء بالكتابة، وكل هذه الطرق سعيدة ولا عواقب لها على المدى القصير إلا أنه يوجد طرق أخرى، يلجأ لها من لم تفلح معه الطرق السابقة أو لم يكن مهتمًا بتجربتها، كالتعاطي أو اللجوء لما يمكن أن يخفّف الحمل أو ينهيه. فبمثل هذه الحالات تتجلى لنا قسوتنا مع أنفسنا نتيجةً لما فُرض علينا بصرامة بخصوص ما يجب أن نظهره وما يجب أن نكونه. فمن حق أنفسنا علينا وحق الآخرين علينا أن نعيد النظر في البرواز وصدق ودقة مقاساته لكيلا يُقصي الجزء الأقل جاذبية والأكثر واقعية من الصورة. فعلينا جمعيًا تشجيع أنفسنا أوًلا، وتشجيع الآخرين ثانياً على مشاركة قصصنا ومعاناتنا وكل ما أخفيناه ونخفيه خوفًا من النظرة الدونية لنا أو خوفًا من اتهامنا بالضعف. قد يكون البعض منا محظوظ ولم يعاني ما يتطلب الحديث بدافع التفريغ والراحة وقد يكون بعضنا عانى أو يعاني ممّا يسمح للصمت أن يتمكن به أو يتجاهله، ولكن البعض منا أيضًا لديه ما يُثقل قلبه ويُجفّف روحه. فلنسأل، ونشارك، ونسمع، ونُقدِّر، ونتخفّف.


Comments


bottom of page