حينما ينزل «الأمير الصغير» لأول مرةِ في كوكب الأرض وبعدما يحكي قليلًا مع الطيار في الصحارى المجهولة، لا ينفك القارئ إلا أن يشعر بنزول بعضِ من كبريائه أثناء قراءته لحِكم عميقة مُغلفة بمنطق الأطفال. كنت أقرأ الكتاب ولسان حالي يقول: فعلًا، لا تنحصر الحكمة والفلسفة على الراشدين وحسب!
من الجدير معرفته أن مؤلف كتاب «الأمير الصغير»، الكاتب والطيار أنطوان دو سانت إكزوبيري، قد توفيّ أخوه الأصغر، وهو في الخامسة عشرة من عمره، بسبب الحُمى وكان فقدان أنطوان لأخيه بمثابة ضربة مدمرة له. ثمة الكثير من التأويلات بأن هذهِ الرواية بمثابة الحداد على أخيه، وهي عمل فلسفي مؤثر يستكشف موضوعات الحب والفقد والصداقة وأهمية التواصل الإنساني. وهذهِ هي بضع دروس فلسفية نستطيع تعلمها من «الأمير الصغير»:
تحتضن الأجساد الصغيرة الألم أفضل من تلك الكبيرة!
في حين أن «الأمير الصغير» كتابًا عن الحكمة، إلا أنهُ لا يُقدم أية حلول لمشاكل الحياة، ذلك لأن امتلاك الحكمة الحقيقية لا يُجنبنا مآسي الحياة، إنما تُقربنا الحكمة من احتضان الألم وفهمهِ، فعندما يُصادف الطيار الذي سقط في الصحارى «الأمير الصغير» ويتحدثان، يُعبر الأمير عن شوقهِ الشديد لزهرتهِ التي يُحب كثيرًا بينما يستمع إليه الطيار باندهاش! ذلك لإن النضج والكياسة والأعراف المجتمعية غالبًا ما تحدُ من قدراتنا التعبيرية العفوية الحُرة.
«لا نبصر جيداً إلا بالقلب، والشيء المهم لا تراه الأعين» :
يحكي الأمير الصغير للطيار عن قيمة الأشياء غير الملموسة عبر سردهِ للقائه بجغرافي مهووس بالكتابة عن الكواكب ورسم الخرائط لأماكن لم يزرها قط إذ لم يتحرك هذا الجٌغرافي من مكتبه يومًا! يُدرك الأمير أن أهم جوانب الحياة لا يمكن رؤيتها حقًا إلا بعدما نرتبط عاطفيًا بها. فما فائدة معرفتنا بتفاصيل مكان ما إذا لم نكن قادرين على صناعة الذكريات الجميلة فيه؟ أن الإدراك والفهم الحق للعالم يأتي من مواطن الحب، بدلاً من الاعتماد -كُليًا- على الحسابات أو الحقائق.
«لكنني اتخذته صديقًا، فصار فريدًا في الكون»:
أثناء سفر الأمير بين الكواكب، يُصادف ثعلبًا حكيمًا في وادِ ويطلب منهِ الأمير أن يكونا أصدقاء، لكن الثعلب يرد بأن عليه ترويضه أولًا! بمعنى، أن الصداقة الحقيقية تتطلب التفاهم المُتبادل والتسوية والتحرر من الخوف من مُشاركة ضعفنا وانكشافنا للآخر. يخبر الثعلب الأمير أن الاثنين لا يعنيان شيئًا لبعضهما، إنما بعد صداقتهما سيعرف كل منهما أن الآخر مميز وسيدركان قيمة الصداقة التي يتقاسمان ذلك لأن الوقت الذي سيُخصصانهِ للاعتناء بصداقتهم، هو ما سيجعلها مُميزة.
« لا تستطيع امتلاك النجوم»:
أكثر الشخصيات التي عبر عنها الأمير بامتعاض واضح هو رجل الأعمال الذي يُقابله في الكوكب الرابع. يقول رجل الأعمال بينما يعمل بشدة في عد النجوم:
“عندما تجد ماسة لا تنتمي لأحد، فهي ملكك وعندما تكتشف جزيرة لا تنتمي لأحد، فهي ملكك. وعندما تحصل على فكرة قبل أي شخص آخر، فإنك تحصل على براءة اختراع لها: وتُصبح ملكك. بالنسبة لي: أنا أملك النجوم، لأن لا أحد قبلي فَكر بامتلاكها!”
يبدو مفهوم المُلكية للأمير أمرًا بغاية السذاجة إذ يكشف هوس رجل الأعمال بامتلاك النجوم والسيطرة عليها عن شعوره بالعزلة والفراغ. فعلى خلاف ثروته وقوته، هو في النهاية وحيد. ولو كان رجل الأعمال يجمع النجوم لأنه يعتقد أنها جميلة، فربما كان الأمير سيسامحه. لكن رجل الأعمال لا يملك أي تقدير للنجوم، ما يريده هو امتلاكها فقط. يشفق الأمير الصغير على حيوات مُهدرة كهذه، فكيف يعيش المرء دونما أن يشم زهرة أو أن ينظر لنجمة متأملًا سحرِ السماء؟ الانشغال بأمور سطحية، مثل التملك وفرض السلطة، لها مغبة سيئة لأنها تُبعدنا عن التمتع بما هو خارج حدود إرادتنا. وما هو خارج حدود إرادتنا؟ كل شيء!
«لا يسمع المغرور سوى الاطراء»:
وذلك عادةِ لا يكون اختيارًا إنما سلوك دفاع عن النفس متخفِ؛ فالمغرور يعزل نفسه في أوهامهِ -بأنهُ الأفضل والأغنى والأجمل والذي لا يُقهر - لئلا يواجهِ مخاوفه. لا يدرك الكثير منا أن هذهِ الأنا الزائفة التي يتمتع بها المغرور تتطلب قدرًا لا يصدق من الإعجاب والثناء للبقاء على قيد الحياة. الأمر الساخر أن الرجل المغرور كان يرغب بشدة أن يحصل على إعجاب الأمير الصغير بأنه الأفضل والأجمل في كوكبِ لا يسكنهُ سواه! أن الغرور يستهلك الذوات ويبني جدارًا منيعًا بين حاملهِ والآخرين، فلا يقدر المغرور أن يحظى بصداقة حميمية ولا أن يرى الأشياء كما هي: سهلة ومُتخففة من ثقل أحكام البشر.
لا يكتفي كتاب «الأمير الصغير» بكونهِ كتابًا فلسفيًا يحتمل تفسيرات عدةِ ويحتاج لأكثر من قراءة لإدراك معانيّه وحكمتهِ، فنهاية الأمير تكاد تكون الدرس الأقسى، ولكأنما يقول الكاتب لنا: «يرحل الآخرون وتبقى المشاعر»، تمامًا مثلما اختفى أنطوان دو سانت إكزوبيري على حين غرةِ أثناء طيرانه فوق البحر الأبيض المتوسط خلال مهمة استطلاعية للقوات الجوية الفرنسية الحرة. لم تُجد جثته ولا تزال الظروف الدقيقة لوفاته مجهولة حتى اليوم.