top of page
  • Writer's pictureملاك الراشد

مجتمع المشهد

تقودني أحيانًا فكرة أن كُل ما يُبث عليّ من الإنترنت سيُخزن بذاكرتي للأبد للتقيؤ، وهذا فعلًا ما أشعر بهِ بعدما أقضي عدةِ ساعات على التيك توك؛ غثيان من كثرة المشاهدة وشعور بصداع وبتخمة غريبة في رأسي. كيف أصبح طبيعيًا لنا أن نهضم كُل الأفكار الانسانية التي تحوم حولنا طيلة الوقت؟

 جمهور يُشاهد فيلمًا ثلاثي الأبعاد لأول مرة
جمهور يُشاهد فيلمًا ثلاثي الأبعاد لأول مرة

لم يحصل أبدًا وأن تعرضت فئة بشرية من قبلنا لما نتعرض لهُ الآن من مشاهد افتراضية وهوس بالتحديق بالشاشات، ويرجع ذلك في المقام الأول إلى الكم الهائل من المعلومات، ما يطلق عليه اسم محتوى، التي نتعرض لها باستمرار في الإنترنت. يبدو الأمر وكأنما نعيش بوسط حفلة صاخبة يُمسك ضيوفها الثِقال بمكبر الصوت في كُل ثانية ليعبروا عن آرائهم، كما لو كانت حقائق، بينما نسمعها بلا مقاومة لتُشكل فيّنا مفاهيم وآراء، ليست بالضرورة حقيقية أو حتى جديرة بالاستماع. أعتقد أن ثمة عواقب لما آلت إليه الأمور وأننا نعيشها الآن دون أن نعيّها. لا يهمني الحديث عن العواقب، إنما أكتب بهذا الشأن لغرابة ما آل عليه شكل حياة اليوم الحديثة؛ فقد وصلنا إلى مرحلة أصبحنا فيها بحالة من تلقي المعلومات على نحوِ لا يمكن السيطرة عليه، أننا نُقصف من جميع الاتجاهات سواء عبر مقاطع الفيديو أو الصور أو برامج البودكاست الرائجة، وتأتِ كُلها لتصبغ الحياة الحديثة بصبغة غريبة؛ فإذ يبدو لنا أن الأفراد تعيش بصورةِ مُنفصلة إلا أن السلوكيات والتجارب والخبرات تتشكل، بطريقة غير مُباشرة، عبر الآخرين. بمعنى آخر، صار المرء لا يعيش ضمن مجتمع إنما المجتمع يعيش فيّه.


بينما كُنت أتحرى عن بداية المحتوى في الإنترنت، وحين أقول بدايات فإني أعني الباكورة الفكريّة الأولى التي شَرعت وتطورت عبر الأزمان وصنعته، اكتشفت أن ما نراهُ اليوم على الإنترنت بمثابة التطور الأخير للكتابة فكلاهما اكتشافات هدفها حفظ البيانات وتخزينها وتسجيلها، كما أن الكتابة بدأت بكونها فكرة عبقرية ستٌغير مسار الإدراك البشري، تمامًا كما الإنترنت. وبحسب قصة اختراع الكتابة التي استشهد بها أفلاطون -نقلًا عن سقراط- في نقد الكتابة، فهي تعود للإله «تحوت» أول من اكتشف علم العدد والحساب والهندسة والحروف الأبجدية والذي حين اكتشف الكتابة قدمها مُتكبرًا للملك «تاموز» قائلًا: «هاك أيها الملك، معرفة ستجعل المصريين أحَكم وأقَدرّ على التذكر، لقد اكتشفت سر الحكمة والذاكرة!»، والذي رد عليه مُعارضًا:

”إن الكتابة ستنتهي بمن يتعلمونها إلى ضعف التذكر لأنهم سيتوقفون عن تمرين ذاكرتهم حين يعتمدون على المكتوب وبفضل ما يأتيهم من انطباعات خارجية غريبة عن أنفسهم بدلًا من باطنها، أنك لا تُقدم علاجًا للذاكرة بل لتداعيها. أما بخصوص الحكمة فإن ما قدمته ليس الحقيقة إنما شكلها، فلما يجترع الناس المعلومات بغيرِ استيعاب سيتخيلون أنهم قادرون على الحُكم بينما هُم في معظم الأحيان جهلة.. هكذا يُصنع أشباه الحُكماء من الرجال، لا الحُكماء أنفسهم“

ما أشبه هذا الوصف الدقيق لحال محتوى الإنترنت اليوم فكم من شخصِ بدء حقًا بنشر المواعظ والحكم عبر فيديوهات قصيرة وبكلماتِ حين تُفكر بها حقًا تجد أنها بلا معنى؟

كان سقراط، في ذلك الوقت، ينظر إلى الكتابة على أنها تهديد محتمل للذاكرة البشرية ذلك لكونها نسخة من نُسخة أخرى -ألا وهي الحديث أو الفكرة- وهي حسب رأيه آفة للذاكرة، غريبة عن النفس لأنها تفِدُ إليها من خارجها، فيما الكلام نسيب للنفس. إن الكتابة -وفقًا لسقراط- تُعيد مضمونها دونما مراعاة لشروط المُستمع والمتلقّي، فيما يُحدد الكلام مضامينه تبعًا للسياق الذي يُقال فيه. لم يُخطئ سقراط حين تخيّل أن الكتابة ستكون أكبر وسيلة لفقدان الذاكرة الإنسانية، لكن لم تفعل الكتابة ذلك بنفسها إنما أدت تطوراتها -الإنترنت- لتفعل ذلك عوضًا عنها في حين أصبحت الكتابة نفسها أداة حماية مُقاومة للذاكرة البشرية.


من المثير للملاحظة أن ما يبثهُ الإنترنت لم يٌغير فقط من طريقة العيش، بل صار مُرتبطًا بتشكيل الهوية الفردية والرأي العام والمواد الرائجة وما يستحق تسليط الضوء عليه من أخبار وما لا. أنا نفسي تتضح لي في كُل مرة أشتري بها جهاز آيفون جديد أني غدوت إنسانًا بلا ذاكرة نشطة، وبأني أعتمدُ اعتمادًا كُليًا على أداة خارجية لأعيش وحتى لأكون، وبأني لو سئُلت عن شكلِ حياتي لمسكتُ جهازي كُل مرة لأُظهر صورةِ لدولة زرتها أو لصديقة أعرفها أو لأصفِ موقعِ مكان أزورهِ باستمرار. ويتلبسني خوفِ مقرف، وأنا أرى جهازي القديم ينقل صوريّ ومعلوماتي لجهازِ آخرِ جديد، من أن تُفقد عملية النقل صورةِ ما فلا أكون حينها موقنة بما خضتهُ وعشته. تعلمت أن ما يحصل يُدعى بـ ”تخريج الذاكرة“ إي تحويل بعض وظائف العقل المركزية لأداة خارجية أخرى وبالتالي استبدالها، ولمن الأشد قرفًا من كُل هذا أني، كما كثيرِ من الناس، قد تكيفتُ مع النسيان وأصبحتُ مضطرة للتعامل مع بنوك خارجية للذاكرة. يتجاوز الأمر إسناد بضعِ مهام تذكر عقلية للأجهزة والإنترنت، ويهدد الانتشار الواسع لنشر المحتوى على الإنترنت مفاهيم إنسانية جللة مثل: المعرفة والتجارب والتفكير المُستقل. وفي شِدة هذهِ الغُمرة نتساءل ما الذي يُحدد ما نتذكره وما ننساه؟ والأهم، ما الذي يُستحق أن يُشاهد؟


يجيب الإنترنت بسهولة: كُل شيء يستحق، بل يستوجب المشاهدة، فهو يُدفق كمًا هائلًا من المعلومات والأخبار كل ثانية. من مِنّا لم يشعر بوخزة عار بسيطة حينما شعر بأنه ليس مواكبًا لآخر الأخبار في الإنترنت؟ ومن مِنّا لا ينام قبل أن يتأكد أنه مَر على كُل الفيديوهات التي تهمه في التيك توك؟ ومن لم يبحث سلفًا عن أي موضوع سياسيّ عبر الإنترنت قبل أن يصقل رأيه؟


كُنت يومًا هُنا: في انتقاد الصور

سوزان سونتاغ
سوزان سونتاغ

لم يتجرأ أحدهم على نقدِ الكتابة (المحتوى من رسومات وكلمات وغيرها) كما سقراط، الذي يرى أن الأمر برمتهُ باطل وضار دون الخوض بتفاصيلِ أكثر. ونتيجة لذلك، ينظر سقراط نحو العامة بصفتهم أفرادًا يفتقرون القدرة على التفكير النقدي أو التحليل. في المقابل، تُميز سوزان سونتاغ بين المحتوى المكتوب والمرسوم وذاك المُصور، مما يشير إلى أن المشكلة قد تكمن في مشاهدة الصور على وجه التحديد. ويرجع ذلك إلى ميلنا إلى إدراك النصوص والرسومات على أنها تمثيلات فنية للواقع، أبدعها الرسامون أو الكتاب، بينما ننظر إلى الصور باعتبارها لحظة مجمدة حقيقية للواقع.


وفقًا لسونتاغ، فإن التقاط الصور بمثابة وسيلة لتأكيد وجودنا ولقول: ”رأيت هذا المكان، كُنت يومًا هُنا“. وتُنذر إننا عاجلاً أم آجلاً سنُصبح سائحين في واقعنا. بمعنى أننا فقدنا القدرة على تقدير الجمال وتأمله دون الشعور برغبةِ مُلحة لالتقاط صورة له، وتخزين تلك اللحظة في متحفنا الخاص، متحف موضوعه الحنين، فالتقاط الصور هو فن رثائي يُحفز باستمرار مشاعر السعادة التي نعلم أنها ستنفى ولكننا نتشبث بها ونضعها بإطارات جميلة لاجترارها على الدوام. للوهلة الأولى، قد لا يبدو الأمر جللًا، إلا أننا يجب أن نأخذ في الاعتبار الضرر المحتمل في حصر أنفسنا ضمن أُطر تجاربنا الماضية.

”الحاجة إلى واقع مثبت ومعزز بالتجربة، عبر الصور الفوتوغرافية، هو استهلاكية جمالية كل شخص الآن مدمن عليها“

تنتقد سونتاغ استهلاك الصور لعدة أسباب؛ أولها أنها تفصلنا عن الواقع وتُحّجم التجربة فحينما نُركز على ما يعتبر مناسبًا لالتقاطه في الصورة، تصبح حيواتنا بأكملها مجرد صور وذكريات تشبع رغبتنا بالتكديس. علاوة على ذلك، فعبر رؤيتنا لصورِ الآخرين والتأثر بها، نتحول لمثلِ من يُخطط حياته الشخصية وفِقا للإعلانات التجارية، أنما هذهِ الإعلانات لا تصدر على الصحف والتلفاز بل من أفراد نعرفهم. لقد غذت المجتمعات الرأسمالية هذا الإدمان الجماعي للاستهلاك البصري والذي تزعم سونتاغ أنه أحد أكثر التأثيرات المدمرة للعقل بسبب فرضه لمعايير محددة للجمال!


اليوم نرى أناسًا يبنون لأنفسهم حياة كاملة، غير حياتهم، عبر الصور، أن هذا التوق الشديد لخلقِ الجمال ما هو إلا محاولة تطهيرية للدنس في العالم، هي ضربة مُثبطة لعزيمة التغيير ومُحفز لاستنساخ مفهوم الجمال وتأطيره بينما لا بد للجمال أن يبقى حُرا وألا يتأصل بشيء وأن يُكتشف كُل مرة بطريقة مُختلفة للرؤية. مثلًا، فكر بشعور النصر الذي يعتريك حينما تلتقط صورة خلف برج إيفل أو وأنت واقف في شارع المايفير في لندن! حتى أنك ستُسارع لتُشارك هذهً الصور على حساباتك الخاصة مع وسم للدولة والمكان حتى تتأكد أن أصدقاءك سيرونك مُحققًا للأحلام المستنسخة التي يملكها الجميع، فكر بهذا النصر اللحظي ذي السطوة الشديدة الذي يُعمينا من الالتفات على: إضرابِ عُمال يحدث بالقرب، مُهاجرة مُسنة تطالب بالأموال لإطعام أطفالها على زاوية جدار ما، النفايات المرمية والتي ربما في مكانِ أقل رواجًا لما كانت موجودة، بيد إننا نُصر على تكرار التجارب لدرجة أننا سنمسحِ صور الفقراء من على الصور بالفوتوشوب، وسنُصمت أصوات المُضربين ونُشغل أغنية حالمة خلف الصورة، وسنتأكد من أن الزاوية التي التقطناها لأنفسنا جميلة، جميلة للغاية وعلى نحوِ غير منطقي. هكذا نعطي الأولوية للجمال غير الواقعي والمبالغ فيه على الفهم الحقيقي للعالم.


يحمل نقد سونتاغ الثاني للصور مضامين أكثر خطورة من الأول، إذ لا تقف آثار مُشاهدة الصور عند خرق مفاهيم الجمال خصوصًا حينما تُصبح الصور وسيلة لشلِ الحس الأخلاقي وإخمادهِ. فعندما نرى الصور التي تعرض معاناة الآخرين بكثرة، نفقد تدريجياً القدرة على التعاطف مع آلامهم، على سبيل المثال؛ تحدث مجازر وإبادات وجرائم يندى لها الجبين الآن في الكونغو ولا نرى تعاطفًا كبير مُقابله، السبب يعود أننا اعتدنا رؤية صورِ المجتمع الأفريقي وهو بحالات مُشابهة من الدمار والقتل لدرجة أننا صِرنا لا نشعر بشيء مُريب تجاه ما يحلُ بهم الآن. أيضًا، تُعرض صور المجازر التي تحدث بفلسطين للغرب الذين يردون عليها بأن ”الشرق الأوسط لطالما كان في حالات صراع“. إن الصور -كما تقول سونتاغ- تُفقدنا الحس الأخلاقي، وهي أيضًا أداة رأسمالية مُلهية تُسطح الأمور وتُفقدها تعقيداتها.


المحتوى المرئي في التلفاز والإنترنت بصفتهِ إدمان للمتعة

تطورت مخاوف سقراط لأشكال عدة وأتت: الكتابة، ثم التلفاز، ثم الإنترنت تباعًا لتُبث في كُل ثانية ولتهدم ذاكرة وتبني أخرى جديدة، ولو أردنا وصف التشتت الذهني الذي نعيشه لقلنا ببساطة إنها أعراض الما بعد حداثة؛ ذلك لأن الإنترنت يُقدم تجربة ما بعد حداثية خام؛ فهو يُلغي كل الروايات الكُبرى المُتعلقة بالوجود (مثل الحقيقة الواحدة للحياة والموت والحقائق العلمية والدينية)، في الإنترنت: لا شيء حقيقي إطلاقًا، لُكل رأي نظريات مؤيدة وأخرى مُلغية إذ ينظر الإنترنت للأمور على نحوِ مجهري بدلًا من أن يكون شاملًا. المعرفة والحقائق، في الإنترنت، سياقية والواقع يُروى عبر تفسيرات شخصية من أشخاص مجهولين!


توقع ديفيد فوستر والاس في روايته «الدعابة اللامتناهية» حالة مُشابة لما نعيشه الآن: تحكي الرواية عن شريط سينمائي خيالي يستحوذ على عقول المشاهدين، الذين يدمنون على معاودة مشاهدته مرة تلو الأخرى، حتى أن بعضهم يموت سعيداً لمجرّد أنه شاهده حتى النهاية. يُسهب والاس الحديث في هذهِ الرواية عن ماهية الترفية والمتعة والنزعة الاستهلاكية المعجونة بداخل المشهد. كان انتقاده لا يُصب على فعل المشاهدة والمشاركة فحسب، بل ركز على الموضوعات التي تتناقل ضمن هذهِ القنوات ذات الأنماط السريعة والتي تحضر لتستقطب أكبر عدد من المُشاهدات دون مُراعاة للجوانب الفنية والحقيقية والعلمية. أولى هذهِ الموضوعات هي: السخرية.


يقول والاس أن التعرض المستمر للمحتوى الساخر يُجرد المتلقي من إنسانيته، وذلك لافتقار السخرية بأية قيمة مكتسبة. مثلًا، حينما يقرر امرئ أن ينشر فيديو على الإنترنت يتحدث فيّه عن قضية جللة، فهو يُدرك أن خطابه سيتقاطع مع عدة دعاية ترويجية، وأن الجمهور الرائي أو القارئ لن يكون في حالة تُأبه لاستقبال أية أمور ذات أهمية -لأننا على الإنترنت لا نبحث إلا عن المتعة- وأن خطابه سيتعرض للنقد والسخرية والتهكم، وأخيرًا، فمن بين فيض ساحقِ من المواد الممتعة والترويجية الملونة والصاخبة، من سيهتم لتعكير مزاجه بأمورِ جدية؟ قد أكسب الإنترنت البشرية قدرًا كبيرًا من المعرفة حتى صار يُمكننا اختيار الحقائق التي نريد بانتقائية لصياغة واقع فردي خاص، وبطبيعة الأمور، سيبني كُل فرد لنفسه واقعًا افتراضي ساحر وبعيدًا كل البعد عن الحياة الحقيقية.

ساينفليد، حيث الظهور الأول للسخرية السوداوية
ساينفليد، حيث الظهور الأول للسخرية السوداوية

حين نتتبع بداية ظهور السخرية في الثقافة، فإن أحد الأمثلة البارزة هي مسلسل «ساينفلد» الذي لاقى نجاحًا لا مثيل له. يقول أبطال المسلسل مرارًا إن المسلسل لا هدف له وأنهُ عن لا شيء تمامًا مثل الحياة الحديثة. نرى الأربعة، جيري وكريمر وإلين وجورج، يعيشون في نيوريورك الصاخبة والمُترعة بالخيارات لدرجة تنافسية مُرهقة -مثل الإنترنت-، يقاوم كل منهم التواصل الإنساني الحقيقي بالسخرية وبتسطيح القيم وبتدمير أية معان حقيقية وبالبحث عن ملذات قصيرة. ذلك لأن السخرية من الحياة أسهل من مواجهتها. يقول ديفيد فوستر والاس إن السخرية خوف مستتر من أن يكون المرء إنسانًا، بهذهِ الطريقة لا تواجه الشخصيات أية حميمية وتفشل في إظهار أحاسيس صادقة، وتبدو العاطفة والدفء في هكذا سياقات صفات مُبتذلة وسقيمة.


محاولة فهم العواطف، والتقلبات الإنسانية أمرِ شاق بالتأكيد، حتى على نطاق كتابة الشخصيات، فمن الأسهل كتابة شخصيات سطحية وأحادية البُعد على أخرى عميقة ومُعقدة. اعتقد والاس أننا سنجد حلًا حين نٌُغير نبرة السرد من ساخرة وتشاؤومية ومُحبِطة إلى أخرى صادقة وإيجابية، وأسمى هذا التيار السردي بـ «الإخلاص الجديد»، الذي يقول أن السرد ينبغي أن ينبثق من مبادئ الإخلاص من أجل الإنسانية بصفتها دافع رئيس في أي عمل إبداعي ونقدي، ونجح نقد والاس هذا في ظهور برامج تلفازيّة وسينمائية ذات سُخرية انتقائية (بمعنى أنها تُستخدم السخرية وسيلةً بحث بدلًا من كونها تعبيرًا عن اليأس) وبأبعاد أنسانية مثل مسلسل كميونيتي وأفلام أفتار وفورست غامب والسعي للسعادة لويل سميث.


يبدو أن والاس ينوي إعادة توجيهنا مرة أخرى إلى البنية السردية التقليدية، مثل الأفلام الروائية الطويلة، وأن نبتعد عن السردية مُتعددة المنصات مثل أفلام مارفل ومسلسل إيفوريا، التي تأثرت بالمحتوى سريع الوتيرة السائد على الإنترنت. وفي حين أن تحقيق هذا الهدف قد يكون مُمكنًا على السينما والتلفاز إلا أن محاولة التحكم بالأمر حينما يتعلق الأمر بالإنترنت أمرًا مختلفًا تمامًا، ذلك لأن الإنترنت غير محكوم من أفراد بل من كُتلة جماعيّة عالمية تبثُ وعيّها مُباشرة في كُل ثانية من الوقت.


أخيرًا، في جميع جميع محاورات أفلاطون، نرى إشارات لرفض سقراط للكتابة بحجة مخاطر الإظهار الخارجي للأفكار. ومع ذلك، بقيّ اسم سقراط معروفًا حتى اليوم لأن أفلاطون كتب وأظهر أفكارهِ خارجيًا! لذا، من الصعب حقًا ألا نعترف بالجوانب الإيجابية، التي لم نكن لنتخيلها يومًا، للعوالم الافتراضية، أقولها كوني عاشقة للإنترنت وخضت فيّه الكثير، إلا أنهُ ينبغي علينا تعلم طبيعة المشاهدة الافتراضية المستمرة وأثارها السلبية على التجربة الإنسانية، سواء كان ذلك عبر ”النظرة“ للصور كما كتبت سونتاغ أو عبر السياقات السطحية الممتعة التي تُنتج في محتوى الإنترنت والتلفاز.


أتذكر مقولة ديفيد والاس حول المعنى الحقيقي للمعرفة، إذ لا يقتصر الأمر على اكتسابها فحسب، بل يتعلق بتذكير أنفسنا بالانتباه إلى ما يهم حقًا. يروي والاس في إحدى مقالاته قصة سمكتين تسبحان معًا، بينما تسبح سمكة أخرى نحوهما وتسألهما ”كيف الماء اليوم؟“، ثم تسير، تتساءل السمكتان بعد فترة: ”عن أية ماء تتحدث بحق الجحيم؟!“


يمثل "الماء" في هذه الاستعارة جوانب الحياة غير المرئية وغير الملحوظة التي تشكل تصوراتنا ومعتقداتنا وسلوكياتنا. إنه يرمز إلى الأفكار والافتراضات والتحيزات التي تحيط بنا وتؤثر علينا ولكن غالبًا ما تمر دون أن يلحظها أحد. والاس ببساطة يطلب مِنا أن نفكر بما نفكر به، وأن نرى ما نراه، فالحرية يمكن تحقيقها عبر الاختيار الواعي للانتباه للحظة وللآن وللمحسوساتِ فيّه لا في المشاهد الافتراضية التي تتحرك في الشاشات. باختصار، مثل السمكتين، يجب أن نُذكر أنفسنا دومًا بالحاضر وبما هو حولنا. فلنردد، إذًا، ضد النسيان:


”هذا هو الماء..

”هذا هو الماء..

هذا هو الماء..“


 

المراجع:

  • حوار فيدروس، أفلاطون بترجمة أميرة حلمي مطر.

  • حول الفوتوغراف، سوزان سونتاغ بترجمة عباس المفرجي.

  • هذا هو الماء، ديفيد فوستر والاس.

bottom of page