top of page
  • Writer's pictureملاك الراشد

فلسفة 101: بين بوتون وبيترسون وجيجك، من يحصل على لقب الفيلسوف الحقيقي؟


آلن دو بوتون وجوردان بيترسون وسلافوي جيجك، أسماء لم تكتفي بالحضور بكثافةً على صفحات الإنترنت فقط بل وصلوا لأبعد من ذلك بكثير؛ آلن بوتون أصبح يملك أكثر من خمسة ملايين مشترك على قناته في اليوتيوب ومحاضراته في (تيدكس) شاهدها الملايين، وجوردان بيترسون أصبح أيقونة الحزب اليميني المحافظ في أميركا وهو القدوة الجديدة لكثير من الرجال، بينما سلافوي جيجك يترأس الثورة الشيوعية الحديثة!


كلهم مختلفون تمامًا عن بعضهم البعض، لكن يجمعهم شيء واحد؛ فالثلاثة يريدون أن يصبحوا فلاسفة، ولأن هُنالك شيئان أحبهما، ربما على نحوِ مبالغ فيه، ألا وهما: الفلسفة والألغاز. لذلك قررت أن أجمع الاثنين في موضوع واحد! وأن أصنع لعبة "من هو الفيلسوف الحقيقي لنا؟" مستخدمةً طريقة (جيل دولوز) لتحديد ذلك.


(قراءة المقالة السابقة : ما هي الفلسفة ضروري لفهم هذهِ المقالة).


حسنًا، لنبدأ بعرض أفكار ومنهجيات كل واحد منهم، ومن ثم سنُحللهم سويةً لنعرف الفيلسوف الحقيقي!


آلن دي بوتون:

ألن دي بوتون
ألن دي بوتون

درس التاريخ في جامعة كامبريدج، ثم أكمل دراسة الماجستير في الفلسفة في لندن. بعد ذلك بدأ دراسة درجة الدكتوراه في الفلسفة الفرنسية بجامعة هارفارد، لكنه قرر التوقف ليتفرغ للتأليف والكتابة. بوتون يملك الكثير من الأعمال: فهو كاتب وروائي، ومُحاضر وعمل في الصحافة والتلفاز. لكن أشهر ما يملكه هو قناته الشهيرة على اليوتيوب مدرسة الحياة The School of Life.

كان هدف القناة في البداية هو نشر ملخصات مرئية ومسموعة وسهلة عن الفلسفة. صنعها بوتون لأنه لطالما اعتقد أن الفلسفة تعيش في حالة احتضار؛ فحتى في الجامعات لم يعد الكثير يولي أدنى اهتمام لتخصص الفلسفة. لذلك، أراد أن يُعيد الفلسفة للحياة وأن يجعلها قريبة للمجتمع مُجددًا.


ماهي أفكار ألن دي بوتون؟

حسنًا بوتون يقول: إن المجتمع الأقدم كان يجد معنى الحياة المباشر مِن خلال الروحانية، والعبادات والطقوس الدينية. ففي الحياة الأقدم، كانت الروحانيات تعطينا أسبابًا للحياة (العبادة والصيام وعمل الخير) وكانت أيضًا تُعطينا توجيهات أخلاقية وذاتية. لكن، بعد دخول العلوم والتكنولوجيا تضاءلت الصلة بين الروحانية ومعنى الحياة. فأفكار موت الإله أثرت على المجتمعات الغربية وأنتجت بذلك، كما يقول، مُجتمعًا يفتقر للروحانية وغارقا في الفردية. من المهم معرفته أن بوتون هنا لا يفضل الروحانية على العلم أو العكس. لكنه يمقت فكرة أن على الفرد الاختيار بينهما.


ما الحل إذن؟ أين يكمن معنى الحياة بالنسبة لبوتون؟

يقول لنا بوتون أن بإمكاننا إيجاد معنى الحياة في ثلاثة أشياء:


١- التواصل مع أنفسنا ولذة التواصل مع الآخرين.

٢- محاولة فهم العالم من حولنا ودراسته، والمتعة الموجودة في التعلم.

٣- خدمة الآخرين ومساعدتهم.


بوتون بذلك يزيل الروحانيات والميثولوجيا وفردية الماديات ويضع بدلاً منها قوانينه الخاصة. هو لا يرفض الروحانيات ولا يقدس الماديات، بل يقول أنه علينا التعلم من المفاهيم القديمة واختيار ما يروق لنا ومانراه مناسبًا منها لنطبقها على حياتنا.


اشتهر بوتون أيضًا بفلسفة العلاقات الحميمة ولديه الكثير من المحاضرات والكتب والروايات في مواضيع العلاقات.


ما هي فلسفة بوتون في الحب؟

بوتون يرى أنه ليس بإمكانك أبدًا أن تجد الشخص الأمثل لك وأنُه لا وجود لما يُسمى بتوأم الروح، (أزيلوا هذهِ الأحلام الوردية!) لا أحد مثالي، وأنت بالذات لست كذلك. كُلنا غريبو أطوار، وأغلبنا يصعب على الآخرين العيش معه. بوتون يقول أن الحُب صعب بل قد يكون من أصعب الأشياء الموجودة لأننا عندما نحب فقط نواجه حقيقة أنفسنا.


لما يرى بوتون أن الحُب صعب:

- السبب الأول هو لأن أغلبنا -خصوصًا في هذا العصر مدمنون، بالإدمان هُنا لا نتحدث عن إدمان نوع مُعين من المخدرات، بوتون يُعرف الإدمان بأنه نمط من السلوكيات التي تجعلنا نهرب من مواجهة ذواتنا والأفكار والمشاعر الغير المريحة التي تتولد عندما نكون لوحدنا. وبالطبع كُل أنواع التكنولوجيا من حولنا الآن ساعدتنا كثيرًا بالهرب الدائم وبتوفير حياة أسهل من تلك التي تلتزم جهدًا أكبر. فلذلك، إذا فشلنا بمعرفة ذواتنا ومواجهتها سيكون من الصعب علينا جدًا أن نرتبط بشخص آخر.


السبب الثاني، هو أن الحُب يتطلب منا أن نفعل شيئا لا نريد فعله كقول "لا أستطيع أن أنجو بدونك"، "أحتاجك" بينما نملك رغبة قوية بأن نكون دائمًا أقوياء ومدافعين جيدين دون أن نظهر ضعفنا للآخرين.


يتحدث بوتون بطريقة رائعة عن فشل أغلبنا بقول حقيقة احتياجنا للطرف الآخر وكيف يؤثر ذلك على علاقتنا بِهم في محاضرته “لماذا ستتزوج الشخص الخاطئ؟”

بوتون لا يرى أن الحُب مجرد غريزة أو مشاعر بل يرى أن الحب مهارة. نعم، مهارة! يجب علينا أن نتعلمها ونتعلم من خلالها. وهو يعرف الحُب (أن تُحب): أن تكون مُستعدًا لتفسير التصرفات المنفرة من حبيبك حتى تجد أسبابا أفضل لمعرفة لماذا ظهرت. أي أن تحب معناه أن تضع لمن تحب أعذارًا بكرم وإحسان. فجوهر الحُب يكمن في كوننا مُستعدين لتفسير تصرفات من نُحب.


الجميع يحتاج هذا الحب وفي حاجة ماسة له. بوتون كتب رواية (مجرى الحب - The Course of Love) والتي توضح كيف أن الحُب رحلة طويلة لاكتشاف الذات والطرف الآخر، رحلة لا تنتهي بمجرد زواج الطرفين!


دعونا نسأل الآن هل نجح الآن بوتون بأن يكون فيلسوفًا؟

من أجل أن نجيب على هذا السؤال نحتاج الاستعانة بأفكار جيل دولوز، الذي وضع لنا شروط الفيلسوف ونُطبقها على بوتون وباقي المفكرين!


1-خلق مفاهيم خاصة: هل صنع بوتون مفهومًا خاصًا به؟ أو قدم منظورًا أو بعدًا مختلفًا للفلسفة؟ والأهم من هذا كُله، هل يطرح بوتون أسئلة جديدة؟

الإجابة باختصار هي لا. فلو نلاحظ، سنجد أن بوتون (في أغلب الأحيان) يعيد تفسير مقولات الفلاسفة لدعم آرائه الشخصية. بوتون أيضًا يميل إلى تيسير الفلسفة بطريقة سطحية ومزعجة. على سبيل المثال وبما أننا سبق وشرحنا لكم سارتر (*) دعونا نر مقطعًا من فيديو شرح فلسفة سارتر على قناة مدرسة الحياة:

كما ترون، الفيديو يشرح الفلسفة الوجودية الحديثة لسارتر (تلك التي أقلقت أوروبا والعالم العربي) عبر حالة شخصية لوكوتان -بطل رواية الغثيان-الذي يلازمه شعورٌ دائم بالغثيان والقلق نحو الجمادات التي حوله. هذا الشعور -حسب ما شرحه سارتر- هو شعور طبيعي مُصاحب للقلق الوجودي.


برأيي الشخصي هذا الفيديو مزعج لأنه يختزل معنى الوجودية في مثال واحد فقط! فكما تتذكرون الوجودية فهي أعقد من ذلك بكثير إنها تناقش هوية الفرد، وثقل الحرية والمسؤولية، و الكينونة والعدم، بالإضافة إلى الموجود في ذاته والموجود لذاته، وأمور كثيرة تجاهلها هذا الفيديو ليختار أن يشرح وجودية سارتر في ستة دقائق!

2- انضباط وصرامة لأن يكون المثال الحي لمفاهيمه والتعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه وكُتبه وتعليمه:

بكل تأكيد نعم. سواء كنا نتفق مع آراء بوتون أم لا. لكن يجب أن نعترف بأن بوتون يكرس الكثير من جهده لجعل الفلسفة أكثر شعبية وقربًا من المجتمع وقد نجح في ذلك من خلال قناته (مدرسة الحياة) ومحاضراته الكثيرة. وحتى عندما يتعلق بآراء بوتون في العلاقات الحميمة، فقد عبر عن آرائه ومنهجه في العلاقات الحميمة في عدد كثير من كُتبه وأعماله.

أخيرًا، هل نستطيع القول أن آلن دي بوتون فيلسوف؟

الكثير من الفلاسفة ومحبي الفلسفة لا يعتبرون بوتون فيلسوفًا على الإطلاق، لأنه كما وضحنا لكم لم يأت بأي إضافة إلى أي من المدارس الفلسفية (الميتافزيقية، الأخلاقية، الجمالية، الوجودية أو حتى السياسية). ولم يحاوره أحد من الفلاسفة الحديثين. نستطيع أن نصف آلن دي بوتون بالمُفكر الشعبوي (Pop- Intellectual) فهو بلا شك مُسوق رائع للأفكار الفلسفية وقد ساعد في جعلها سهلة للجميع. لكن تذكروا ليس كُل من يتحدث عن الفلسفة هو بالمقابل فيلسوف!


جوردان بيترسون:

جوردان بيترسون
جوردان بيترسون

هو عالم نفس سريري ومفكر كندي، وهو بروفيسور في علم النفس. نجح بيترسون بأن يكون المُفكر الأكثر نفوذًا في العالم الغربي (كما وصفته مجلة النيويورك تايمز).


يُعرف بيترسون نفسه بأنه "مُحافظ راديكالي" فهو يؤكد على أهمية التقاليد، والدين، والجنس البيولوجي بدلًا من الهوية الجنسية والتسلسل الهرمي للمجتمع بدلًا من المساواة والقيم الرجولية التقليدية. أصبح لبيترسون آلاف المعجبين وحاليًا يشترك في قناته على «اليوتيوب» نحو مليون مشاهد (حيث ينشر محاضراته وتسجيلات أخرى) وقد تلقى مساهمات من معجبيه على موقعه الشخصي على الإنترنت تتجاوز 80 ألف دولار شهريًا. أصدر بيترسون كتابين حتى الآن، ويُعد كتابه الأخير «12 قاعدة للحياة» من أكثر الكتب غير الروائية مبيعاً.


متأثر بـ: كارل يونغ.







ابتدأت شهرة جوردان بيترسون بعد مُعارضته لمشروع القانون الكندي لحقوق الإنسان والمسمى بـ (Bill C-16)، إذ قُدم المشروع من قِبل جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا. المشروع ينص على تعديل قوانين خطابات الكراهية وإضافة عدم احترام الهوية الجنسية إلى أسس التمييز القانوني في كندا. وقد أضُاف إلى القانون الكندي لحقوق الإنسان، حيث انضم إلى قائمة الجماعات المحددة التي تحميها من التمييز، وتشمل هذه الفئات العمر والعرق والجنس والدين والإعاقة من بين أمور أخرى.


ما هي وجهة نظر جوردان بيترسون في هذا المشروع؟

مشروع (Bill C-16) هو مشروع سياسي قائم على منهجية الصوابية السياسية (تصفية اللغة أو السياسات أو الإجراءات من أجل تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع). وجوردان بيترسون يقف ضد مبدأ الصوابية السياسية لأنه يرى أن مثل هذهِ الإجراءات تناقض مبدأ حُرية التعبير. هكذا بدأت شهرة بيترسون المنقطعة النظير، ففي وقتنا الحالي حيث التحرر هو المحرك الرئيسي لأكثر الشعوب، كيف تجرأ رجلًا أن يقف ضد هذا الحراك العالمي وينتقده؟


لا شك أن جوردان بيترسون هو مُفكر ذكي وذو كاريزما عالية. لكن، هل نستطيع القول أن بيترسون فيلسوفٌ بحق؟

بالبداية علينا أن نعرف ماذا يكتب وماذا يقول بيترسون وماهي أهم منهجياته لنجاوب ذلك! فقد نشر بيترسون كتابين حتى الآن، الأول هو خرائط المعنى والثاني هو اثنتا عشرة قاعدة للحياة. كتابه الأول خرائط المعنى هو الكتاب الذي يشمل كُل نظريات وآراء بيترسون والذي نشر من خلاله منهجيته الخاصة. لذلك من الأفضل أن نبدأ به:


الكتاب يحتوي على حوالي 500 صفحة ممتلئة بالقصص الميثولوجية والكثير من الرسومات التوضيحية، ونُشر في عام 1999. وبالطبع قد وضع بيترسون تسجيًلا محاضراته وهو يشرح فيها الكتاب على طُلابه.


سنحاول أن نختصر لكم ماذا يقول بيترسون في هذا الكتاب ونُحلله سوية!

في بداية الكتاب يكتب بيترسون عن قصة نزول المسيح الى العالم السفلي The Harrowing of Hell:

استنادًا على الإنجيل، فالمسيح بعد الصلب وقيامته، انتقل إلى العالم السفلي، هاوية الجحيم تحديدًا ويُسمى هذا المكان بـHades وهو مُختلف عن الجحيم: (فكل الأموات الهالكين يذهبون إلى هذا المكان منتظرين لمصيرهم). هنالك قابل المسيح تسعة أشخاص مؤمنين وأخذهم معه للأعلى حتى يكونوا جزءًا من العالم الجديد للمسيح ويشهدوا قيامته.


من هذا الاستشهاد، نرى أن بيترسون يحاول استخدام الرمزية ليقول لنا شيئًا؛ بيترسون يُريد إنقاذنا من الجحيم! كيف؟

عن طريق إعادة إحياء الأساطير والميثولوجيا ودراستها لتُعطينا مفهوما أفضل وإنقاذ ذواتنا والمجتمع. فبعد بحث دام لخمسة عشر عامًا يزعم بيترسون أنه وجد الحل لمشكلة ضياع معنى الحياة والخِلافات الأخلاقية وقضايا العنف والهوية. بيترسون يرى أن البشر يتعلمون كيف يتصرفون أخلاقيًا عن طريق القصص التي تحتوي على "نماذج أولية" (مثل آدم وحواء، النبي عيسى، والأساطير الإغريقية) والتي تطورت على مدار تطور جنسنا البشري. وهو يرى أيضًا أنه من خلال دراسة الأساطير، يمكننا رؤية القيم والأطر المشتركة بين الثقافات، وبالتالي يمكننا فهم الهياكل والموجهات التي توجهنا. أي أن الرموز، والتقاليد، والأساطير توفر لنا نماذج أولية أصيلة وهي موجودة لصنع نمط أخلاقي حضاري ولإعطاء الأفراد معنى وغاية وقيمًا توجيهية وتنظيمية.


بالنسبة لبيترسون فإن السبب الرئيس لوجود العُنف في مثال جماعة أوم شنريكيو هو لأن دولة اليابان أصبحت تُمجد الرأسمالية المُطلقة والصناعة والاستهلاك مقابل إزاحة مفاهيم الدين والثقافة والإمبراطورية التي كانت توفر للشعب المعنى والتوجيه.


كُل هذا ليس سوى مجرد مُقدمة لكتاب خرائط المعنى. فبيترسون يرى أن العالم يتكون من شيئين أساسيين هما:

الفوضى Chaos (المجهول) والنظام Order (القانون، السيادة الذكورية) وبأن البشر بقدرتهم على التفكير المُجرد يستطيعون أيضا صنع إقليمية مُجردة - Territoriality (أنظمة الاعتقاد التي تنظم مساحة عواطفنا وهذا بالمقابل من شأنه أن يتبعه محاولات عبثية وغير مفهومة لمواجهة الفوضى الداخلية التي يشعر بها الإنسان).

"يُفضل الناس عمومًا أن تكون الحرب شيئًا خارجيًا، وليس داخليًا"

الشخصيات البطولية, كما يصفهم بيترسون، هم أولئك الذين يطورون الثقافة والمجتمع كوسطاء بين هاتين القوتين الطبيعيتين. وبهذه الطريقة تتمثل أسطورة المجهول الأبدي فالعراف هو البطل الذي يذبح تنين الفوضى، مما يؤدي إلى النضج في مفهوم الفردية.


يزود بيترسون كتابه برسوم توضيحية لما يقصده:

هذا هو ملخص للأفكار التي يروج لها بيترسون في كتاب خرائط المعنى وهي أساس منهجياته: عليك العمل على قتل تنين الفوضى! والتعلم من أولئك الذي قتلوه من قبلك.

"حين تواجه مشكلة تكون أمام خيارين: إما أن تواجهها بكامل وعيك أو أن تتخلص من هذا العبء وتتجاهلها. تستطيع التجاهل بأن تكون اتكاليا أو مدمن كحول وأن ترفض كونك بلغت الرشد وتظل تتصرف كالأطفال، أو تقوم باختيار الحل الأفضل وتعمل على توسيع مداركك وزيادة وعيك بالمشكلة لكي تحلها وتتجنب حصولها بالمستقبل."

الحياة صعبة بطبيعتها . وما البديل الأفضل لكي لا تجعلها أسوأ سوى أن تختار الخيار الأصعب؟ أي أن تكون قادرا على تحمل المسؤولية، وأن تتقبل ما تحمله لك الفوضى من عبء. مثلًا: حين نفكر أن ننجب طفلا وفي قرارة أنفسنا لأن نتقبل الحِمل الذي يأتي معه.

"أهم نصيحة يمكن أن تقدمها للشباب كي يتجاوزوا مرارة الحياة هي أن تقبلنا للعبء يكثف شعورنا بأن للحياة معنى. يعطينا قوة تزيد من قدرتنا على الخوض في الخيارات الصعبة واستخراج النظام من الفوضى. هذه القدرة هي المسؤولية."

كتاب 12 قاعدة للحياة:

12 Rules for Life Book by Jordan Peterson
12 Rules for Life Book by Jordan Peterson
"الأشخاص الذين يرون أن ثقافتنا هي نظام أبوي قمعي لا يريدون أن يعترفوا بأن التسلسل الهرمي الحالي يعتمد على الكفاءة"

جوردان بيترسون لا يؤمن بأن التسلسلات الهرمية هي نتاج نظام ذكوري سياسي قمعي (مثل سيادة ذوي البشرة البيضاء)؛ الأمر بالنسبة له أن "البقاء للأقوى" أي أن الفرد عليه أن يعمل وينافس الآخرين من حوله ليكون أكثر نجاحًا وجاذبية بدل التباكي. أنت إما أن تكون "فاشلا" أو "ناجحا". لا شيء بينهما، ويقول أن الرتب والتسلسلات الهرمية أساسية وفطرية وموجودة منذ الأزل في جميع الكائنات الحية.


ما هي حجة بيترسون التي يُبرر بها وجود التسلسلات الهرمية؟ إن بيترسون يضرب لنا مثالًا في الكركند!

Jordan Peterson Lobster Theory
Jordan Peterson Lobster Theory

ويشرح لنا نظريته في كتابه الحديث "12 قاعدة للحياة" في قاعدته الأولى:


1- قف مستقيما وكتفيك للخلف.

كائنات الكركند، مع اختلاف أماكن معيشتهم، فقد لوحظ أنهم يتنافسون ويتقاتلون فيما بينهم من أجل السيطرة على أفضل المواقع وأكثرها أمنا للاختباء ووجد العلماء أن هذه الصراعات التنافسية تؤدي لاختلاف نسبة الهرمونات في أدمغة كائنات الكركند!


كيف ذلك؟

الأقوياء (أو كما يطلق عليهم بيترسون، الفائزون) ترتفع لديهم نسبة هرمون السيروتونين (مادة كيميائية في الدماغ ترتبط غالباً بمشاعر السعادة)، وبالمقابل، كلما ازدادت هزائم الكركند، كلما انخفض مستوى السيروتونين. وهذا الهرمون يظهر بوضوح على هيئة الكركند نفسه. فالكركند ذو الهرمون العالي في السيروتونين، يبدو أكثر مرونة واستقامة، بينما الأضعف (الخاسرون) يظهر بصورة متوترة ويبدو منطويًا على ذاته.


ما الذي يحاول قوله هُنا؟

بيترسون يحاول القول أن التسلسل الهرمي مفهوم مشترك في المجتمعات البشرية والحيوانية وأنه موجود منذ الأزل، ولكي تتسلق هذا الهرم وتعطي انطباعا عن ثقتك؛ قف باستقامة وثبات، مثل الكركند! أي بكل بساطة، إن الرجل الناجح (اجتماعيًا ومهنيًا) بطبيعة الحال هو الشخص الذي سيفوز بأجمل النساء وبأفضل المناصب ويصعد بذلك لقمة الهرم التسلسلي، والعكس كذلك بالنسبة لأولئك الأقل نجاحًا. لذا يقول توقف عن التباكي واعمل على نفسك بدل لوم بنيات المجتمع.

"كن قويًا واسترجل، يا ابن عرس!"

والآن، لنحلل معًا، هل يستحق جوردان بيترسون أن يحظى بلقب فيلسوف؟


نقد لأفكار بيترسون في الأخلاق والمنطق:

في كتاب خرائط المعنى: هل فعلًا النماذج الأولية للإنسان والطبيعة الأم أمران كفيلان بأن يقودا البشر أخلاقيًا؟ خصوصًا أن الكثير من النماذج الأولية كانت تتبع مزايا تكيفية مع الحياة والكثير مما نعتبره أخلاقيًا الآن يقف خارج مفهوم "التطور والبقاء للأقوى" على سبيل المثال: رعاية المعاقين والمرضى. فما هو مقدار الإلهام الذي يجب علينا أن نستخلصه من القدماء؟ ألا يفترض علينا أن نتقدم؟ والأهم من هذا كُله، ما المقصود بالضبط بهذهِ الرسومات؟


فكما بإمكانكم ملاحظته، الرسومات التي تبدو معقدة في الوهلة الأولى: توضح أن مشاعر"الأمل، السعادة.." تدخل في نطاق "ما يجب أن يكون داخل المستقبل". هل يحتاج الأمر إلى هذه الرسومات التوضيحية للشرح؟ وما الذي يقصده بيترسون بتنين الفوضى؟ هل يقصد بها رغباتنا أم أنه مخلوقًا اخترعه بيترسون؟


بيترسون ونظرية الكركند ومخالفته للعلم الحديث:

اختيار بيترسون للكركند بالذات ليقول لنا أن التسلسل الهرمي والهيمنة الذكورية موجودة في الطبيعة منذ الأزل، هو اختيار انتقائي جدًا! إذا كانت هذهِ طريقته في محاولة لدعم ادعاءاته، فشخصٌ آخر بإمكانه استخدام حيوان فرس البحر كمثال لتفوق الأنثى، ففي مجتمع فرس البحر الذكر هو الذي يهتم برعاية الصغار. وبإمكاننا أيضًا أن نختار مجتمع النمل الذي يحمل نظامًا اجتماعيا عادلا، حيث جميع أفراده متساوون في الحقوق!


إن هذا النقد هو أكثر ما يعيق آراء بيترسون، فهو يتسم باستخدام أسلوب الإنتقائية (Cherry Picking)؛ أي أنه يختار ما يريده من النماذج ليستخدم منها حجج منطقية تدعم ادعاءاته بينما ثمة آلاف النماذج المعاكسة! بيترسون، أيضًا، لا يهتم كثيرًا إن خالفت نظرياته الِعلم الحديث! ففي الحقيقة أن أجهزتنا العصبية مُختلفة تمامًا عن الكركند ولا يمكن أن نقارن تأثير هرمون السيروتونين على الكركند بتأثيره على البشر أو غيرهم من الكائنات. ليس هذا فقط، فتأثير السيروتونين يختلف تأثيره من عضوٍ لآخر، فعلى سبيل المثال؛ يُنتج ويُستخدم معظم السيروتونين في الأمعاء للمساعدة في الهضم!


ومن ناحية علمية تطورية، يزعم بيترسون أن البشر والكركند تباعدوا منذ 350 مليون عام، وهو مجرد مثال على جهله في البيولوجيا التطورية: فعلى الرغم من أن أسلاف الكركند ظهروا قبل حوالي 350 مليون عام ، إلا أنهم كائنات لافقارية، بينما البشر من الفقاريات، وقد تباعدت هذه المجموعات على شجرة التكاثر منذ نصف مليار سنة على الأقل!


إذًا، كيف جعل جوردان بيترسون من نفسه شخصا عبقريًا وذكيًا؟

جوردان بيترسون يكتب ويتحدث بطريقة غير واضحة (فهو لا يقول بطريقة مباشرة ماذا يقصد، ولكنه يُلمح له)، لذلك عندما يحاول أحدهم أن ينتقد أفكاره، يُغير بيترسون رأيه ويصرخ بإهانة مُبالغ فيها مجاوبًا: "هذا ليس ما أقصده! لم أقل ذلك! اقرأ المزيد!" بيترسون هنا يستخدم أسلوب الغموض المٌتعمد (Obscurantism) في حديثه وكتاباته، وهو تكتيك معروف لإغراء القراء باحترام سُلطة الكاتب، فلا يمكن لأحد أن يتأكد من فهمه لمعنى المؤلف.


*الكثير من الفلاسفة الفرنسيين استخدموا هذا الأسلوب وأشهرهم ميشيل فوكو. لكن فوكو دافع عن نفسه وقال أن الفرنسيون يُحبون الغموض وأنه لم يستخدم الغموض ليبتعد عن تقديم الحجج المنطقية.


مُجددًا، هل نستطيع القول أن جوردان بيترسون فيلسوف؟ حسنًا لنأخذ شروط الفلسفة عند جيل دولوز؛ هل نجح بيترسون بتكوين الشخصية المفاهيمية؟

جوردان يعرف أنه من أجل أن يكون فيلسوفًا، عليه أن يخترع مفاهيمة الخاصة، وقد حاول بيترسون فعل ذلك واخترع مصطلحين:


الأول: فرض الزواج الأحادي (Enforced Monogamy)

لأن بيترسون مهتم بقضايا الرجال، فمن مشاكل الرجال في المجتمع الحديث هي رفض النساء الزواج بهم أو رفض النساء لإقامة علاقة معهم، وهذا الرفض يصنع من الرجال عازبين لاطوعيين ويؤدي بهم للتوجه نحو العنف. ولحل هذه المشكلة اخترع بيترسون مصطلح: "فرض الزواج الأحادي".ما معنى هذه الجملة الطويلة؟ يقصد بها أن يكون الزواج هو أساس العلاقات. بالطبع كان بإمكان بيترسون قول كلمة زواج فقط لكنه قرر الحشو واستخدام الغموض ليخترع مفهوما جديدا، ولكنه فشل في ذلك.


لنشاهد مقابلته مع جو روغان وكيف فشل بيترسون بالدفاع عن مصطلحه:

الثاني: ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة (Postmodernism Neo-Marxism):

أي شخص يخالف آراء بيترسون، يصفه بيترسون بأنه يتبع "ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة".

ما معنى ذلك؟ لا أحد يعرف، حتى بيترسون لا يعرف ذلك!


*وبالمناسبة، فلسفيًا، الماركسية هي في الأساس نظرية حداثية وهي تصف عدم المساواة الاقتصادي والصراع الطبقي في خلق أحداث التاريخ. لكن ما بعد الحداثة تشكك في هذه المنهجيات حيث تقف ضد المفاهيم التي تؤكد الحقيقة الكاملة ويجادل فلاسفة ما بعد الحداثة عمومًا أن الحقيقة تتوقف دائمًا على السياق التاريخي والاجتماعي بدلاً من كونها أمرًا مقرورًا به وأن الحقيقة دائمًا ما تكون جزئية و "موضع جدل" بدلاً من كونها كاملة ومؤكدة. لذلك، لايمكن أن تجتمع ما بعد الحداثة بالماركسية، لأن ما بعد الحداثة تُشكك في الماركسية!


سلافوي جيجك يسأل بيترسون، ماذا يقصد بهذا المفهوم؟

طلب جوردان بيترسون من سلافوي جيجك أن يُناظره ليتحداه أن الرأسمالية والتسلسلات الهرمية هي أشياء إيجايبة وتجلب الخير للمجتمع وكان اسم المناظرة (السعادة: الرأسمالية مقابل الماركسية). الاثنان امتلكا الوقت الكافي لدراسة بعضهما البعض، ومع ذلك بيترسون قدم إلى المحاضرة وهو لم يقرأ سوى الكتاب الأقصر لكارل ماركس (البيان الشيوعي - The Communist Manifesto)، وكانت المناظرة سيئة جدًا لبيترسون لأنه لم يبدو أنه يعرف ماذا يقول أو عن ماذا يتحدث! وبالطبع سأل جيجك بيترسون عن معنى "ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة":

إذن، هل إستطاع جوردان بيترسون أن يُكوّن الشخصية المفاهيمية؟

لا، بيترسون يعرف أنه يحتاج لتكوين هذهِ الشخصية ولكنه لم ينجح!


هل أظهر انضباطا، وصرامة؛ لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه؟

جوردان بيترسون يستخدم أسلوب الغموض حتى لا يقع في موضع النقد، وكثيرا ما يهرب من الجواب المباشر لأسئلة الجماهير. لذلك هو لا يظهر أي صرامة حتى بأن يكون حقيقًيا.


أخيرًا، هل نستطيع القول أن جوردان بيترسون فيلسوف؟

قبل أن يتسمم جوردان بيترسون بجرعات الشهرة، كان يقدم وجهات نظر رائعة (من ناحية تربوية ونفسية) حول مفاهيم الأخلاق التقليدية والرجولة ومعنى العمل. لا شك أن هذهِ الرسائل هي رسائل إيجايبة ويحتاجها الجميع، وربما في هذا الوقت أكثر من ذي قبل. بيترسون نجح أن يجعل من الرجولة ومفهوم العائلة والارتباط والعمل تبدو كأعمال نبيلة في وقتٍ أصبح فيه الأغلب يُمجد التخلي والفردانية، ونجح أيضا بأن يجعل الإدمان وكثرة الشرب والعيش من دون وعي أن تبدو كأعمال جبانة ووضيعة تُساعد الشبان بالهروب من الواقع. جوردان بيترسون، بلا شك، غيّر حياة الكثير للأفضل من ناحية نفسية. لكن، بعد شهرته، اتخذ بيترسون اتجاهًا سياسيًا وفلسفيًا لمفاهيمه، وهنا برأيي فشل. لأن أغلب مفاهيم بيترسون لا تخرج من نِطاق أسلوب الحياة والتفكير، لذا عندما حاول أن يقحم مفاهيمه سياسيًا وفلسفيًا، أصبح الضغط يكمن في أن يُثبت بيترسون أنه "على حق" وأن عليه أن يختار حزبًا ما ليدافع عنه، فخرج لنا بيترسون بنظرية الكركند السخيفة ليدافع عن حزب اليمين، وطار بِه الغرور أن يطلب مقابلة سلافوي جيجك، أذكى فيلسوف نعرفه حتى الآن، ليثبت له أن الرأسمالية هي الأفضل! وفي المرتين فشل، وهو بالتأكيد لا يمكن أن يكون فيلسوفًا؛ إذ يستخدم الانتقائية والغموض لدعم ادعاءاته. وكما هو واضح أنه يفتقر لفهم علم المنطق والسياسة والبيولوجيا وحتى الفلسفة!


لكن السؤال، هل أصبح جوردان بيترسون بهذهِ الشهرة لافتقارنا الشديد لقدوة تعيد فينا الأمل بالرجولة وبمفهوم العائلة مُجددًا؟

سلافوي جيجك

سلافوي جيجك
سلافوي جيجك

سلافوي جيجك (1949)، من سلوفينيا.قدم مساهمات في النظريات السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما، وكتب حول العديد من المواضيع مثل: الأيديولوجيا، والشيوعية، وحقوق الإنسان، والثورة، والسينما، والدين. جيجك لا يتوقف عن الحديث وحتى عندما يتعلق الأمر في الكتابة فهو قد طبع حتى الآن أكثر من 70 كتابا!


وُصف بأنه أخطر فيلسوف سياسي في الغرب. جيجك لا يقتبس فقط الفلسفات القديمة لنا، بل هو يتفلسف أمامنا ويتعرى من خوفه بأن يبدو مُضحكًا أو غبيًا أو عبقريًا حد الجنون، ويتحدث -دون توقف- عن الفلسفة والفن والسياسة والثقافات مستخدمًا الكثير من الاستعارات والتشبيهات والمقارنات والسخرية والنقد؛ حتى أن البعض يسند له اختراع كلمة idiosyncratic لوصف غزارة حديثه وكثرة تنقله بين الموضوعات.


متأثرا بـ: هيغل، جاك لاكان،و كارل ماركس.




ما أفكار سلافوي جيجك؟

سلافوي جيجك ينتمي لحزب اليسار، وهو مدافع شرس عن الشيوعية ويعتبره الكثير بأنه نيو-ماركسي (مُهتم بدراسة وتوسيع النظرية الماركسية،عن طريق دمج عناصر من تقاليد فكرية أخرى مثل النظرية النقدية أو التحليل النفسي أو الوجودية أو من خلال هيغل ولاكان). ومن أبرز أفكار ومفاهيم جيجك هو مفهوم الإيديولوجيا، فهي اللحن الأساسي الذي يسري في أغلب أعماله، وقد حاول أن يُعبر عنها بشتى الطرق في كتاباته ومقالاته. وبالرغم من صعوبة استعراض مفهوم الإيدولوجيا لدى جيجك، لكننا سنحاول أن نكشف الغطاء عنها.


ففي كتاب الأيديولوجيا الألمانية - لـ كارل ماركس وفريدريك إنجلز، وُصفت الإيديولوجيا بأنها:

“إن أفكار الطبقة السائدة في كل عصر هي الأفكار السائدة أيضا، بمعنى أن الطبقة التي تمثل القوة المادية في المجتمع هي في الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة. إن الطبقة التى تتصرف بوسائط الإنتاج المادي تملك في الوقت ذاته الإشراف على وسائل الإنتاج الفكري، بحيث أن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة"

إذًا، فإن الأيديولوجيا، كما يراها ماركس وإنجلز، هي الأفكار الزائفة عن الواقع والحقيقة ولكن لأنها تعكس مصالح لطبقات معينة من المجتمع فهي تنتهي بأن تُصبح عاملاً مُهمًا للوجود الإنساني. بهذه الطريقة جعلت الأيديولوجيا الوعي مزيفا.







كما نرى أن الأيديولوجيات فى نظر ماركس هي ليست سوى انعكاسات مفروضة على المجتمع من قِبل قوى أخرى متحكمة (الطبقات الغنية) وهي تؤدي المهمة الأساسية فى إحداث أى تغيير اجتماعي حقيقي.


على عكس كارل ماركس، جيجك لا يرى أن الإيديولوجيا مفروضة علينا من قِبل قوى معينة في المجتمع؛ فهي بالنسبة له تُمثل علاقتنا التلقائية مع العالم، فكل شخص مؤدلج بالضرورة. يقول جيجك، أيضًا، أننا نستمتع حتى بهذه الإيديولوجيا، لأن محاولة الخروج منها عملية مؤلمة.


يشرح لنا رؤيته عبر فيلم They Live:

يضرب لنا جيجك الكثير من الأمثلة على استمتاعنا بالايديولوجيا في حياتنا اليومية:

"عندما يجعلوننا نشاهد أطفالًا جياعا في أفريقيا، طالبين منا أن نساعدهم، فإن الرسالة الإيديولوجية الخفية هي شيء أشبه بـ: لا تفكر، لا تُسيس الأمر، انسى الحقيقة التي تسببت في المجاعة، فقط تحرك وادعم بمالك كيلا تحتاج أن تُفكر بالأمر"

الإيديولوجيا موجودة في كل مكان، في المطاعم وفي الأفلام وفي حياتنا اليومية. يقول جيجك أننا لو أزلنا هذهِ الأفكار، لما عرفنا ماذا نُريد حقًا؛ ولذلك فإن أهمية الفلسفة تكمن في طرح الأسئلة الصحيحة كونها محاولة للتحرر. وهذا هو أسلوب جيجك الدائم، فهو لا يُعطينا إجابات، بقدر ما يعطينا أسئلة!

"لم تكن السعادة يومًا مُهمة على الإطلاق. المشكلة أننا لا نعرف ما نريده حقًا. ما يجعلنا سعداء هو عدم الحصول على ما نريد، وأن نحلم به. السعادة هي للانتهازيين. لذلك أعتقد أن الحياة الوحيدة ذات الرضا العميق هي حياة الصراع الأبدي، خاصة ذلك النضال مع النفس. إذا كنت تريد أن تظل سعيدًا، فما عليك سوى أن تظل غبيًا. فأسياد الحقيقة ليسوا سعداء أبدًا؛ السعادة هي تصنيف للعبيد"

عندما يتعلق الأمر بالفلسفة: جيجك يقول أن أكثر القضايا توترًا في الفلسفة المُعاصرة هي قضية الدور المُتبقي للفلسفة؛ لأن كل الأسئلة الفلسفية الكبرى، تلك التي كانت يومًا خارج سياق العلم، مثل: "هل نملك حرية الإرادة؟ هل هذا الكون قديم أم حديث؟" أصبح العلم اليوم هو الذي يتعامل معها ويجاوب عليها، مثلًا: علم الأعصاب وعلم الإدراك هما الذي يجاوبون على سؤال حرية الإرادة، وعلم الكونيات هو الذي يُجيب على إن كان عالمنا قديمًا أم حديثًا.


لكن، جيجك لا يرى الأمور بهذهِ البساطة؛ فالتجربة الإنسانية أكثر تعقيدًا من ذلك، ومن الخطاً أن نصور "الإنسان مقابل الطبيعة" أو "الإنسان مقابل العلم"، وأنه من المهم لنا أن نرى الأمور بصورة تأويلية، فنحن البشر لا يمكننا أن نُقارب الطبيعة مقاربة خامة، أي أن كل مقارباتنا لها محددة ضمن فهمنا للطبيعة.


على سبيل المثال، يستخدم هنا منهجية هنا ميشيل فوكو: لو سألت ميشيل فوكو؛ "هل نحن البشر أحرار؟" فهو سيرفض الجواب على هذا السؤال لسذاجته. وسيقول "لا يهم ما هي الإجابة على ذلك!" لكن طرحنا لهذا السؤال، يعني أننا ضمن نظام معرفي معين. وهذا السؤال يفترض مُسبقًا مقاربة معينة للواقع، إذ ينبغي على الواقع أن يكون سلسلة من الأسباب والمُسببات بكل بساطة.


ومن ثم يقتبس جيجك مارتن هايدغر فيما يتعلق بانكشاف الكينونة وكيفية ظهور الأشياء لنا وأنه لا يمكننا أن نخرج منها ونسأل: "كيف تبدو الأشياء في الواقع؟" لأن تبدّي الأشياء في الواقع يظهر دائمًا ضمن أفق فهم مُعين.

"أعتقد أن مهمة الفلسفة ليست تقديم إجابات، ولكن إظهار كيف أن الطريقة التي نتصور بها المشكلة يمكن أن تكون بحد ذاتها جزءًا من مشكلة."

ما آراء سلافوي جيجك في الرأسمالية؟

نهاية التاريخ والإنسان الأخير
نهاية التاريخ والإنسان الأخير

عندما يتعلق الأمر بالرأسمالية، فإن جيجك يناقش فلسفته من خلال نظرية فرانسيس فوكوياما وأُطْروحَتهُ السياسية التي تناولها في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير-The End of History and the Last Man)، حيث يقول فوكوياما أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، وصلت إلى النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسان، وأن نهاية التاريخ تعني أن الديمقراطية الليبرالية هي المرحلة أو الهيكل النهائي للحكومة لجميع الأمم، ولا يمكن أن يكون هناك تقدم من الديمقراطية الليبرالية إلى نظام بديل.


ببساطة, نظرية فوكوياما تقول أن كل النسخ الاقتصادية والنظامية قد طُبقت، وأننا الآن نتعلم أن الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية إن لم تكن الأفضل فهي على الأقل الأقل سوءًا، ولذلك يجب علينا تقبلها. وبالرغم من أن جيجك هو شيوعي يساري، إلا أنه ليس من المنتقدين المندفعين للرأسمالية، فهو يعرف إيجابياتها جيدًا، ويعترف بأن الرأسمالية نظام جنوني وفعال، وأن الرأسمالي المثالي هو شخص مُستعد أن يرهن حياته للمخاطرة لزيادة الإنتاج وتدوير المال. لكنه لا يتفق مع النظرية الفوكويامية التي تقول لنا أن علينا تقبل الرأسمالية كما هي فهو يرى أن الرأسمالية تحمل الكثير من المشاكل التي تحتاج لحل جذري وإلا فسوف تنهار.


مشاكل الرأسمالية بالنسبة لجيجك تكمن في:

  • البيئة والتلوث.

  • الموارد المالية.

  • الملكية الفكرية (وهي شيوعية بطبيعتها، ولا يمكن أن تصبح ربحية خاصة)

  • النشوء الحيوي.

  • وهم الحرية الذي تصنعه الرأسمالية.


وغير ذلك كثير. جيجك لا يرى أنه بإمكاننا حل هذه المشاكل في ظل النظام الرأسمالي. وإن كانت المقولة الماركسية الشهيرة تقول:

"الفلاسفة انشغلوا بتفسير العالم، آن الأوان لتغييره"

جيجك، بالمقابل يقول:

"في القرن العشرين، ربما حاولنا أن نُغير العالم بسرعة شديدة، وقد حان الأوان لتفسيره مرة أخرى، فلنبدأ التفكير"

التدريب الأخير الآن، هل نستطيع القول أن سلافوي جيجك فيلسوفًا؟


- خلق مفاهيمه الخاصة.

طبعًا، نعم! فجيجك لم يخلق أو يخترع مفهوم الإيدولوجيا، لكنه بالتأكيد أعاد صياغته بطريقته الخاصة وقلب معنى هذه الكلمة القصيرة ليجعلها تتغير وفق منهجيته الخاصة.


- انضباطًا، وصرامة؛ لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه.

نعم، أيضًا! الإيدولوجيا أصبحت كلمة ومفهوما ومثالًا متلازمًا لكل مايقوله جيجك! فهو يري العالم من خلال المحاولة الدائمة بالتحرر من الإيدولوجيا واللآفكار المسبقة ونقدها.


- التعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه، وكُتبه، وتعليمه.

نعم، بالتأكيد جيجك يملك حوالي 70 كتابا، وعشرات المقالات، والكثير من المقابلات التي يتناول فيها مواضيع المجتمع والفكر. ففي مقابلاته يشارك رأيه بغريتا تونبرغ، وبفيلم الجوكر ودونالد ترمب وغيرها من المواضيع الشيقة، فهو قريب من كل المواضيع السياسية والاجتماعية.


إذن، سلافوي جيجك بلا شك هو الفيلسوف الحقيقي الذي نملكه الآن: ليس فقط لأنه التزم بشروط فكرية معينة، فحتى روحه وشخصيته تحمل أبعادا فلسفية بحته؛ على سبيل المثال، جيجك يكره أن ينادى بدكتور أو أستاذ فهو لا يحبذ الألقاب، وهو ينكر امتلاكه للحقائق الكاملة، بل يعزز فكرة أنه لايعرف شيئًا وأنه موجود لينقد ويدرس ويبحث ويكتشف الاحتمالات؛ تمامًا مثل سقراط.

 

مراجع:

  • I was Jordan Peterson’s strongest supporter. Now I think he’s dangerous by BERNARD SCHIFF.

  • THE INTELLECTUAL WE DESERVE by NATHAN J. ROBINSON.

  • 2017 Maps of Meaning 01-12.

  • Jordan Peterson needs to reconsider the lobster by Bailey Steinworth.

  • Psychologist Jordan Peterson says lobsters help to explain why human hierarchies exist – do they? by Leonor Gonçalves.

  • Jordan Peterson, Custodian of the Patriarchy by Nellie Bowles.

  • First As Tragedy, Then As Farce Book by Slavoj Žižek.

  • Slavoj Žižek: Don't Act. Just Think.

bottom of page