top of page

Search Results

23 items found for ""

  • الليالي العربية بين شهرزاد وشهريار

    كما سُجل في كُتب ألف ليلة وليلة، أن الملك شاه زمان قد حكم مدينة سمرقند لمدة عشرين عامًا، وأن أخيه الأكبر شهريار ملك من ملوك ساسان بجزر الهند والصين وتميز حُكم الإثنين بالعدل والصدق. وكأغلب القصص، تبدأ الألف ليلة وليلة برد مأساة؛ حيث اشتاق الملك الأكبر شهريار لأخيه الملك الأصغر شاه زمان، ولذلك أمر الملك شهريار وزيره أن يأتي بأخيه لزيارته، فجهز الملك شاه زمان خيامه وجِماله وخدمه وأعوانه، وأعلن أنه سيزور مملكة أخيه شهريار، ولكن عندما أتى منتصف الليل تذكر الملك شاه زمان غرضًا نسيّه في قصره ورجع لأخذه، ليجد في القصر زوجته نائمة في فراشه معانقة عبدًا من عبيد القصر. "إن كان هذا الأمر قد وقع وأنا لم أفارق المدينة بعد فكيف سيكون حال هذهِ العاهرة إذا غبت عند أخي مدة؟!" هذا كان آخر ما قاله الملك شاه زمان قبل أن يسل سيفه وينحرهما الإثنين ليموتا مقتولين في فراش القصر. الأساطير والشخصيات المذكورة في قصص ألف ليلة وليلة تتنقل ما بين المشرق والمغرب، وتسرد في معظمها خيانات النساء المتعددة لأشهر وأقوى الرجال. إن هذهِ القصص بمثابة تمرد بارع لكسر صور النسوة المقيدة بالعفة والتقديس والتبجيل، وتصوير وصفي رائع لقدرتهن على تحقيق ما يرغبن به، حتى إن تطلب ذلك الأمر ، ضرب أقوى الرجال بلكمه في الجزء الأيمن من جسده أو لدغه من خلفه كالأفاعي، فالنسوة، على الأقل في قصص الخيال، لطالما استطعن الإنتصار. شبابيك وبُستان ما حدث للملك شاه زمان وخيانة زوجته له أثناء غيابه مع إحدى عبيده هو بلا شك حدثًا مؤلماً، ولعل قصة الملك شهريار أكثر ألماً ؛ فبعد أن وصل الملك شاه زمان إلى قصر أخيه الملك شهريار، أصرّ عليه شهريار أن يذهبا في رحلة صيد معًا، حيث أن هزالة جسد واصفرار وجه أخيه الأصغر زادت من قلقه نحوه فأراد شهريار أن يؤنس أخيه وأن ينسيه اشتياقه لمدينته، حسب ماكان يظن أنه بسبب تعبه. لكن الملك شاه زمان رفض هذهِ الرحلة وذهب شهريار لوحده للصيد. في قصر الملك شهريار، شبابيك عالية تطل على بستان جميل. جلس يتأمل الملك شاه زمان نحوه، وفي لحظة سكون، ُفتح أمام عينيه باب القصر الخارجي ليخرج منه عشرين جارية وعشرين عبدًا، وبينهما زوجة أخيه تتهادى بينهم، ثم تنادي على شخص يدعى بمسعود، ومن ثم يركض أحد العبيد نحوها ويعانقها، وكذلك يفعل باقي العبيد بالجاريات. واستمروا في عناق حتى ولى النهار، فقال الملك الصغير: "والله إن بليتي أخف من هذه البلية". فتاة الصندوق بعد أن علم الملك شهريار بما حدث في حديقة قصره، قال لأخيه الملك شاه زمان: "قم بنا لنسافر إلى حال سبيلنا وليس لنا حاجة بالمُلك ننظر هل جرى لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خير من حياتنا". لم يزل الملكين مسافرين أيامًا وليالٍي، حتى وصلا إلى شجرة في وسط مرج عندها عين ماء، بجانب البحر، شربا من الماء واستراحا معًا. ومن ثم، هاج البحر وظهر منه عمود أسود يصعد نحو السماء، ومن الخوف تسلق الملكين الشجرة على الفور، وأمعنا النظر في البحر، فخرج من البحر جني طويل القامة، وعريض المنكبين، واسع الصدر، وبرأسه صندوق، ومشى حتى وصل تحت الشجرة التي صعد إليها الملكين، وبعد ذلك، فتح الجني الصندوق، وأخرج منه "صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة"، استلقى الجني وغرق بالنوم على فخذ هذهِ الصبية، فرفعت رأسها حيث كان الملكين ينظران إليها. "إن هذا العفريت قد اختطفني ليلة عرسي ثم وضعني على علبة وجعل العلبة داخل الصندوق ورمى على الصندوق سبعة أقفال وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم ولم يعلم أن المرأة إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء!" رفعت الصبية رأس الجني من فوق فخذها ووضعته على الأرض، وقالت لهما بالإشارة: "انزلا ولا تخافا من هذا العفريت" وهددتهم بإيقاظ العفريت إذا لم يفعلا، ففعلا واستفرد بها كل ملك على حدى، وبعد أن انتهوا، أخرجت الصبية من جيبها خمسائة وسبعون خاتمًا وقالت :"إن أصحاب هذهِ الخواتم كلهم كانوا يفعلون بي على غفلة قرن هذا العفريت فأعطياني خاتميكما". الملك شهريار أراد البحث عما إذا كان هنالك قصة خيانة أسوء من التي حدثت له، والإجابة هي بالطبع نعم، هنالك أسوء منها؛ فخيانة زوجته مع عشرين عبدًا وجارية لا تساوي شيئًا أمام خيانة فتاة الصندوق! فكلما كان الرجل أقوى، تزيد قوة خيانة المرأة؛ إذ خيانة زوجة الملك شاه زمان لم تكون أقوى من خيانة زوجة أخيه الأكبر شهريار والتي كانت برفقة عشرين جارية وعشرين رجل من العبيد، ونجد أن خيانة زوجة شهريار لم تكن بقوة درجة خيانة فتاة الصندوق التي خانت زوجها الجني مع خمسائة وسبعين رجلًا إنتقامًا على ما فعله بها! لا مُبرر للخيانة أبدًا، وقصص ماقبل ظهور شهرزاد، سردت ثلاثة قصص عن خيانات النساء وهم: خيانة زوجة شاه زمان مع أحد العبيد في فراشه. خيانة زوجة شهريار مع مسعود برفقة عشرين جارية وعشرون عبدًا آخرين في بستان القصر. خيانة فتاة الصندوق للعفريت. القصص صورت في البداية ثلاث خيانات للنساء لأقوى الرجال. باختلاف الرجل منهم إن كان ملكاً أو جنياً، فقدرة النساء على الخيانة واحدة، وكلما ارتفعت قوة الرجال بين الناس، زادت درجة خيانة نسائهن لهم، وتُثبت النسوة أنهن يستطعن أن يكسبن ويفعلن ما يفعلن. تُصور لنا هذهِ القصص، تمرد المرأة في كلا الجانبين، الخير والشر، لكن هل ما حدث للملك شهريار هو أسوأ ما كُتب عن الخيانات؟ وهل عندما تتزوج المرأة رغمًا عنها تتجه دومًا للخيانة؟ بعد أن عاد شهريار من رحلته، قام بإعدام زوجتة واعتقد بعد ذلك أن جميع النساء مُذنبات وخطائات بالفطرة. ولأن خيانة زوجتة له قضت على غروره وجبروته، قرر شهريار أن ينتقم من جميع النساء وأن يقتلهن واحدة تلو الأخرى كل يوم خلال الفجر بعد أن يفضي عذريتهن. كانت هذه الطريقة الوحيدة، بالنسبة لشهريار،لاسترداد قوته ونفوذه. ظهور شهرزاد استمر الملك شهريار ينتقم من خيانة زوجته السابقة بزواجه كل يوم من فتاة عذراء يزيل بكارتها ثم يقتلها في فجر اليوم التالي، هكذا لمدة ثلاث سنوات كاملة حتى بدأ يهرب الناس ببناتهم خارج المدينة. ولأنه لم تعد توجد أي فتاة عذراء بالمدينة، أمر الملك وزيره أن يأتي له بفتاة عذراء جديدة، فخرج الوزير ليبحث لملكه عما طلبه. ولكنه لم يجد له أي فتاة، وعندها رجع لمنزله غاضبًا وخائفًا على نفسه من ظُلم الملك له. إن الخوف الأكبر بالنسبة للوزير هو أن يضطر بأن يُسلم إحدى بناته الإثنتين للملك. إذ أن بنات الوزير كانتا ذاتا حسن وجمال. الكبيرة هي شهرزاد والصغيرة تدعى دُنيازاد. كيف للأب أن يُسلم إحدى بناته لهذا الملك الذي يعرف بأنه سيقتلهن؟ لقد تحول الملك شهريار العادل الذي يحبه الجميع إلى ملكًا ظالماً يخافه شعبه، كل هذا لأن شهريار لم يرد أن يسمح لأي إمرأة أن تخونه مجددًا. الجانب الفكري لشهرزاد والإنتصار الأخير على شهريار: إن شهرزاد مُختلفة عن أي فتاة سبق وأن تزوجها شهريار، ليس لأنها فقط ذات جمال وبهاء عال، بل لأنها على علم وإطلاع لسيّر الملوك السابقين وكتب التاريخ والأمم السابقة، حتى قيل أنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم والشعراء، فهي إبنة الوزير وتنتمي للطبقة الحاكمة في البلاد، ورغم جانبها الفكري الذي يعطي شخصيتها جاذبية ثقافية إلا أنها تعيش بين تقاليد وعادات المكان، وتميزت شهرزاد أيضًا بالشجاعة والقدرة الكبيرة على التضحية. فعندما رأت والدها في همٍ وغم، عرضت نفسها للزواج من الملك شهريار، بل وتوسلت لوالدها بأن تكون هي الزوجة التالية لرغبتها بمساعدته، والأهم لرغبتها بأن تُنهي الخوف والهروب المتكرر للنساء من المدينة. شهرزاد البطلة مُختلفة عن شهرزاد الراوية للحكايات، إن تشكيل شخصيتها مُبهر فهي تأخذ مهمة إصلاح الملك على محمل الحذر، وبالإستعانة بأختها دُنيازاد التي لا تختلف أهميتها عن شهرزاد، فلكل منهن دور مُهم لتغيير تفكير شهريار. في الليلة الأولى، تطلب دٌنيازاد من أختها شهرزاد أن تحكي لهم وتحدثهم لإكمال سهرتهم: "يا أختي حدثينا حديثًا نقطع به سهر ليلتنا" فترد عليها شهرزاد: "إن أذن لي هذا الملك المُهذب". هُنا في هذا النص يتشكل لنا نصف صورة إنتصار شهرزاد على الملك شهريار، فمنذ الليلة الأولى، تُحسن شهرزاد حديثها وتُلطفه عند الملك؛ حيث تستأذن منه وترفع من شأنه وتُظهر له صفاته الحسنة. وعندما سمع الملك كلامها -رغم ما كان ظاهراً عليه من قلق- إلا أنه سمح لها بإكمال الحديث، وعندما تبدأ بسرد أولى حكاياتها للملك، تختار أن تسرد قصة (حكاية التاجر مع العفريت). بكلام لطيف تحكي شهرزاد لتجعل شهريار يتناسى ما يريد أن يفعله، ولتشعره بأن ما فعله من قبل ما هو إلا شيء من الطبيعة فتقول: "بلغني أيها الملك السعيد أنه كان تاجراً من التجار..." وبينما تحكي لهم الحكاية، يطلع الصباح عليهم فتتوقف عن الحديث،وتأتي دُنيازاد لتقول: "ما أطيب حديثك وألطفه وألذه وأعذبه"، فترد عليها شهرزاد:"وأين هذا مما أحدثكم به الليلة القابلة" وبهذه الطريقة لا يستطيع الملك أن يقتلها من دون أن يسمع باقي الحكاية، ويحلف أنه لن يقتلها حتى يسمع ما تبقى من الحديث. كانت شهرزاد تطلب من شهريار أن يأتي بأختها دنيازاد كل ليلة لتوديعها، إن مهمة أختها السرية هي أن تجلب لها كل يوم قصة جديدة تستطيع أن تقصها شهريار للملك لينسى بذلك أن عليه قتلها. تستمر شهرزاد كل ليلة تحكي للملك عن قصة ما: عن سندباد وعلي بابا والأربعين حرامي، وعن علاء الدين وسجادته الطائرة ومصباحه السري، وعن هارون الرشيد ووزيره... وغيرهم من قصص الخيال المشوقة. قد يكون اسم شهرزاد من أقل الأسماء المذكورة في حكايا السفر والمغامرات، والحب، إلا أن دورها في ألف ليلة وليلة قد شكل بصمة قوية في تاريخ الأدب، فقد طمست شهرزاد فكرة ضعف الإِناث وارتباطهن المقصور على الإِنجاب أو لعب دور الجدة أو الأم الحنون التي لا حول لها ولا قوة، ولعبت دورًا رئيسًا في عالم القصص الخيالية والسرد القصصي. شهرزاد لم تكتفي بتواجدها بين السطور والورق بل اِستمرت لتصبح إِرْثٌ ثقافي يُلهم أعمالِ الشِّعْرِ والْمَسْرَح، والرواية وَحتى الأوبرا! لعل أشهرها هي سيمفونية ريمسكي كورساكوف الخالدة والتي تحمل معزوفات (الْبَحْرَ وَسَفِينَةَ السِّنْدِبَادِ) و(الْأَميرُ الشَّابُّ وَالْأَميرَةُ) وغيرهما تحت عنوان شهرزاد نفسها. جميع هذهِ الأعمال ماهو إِلا دليل على التحول الثقافي التي أحدثته هذه الشخصية، الحكوَاتية شهرزاد إبنة الوزير وزوجة الملك وتلك التي لعبت دور رئيساً في نقل الشخصية الأنثوية من إطارها التقليدي والثانوي إلى دور بطوليّ ومحوري في عالم الأدب القصصي. حتى وإن ظلت الليالي الألف تتناقل على مسامع الشعوب وتحكى بين أوساط الناس من الطبقات الشعبية في الأسواق والأزقة وصولًا إلى ما هي عليه الآن من حكايات تداعب خيالنا بعالمها الممتلئ بالشخصيات والأساطير العربية التي خُلدت قِصصهم لأجيال وأجيال، إلا أن شهرزاد ستظل واحدة من أقوى الشخصيات الأدبية التاريخية، فهي الشخصية التي أكملت إطار الصورة الخيالية. مراجع: قصص ألف ليلة وليلة، سعيد علي الخصوصي، نسخة مصححة 1860م شهرزاد بين الأسطورة والنقد، ماجدة بن عميرة، 2014 فن الترجمة بين النقل والإبداع في شخصية شهرزاد، د. ياسمين فيدوح، 2012 Arab Studies Quarterly by Pluto Journals, 1991, Samar Attar and Gerhard Fischer. The Georgia Review,1980, Infidelity and Fiction: The Discovery of Women's Subjectivity in Arabian Nights by Judith Grossman. Marvels & Tales Vol. 18, No. 2, The Arabian Nights: Past and Present 2004, Shahrazâd Is One of Us: Susanne Enderwitz.

  • حرب الخضوع والتمرّد في رواية نساء صغيرات

    * المقالة تحتوي على تفاصيل أحداث الرواية. أحد أشهر روايات أدب الأطفال اليافعين، رواية نساء صغيرات تسرد حكاية أربع أخوات تشرعن في مهمّة تحسين ذاتهن، لجعل كلّا من والدهم ووالدتهم فخورين بهنّ. الأخت الكبرى ميج ومشكلة تعلّقها بالأمور الماديّة، جو وشخصيّتها الصبيانيّة وتذمّرها من الأعمال المنزليّة، آمي وأنانيّتها، أعداء ينبغي على الأخوات أن تحاربهنّ بسلاح التحكّم بالذات. لطالما شعرت الفتيات اليافعات بالانتماء لشخصيّة "جو" تحديدًا، تلك الصبيانيّة، المُحبّة للكتابة، المُتمرّدة، التي تسعى لمُساعدة ودعم أفراد عائلتها بقدر استطاعتها. في طفولتي، قرأت فقط الجزء الأوّل منها، حيث انتهت باجتماعهم مع عائلة لورنس والسيّد بروك في يوم الميلاد، عودة والدهم التي زادت يومهم بهجة، وترديدهم لترانيم يوم الميلاد سويّةُ مع عزف بيث اللطيف على البيانو... كراشدة دارت في ذهني العديد من التساؤلات فور انتهائي من قراءة النسخة الكاملة للرواية، فقد خابت توقّعاتي كُلّها بمُجرّد اكتشافي لموت بيث، والأكثر أهميّة مصير جو ولوري أيضًا. علمت أنّي لستُ الوحيدة عندما يتعلّق الأمر بازدراء النهاية. سأسرد في هذا المقال السياق التاريخيّ \ الثقافي الذي نُشرت خلاله رواية نساء صغيرات، وسنفهم من خلاله سبب اختيار الكاتبة لنهاية تُخيب توقّعات من يقرأ روايتها. ثمّ سأستعرض الأدوار الجندريّة وكيف هدمت أحلام معظم الشخصيّات، والنصيب الأكبر من تركيزنا سيكون من نصيب جو ولوري، وصولًا إلى فكرة وجود تمرّد خفيّ يكمن في تتمّة الرواية. اختيار أم إجبار؟ عُقب الحرب الأهليّة الأمريكيّة (1861-1865)، كان للنساء من كافّة الفئات المجتمعيّة نصيبًا في نشر أعمالهنّ الكتابيّة، سواءً كُنّ أمريكيّات، أمريكيّات من أصول أفريقيّة أو مُهاجرات. بذلك أصبحت مهنة الكتابة مُتاحة لعددٍ كبير من النساء، ولويزا ماي آلكوت وبطلتها جو منهنّ. قامت آلكوت بكتابة نساء صغيرات تحت إلحاح الناشر توماس نايلز، رواية تختلف كلّ الاختلاف عمّا كتبته في مسيرتها السابقة. فقد كتبت قصص خياليّة للأطفال تحت اسمها الخاصّ، وقصص إثارة قوطيّة تحت أسماء مُستعارة؛ لكون كتابة مثل هذه القصص أمرٌ لا يليق بكاتبةٍ أُنثى في القرن التاسع عشر. نايلز أراد أن يكون رائدًا في سوق كتب أدب اليافعين الموجّهة للإناث تحديدًا؛ لهذا أصرّ على آلكوت رغم رفضها المستمرّ. تقول آلكوت: " لمّ أحبّ البنات ولم أعرف كثيرًا منهنّ، عدا أخواتي"، لهذا لم تكن واثقة من كون ما ستكتبه حقيقيّ إلى حدّ ما" ، وفي الواقع رواية نساء صغيرات مُستوحاة بشكلٍ كبير من حياة آلكوت الشخصيّة، فكانت هي جو، وأختها ماي التي رسمت معظم صور الكتاب تُقابلها الفنّانة آمي، منزلهم في كونكورد، والحرب الأهليّة في الولايات المُتّحدة كبُعد تقع فيه أحداث الرواية، حيث كانت آلكوت تعمل كمُمرّضة آنذاك. بهذا نرى أنّها نجحت في توظيف مشاهد من حياتها ضمن روايتها. كما يبدو من قراءة مُذكّرات لويزا ماي آلكوت، رفضت لويزا هذا النوع من الكتابة؛ كونه يُجهّز اليافع لدوره المستقبليّ الذي يُحدّده المُجتمع له مُسبقًا، لكن مع قراءة الرواية؛ قد يبدو أنّ آلكوت خضعت للهيكل الروائي المقبول والذي تمّ تحديده من قِبل المجتمع لأيّ عمل يُكتب، والحقيقة أنّها أظهرت خضوعها ومقاومتها بالوقت ذاته، جاعلةً من روايتها دليل ملموس على حربها الذاتيّة الأهليّة ما بين الخضوع للمجتمع، أو التمرّد. لم يكتفِ الناشر نايلز بجعلها تكتب في نوعٍ لا تُفضّله، بل أصرّ على أن يكون كتابها سلسلة من عدّة كتب، ظنًا منه أنّ سلاسل الكتب تُباع بشكل أفضل. تقول آلكوت في مُذكّراتها: "أنا لا أحبّ تتمّة القصص (كتاب آخر يُكمل كتاب سبقه)، ولا أظنّ أن التتمّة ستكون مشهورة كالقصّة الأولى ... لذا على نسائي الصغيرات أن يكبرن ويتزوّجن بأسلوبٍ سخيف". أيضًا ضغط القرّاء عليها كي تزوّج جو ولوري، لكنّها رفضت قطعًا مؤمنةُ أنّها ليست أسعد النهايات تلك التي تتضمّن زواجًا قائلةُ: "الفتيات يكتبن لي تسألن بمن ستتزوّج النساء الصغيرات، كما لو كان ذلك الهدف الوحيد أو النهاية لحياة أيّ امرأة. لن أزوّج جو ولوري لإسعاد أيّ أحد" وبعد نشر ثانِ جزء من الرواية كتبت: "كان ينبغي لجو أن تبقى أديبة عزباء". القصّة كان من المُفترض أن تنتهي بيوم الميلاد بعودة والدهنّ قبل أن تتزوّج أيّ منهنّ، لكن تتمّتها كانت سببًا في تخريبها من عدّة جوانب، كتدمير روابط المحبّة الأسريّة بها، العلاقة الجميلة بين الأم وبناتها، علاقة الأخوات، والأهمّ من ذلك صداقة جو ولوري. الأدوار الجندريّة: يكمن الفرق بين كلمتيّ (Sex) و (Gender) في أنّ الأولى تُشير إلى النوع الحيوي (ذكر\ أنثى)، بينما الثانية تعني الأفكار والاعتقادات المُسبقة التي أُعطيت لكلّ نوع، كالقول بأنّ كلّ امرأة عاطفيّة بالضرورة، فالاختلافات الحيويّة أُعطيت معنًى اجتماعيّ. تقول جوديث لوربير في كتاب (البناء الاجتماعيّ للجنس - The Social Construction of Gender) أنّ الدور الجندري شائع في مُجتمعاتنا لدرجة اعتقادنا بأنّه نتيجة جيناتنا، ككون الأنثى تولد لتكون صبورة، والحقيقة أنّ هذا الدور، كالثقافة، إختراع إنسانيّ دائم التغيّر بناءً على التفاعلات بين البشر. هذه الحقيقة قد تكون سببًا لفِهمٍ أوسع لرواية نساء صغيرات. فالرواية تبدأ بتلقّيهم رسالة والدهم والذي يقول بها أنّه يتوقّع من بناته التغلّب على رغباتهم بطريقة جميلة ليكون أكثر فخرًا بنسائه الصغيرات عند عودته. رغباتهم، كرغبات أيّ فتاة في القرن التاسع عشر، تتعارض مع تصوير المجتمع لمُستقبلهم، فينبغي مُحاربتها للوصول لنموذج المرأة المثاليّ، كما أسمته جوديث فيترلي في مقالتها النقديّة (حرب آلكوت الأهلية - Alcott's Civil War). شخصيّات نساء صغيرات تتحدّى النمط السائد للأدوار الجندريّة في الجزء الأوّل من الرواية؛ حيث لوري وملامحه الأنثويّة، ويداه التي تُشبه أيدي البنات لشدّة بياضها، ولعه بالموسيقى، ولقب "دورا". من ناحية أُخرى جوزيفين وصوتها الذي يُجلجل في كلّ مكان، اعتمادها الشديد على ذاتها وكراهيّتها للزواج والحبّ، اتّخاذها لأدوار الرجال في مسرحيّاتها, تعريفها لنفسها على أنّها رجل المنزل في غياب والدهنّ، واختصار اسمها "جو". تتمّة الرواية تُمثّل تحوّلًا كبيرًا لجميع الشخصيّات، فعلى الجميع أن يخضع للأدوار التي تُحدّدها التوقّعات المُسبقة للمُجتمع، كما سنرى في الفقرة التالية. قصورًا هُدِمت: في الفصل الثالث عشر من الرواية تحت عنوان (قصورًا في الهواء)، كان لدى الشخصيّات حريّة بناء الأحلام والتوقّعات للمستقبل، فـ ميج ترغب بمنزل جميل ينعم بسُبل الرفاهية، أشخاص لُطفاء، مال وفير، وأن تُصبح سيّدة هذا كلّه. آمي ترغب في الذهاب إلى روما لتُصبح فنّانة مشهورة ترسم أجمل اللوحات. بيث -كما هو مُتوقّع- ترغب في البقاء آمنة في المنزل مع عائلتها لتقدر على مُساعدتهم. ليس من السهل لنا أن نكتشف في تتمّة الرواية عدم تحقّق أيّ من أحلام الفتيات بشكل كامل. في فصل (أوقات الحصاد) نرى أنّ ميج حصلت على منزلها وشخص لطيف، لكنّها لم تحصل على الرفاهية والمال الوفير كما تمنّت، رغم هذا هي راضية جدًا بحياتها مع أطفالها وزوجها. آمي تكتشف أنّ موهبتها تفتقر إلى عبقريّة التنفيذ؛ لينتهي بها الأمر داعمة لأحلام غيرها من الفنّانين الأكثر منها موهبة. بيث العزيزة تفقد حياتها؛ نتيجةً لعدم التطلّع إلى شيء تحقّقه في مستقبلها. تُبيّن آلكوت بشكل ضمنيّ في عدم تحقيق أحلام شخصيّاتها أنّ المرأة في القرن التاسع عشر بعيدة كلّ البُعد عن الذاتيّة، بل كانت تسير بحسب ما يخُطّه لها المُجتمع. فيترلي تُشير لذات الفكرة في مقالها –أشرت إليه آنفًا-، فمصير ميج جعلها تُدرك تفوّق أهميّة العمل المنزليّ والفوز برجل جيّد على الرفاهية والخدم، فهي دون الأعمال المنزليّة ستكون "كسولة" و "مُتملّلة"، وهاتان صفتان أبعد ما تكونا عن صفات نموذج المرأة المثاليّ في ذلك الوقت. حلم آمي من ناحية أخرى بالسفر بعيدًا غير مقبول بالمُقارنة مع حكمة أمّها التي تقول: "محبّتكِ واختياركِ من قِبل رجلٍ جيّد أفضل وألطف ما قد يحدث لأيّ امرأة"؛ بالتالي زواجها من لوري هو أفضل مصير لها، بالأحرى مصيرها الوحيد المُمكن حدوثه في القرن التاسع عشر. الفكرة تتّضح بشكل أكبر عند التركيز على جو ولوري، فقصّتيهما تتوازيان في رواية نساء صغيرات. ترغب جو في أن تكتب؛ لتُحقّق الشهرة والثروة. في بداية القصّة، كتبت جو (بحماس شديد) قصص إثارة، وسعت لنشرها، واستطاعت أن تنشر بعضها، دون تقاضي أيّ أجر عليهم أوّلًا، وعندما حصلت على أجرها فكان بالنسبة لها بمثابة جائزة مُنحت لها، وليس مبلغًا تستحقّه. بعد ذلك نرى أنّها مُنعت من مصدر الدخل هذا لأنّ كتابة قصص الإثارة عمل لا أخلاقي، "لا نسائي" إن أمكنني التعبير، أيّ لا تتناسب مع "رقّة" و"لُطف" النساء، كما ذكّرها السيّد بيير، زوجها في نهاية الرواية. بعد وفاة بيث، استلهمت جو كتابة قصّة واقعيّة من تجربتها المريرة (دون حماس يُذكر)، فأخذ والدها القصص ونشرها (دون موافقتها)، لتُصبح قصّتها مشهورة وناجحة جدًا. تُعلّق جو على ما حدث بقولها: "إن كان هناك جودة أو حقيقة فيما أكتبه؛ فهي ليست كتابتي، بل أُدينها لك ولأمّي، ولـ بيث". تلك رسالة على أنّ الكتابة الجيّدة لا ينبغي أن تصدر عن "حماس" أو "ذاتيّة" معيّنة، ولا أن يُقصد بها شهرة، بل أن تصدر من عقل يسعى لمواساة آلامه الخاصّة. نرى أنّ العبقريّة داخل جو أُحرقت تمامًا، بحرقها لقصصها الحماسيّة في فصلٍ بعنوان (صديق)، لدرجة جعلتها تنفي امتلاكها لما تكتبه. في النهاية نرى أنّها تُدرك كون الحياة التي حلُمت بها تبدو أنانيّة، وحيدة وباردة. لكن رغم ذلك هي لم تتخلَّ عن ذلك الحلم؛ بل إن ما ستكتب سيكون أفضل بعد تجربة الزواج والأمومة. بهذا نرى اتّصال بين الفنّ الجيّد والأمومة هنا (التجارب التي يخطّها المجتمع)، لا الفنّ الجيّد والحماسة له (التجارب الناتجة عن رغبة شخصيّة). على حدّ سواء: كثيرًا ما يتمّ التركيز على ضيق خيارات الأنثى في القرون السابقة، بتغافل عن حقيقة تضييق الأدوار الاجتماعيّة لحياة الجنسين. فالعديد من الأوراق النقديّة تُناقش جو، وقليل من النقد يمسّ الجوانب التي تُظهر خضوع لوري لتوقّعات مُجتمع أمريكا الأبويّ للذكر في القرن التاسع عشر. يُبيّن لنا لوري حلمه في البداية، حيث كان يرغب بالاستقرار في ألمانيا ليُصبح موسيقارًا مشهورًا، ليستمتع بحياته وبما يُحبّ دون أن يشوب هذا الاستمتاع حديث عن المال أو العمل. الذكورة في ذلك القرن تحديدًا كانت توازي المال والنجاح في سوق العمل. بحسب دراسة جو دوبرت للذكورة في القرن التاسع عشر، كي يستحقّ أيّ ذكرٍ مكانته كرجل، فعليه أن يجلب المال، بالبحث عن فرص تزيد من أرباحه وتقلّل من خسائره، وليس بالعيش مُستمتعًا كما يرغب لوري، فلدى الثقافة السائدة آنذاك نموذج مثاليّ للرجل على حدّ سواء. بحسب رأي كين باريل في مقالته النقديّة (استيقظ، وكن رجُلًا)، جدّ لوري ،السيّد لورنس، يحثّه دائمًا على أن يصنع من نفسه تاجرًا ثريًا، لكن دون جدوى، لهذا جاءت آمي لتكُن بمثابة داعم لرأي السيّد لورنس، حيث استطاعت إيقاظه من غفلته عن حقيقة بُعده الشديد عن نموذج الرجل المثاليّ، وتحفيز الإحساس بالعار داخله عن طريق تذكيره بملامحه الأنثويّة ويده التي تُشبه أيدي الإناث، ومُناداتها المُستمرّة له باسم "دورا". نجحت آمي في هذه المهمّة، واتّجه لوري للبحث عن عملٍ حقيقيّ. فتحقّقت رؤيتها التي ظهرت في فصل لورنس الكسول: "لن ألقي بالمحاضرات عليك بعد الآن؛ لأنّي أعرف أنّك ستستيقظ، وتكون رجلًا". تناقُضات: حلم الهرب من توقّعات المجتمع صعبٌ على الجنسين كما ذكرت، فكما خضعت جو للبروفيسور بيير (والمجتمع أيضًا)، وحرقت الكاتبة المُتمرّدة بداخلها، كان على لوري حرق الفنّان الموسيقيّ داخله أيضًا عبر تدميره لمخطوطاته الموسيقيّة. لكن بقراءة الرواية بتمعّن شديد، وبتأمّل مُذكّرات الكاتبة آلكوت، سنرى تناقضًا كبيرًا بين ما كانت تؤمن به، بين الجزء الأوّل من الرواية، وبين ما آلت إليه في التتمّة. آلكوت دعمت استقلال المرأة الماديّ بشكل كبير، لم تتزوّج طيلة حياتها، وتمنّت لجو ذات المصير لولا إصرار نايلز على "النهاية المُناسبة" للرواية. إذًا لماذا هُدمت أحلام الشخصيّات؟ ولماذا خرّبت التتمّة ذلك التناغم في الجزء الأوّل من القصّة؟ برأيي أرادت آلكوت توصيل فكرة من خلال ذلك، فباختيار نهاية تُشعر كلّ قارئ بالسوء كون عدم تمام الشيء والانزعاج من نتيجته هو مصير أيّ حثّ وإجبار وتوقّعات مُسبقة، فكرة لم تكن ستصل من خلال تحقيق أحلام الشخصيّات، وبالنهاية السعيدة لجو ولوري. فنهاية تجمع لوري وجو معًا، تعني خضوع آلكوت لرأي الناشر، ولرأي المجتمع بأنّ الزواج هو نهاية سعيدة لكلّ ثنائيّ محبوب. لكن تركيز النقد الأدبيّ على وضع الأنثى في هذه الرواية تحديدًا برأيي يُهمّش جزءًا كبيرًا من الواقع، أعني حقيقة أنّ اختيار المجتمع لحياة أيّ شخص موجود حتّى الآن، ويقع على أيّ شخص بغضّ النظر عن جنسه. انطباعي الأوّل كان انزعاجًا كليًا، لكن بعد تأمّل ودراسة الرواية اتّضح لي براعة آلكوت في إيصال أفكارها ضمنيًا. بهذا تكون روايتها حرب ما بين الرسالة الصريحة بالخضوع، والرسالة الضمنيّة للتمرّد. المراجع: Alcott, L.M. (2008). Little Women, ed. Alderson, Valerie, Oxford: Oxford University Press (World’s Classics). Alcott, L.M. (1987). The Selected Letters of Louisa May Alcott, ed. J. Myerson. D. Shealy and M. Stern. Boston, Little, Brown. Baym, N. (1998). The Norton Anthology of American literature. New York, W.W. Norton. Dubbert, J.L. (1979). A Man's Place: Masculinity in Transition. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall. Fetterley, Judith. (1979). ‘Little Women’: Alcott's Civil War. Feminist Studies, vol. 5, no. 2, pp. 369–383. JSTOR, www.jstor.org/stable/3177602. [Accessed 26 May 2020]. Lorber, J., & Farrell, S. A. (Eds.). (1991). The social construction of gender. Newbury Park, CA: Sage.‏ Montgomery, H. (2009). Study Guide: Children's Literature. Milton Keynes: The Open University. Parille, K. (2001). "Wake up, and be a man": Little Women, Laurie, and the Ethic of Submission. Children's Literature 34-51. Prasad, A. (1994). Does "Little Women" Belittle Women?: Female Influence in Louisa May Alcott's "Little Women"" Dissertations, Theses, and Masters Projects. Paper 1539625888. Wadsworth, S., (2001). Louisa May Alcott, William T. Adams, and the rise of gender-specific series books. The Lion and the Unicorn, 25(1), pp.17-46. Warren, J. W. (2005). Women, Money and the Law: Nineteenth-Century Fiction, Gender, and the Courts. Iowa City: University of Iowa Press.

  • وجودية سارتر

    قبل الدخول في شرح منهج الوجودية لسارتر، عملنا تجربة بسيطة على صفحتنا في الأنستغرام؛ حيث شاركنا لوحة (متجول فوق بحرًا من الضباب) وسألنا: ماذا سيكون شعورك لو كنت أنت هذا الشخص الواقف على حافة الجبل؟ لم تكن نوعية الأجوبة غريبة، فجميعهم وصفوا مشاعر من حالة (القلق الوجودي)، وهو مصطلح شائع لدى العديد من الفلاسفة الوجوديون، سنتعمق في هذا المصطلح أكثر لاحقًا في المقالة. لكن الآن، لنبدأ في منهج جين بول سارتر! جين بول سارتر (1905-1980) المدرسة: الوجودية. فيلسوف، وروائي، وكاتب مسرحي، وناشط سياسي فرنسي. اشتهر سارتر لكونه كاتبًا غزير الإنتاج، إضافةً لأعماله الأدبية وفلسفته المسماة بالوجودية ولالتحاقه السياسي باليسار المتطرف. من خلال أفكاره، أعاد جين بول سارتر بناء الفلسفة المسيحية الوجودية لسورين كيركغور وحولها لفلسفة تفردية، منشئًا بذلك الفلسفة الوجودية التي تؤمن فقط بحرية الإنسان. طفولة سارتر: عاش سارتر في باريس، وكان الطفل الوحيد لجين وآني. وقد توفي والده بعد 11 شهرًا من ولادته. في البداية، انتقلت والدته آني للعيش مع والدها، وبعدما بلغ سارتر الثانية عشرة من عمره، تزوجت أمه وبقي سارتر وحيدًا مع جده. حيث قضي وقته في مكتبة جده يقرأ ويكتشف الكثير من الكُتب. خصوصًا أنه لم يكن قادرًا اللعب مع طلاب المدارس؛ لأنه كان دائمًا ما يتعرض للتنمر بسبب الحول الذي في عينه. لذا، انعزل وقرأ كثيرًا من القصص والروايات والفلسفة خصوصًا فلسفة كانط وسورين كيركغور. كما أن سارتر قد حارب في الحرب العالمية الثانية، وشهد ثورة الشيوعيون، وخاض في القضايا السياسية ، وعاش في باريس حيث كان الفلاسفة الفرنسيون يجتمعون. فلاسفة مثل آلبر كامو، وميشيل فوكو، وسيمون دي بوافور. كُتب سارتر قد تكون من أكثر الكتب الفلسفية شعبيةً؛ لأن لغة سارتر كانت يسيرة وحيّة. فسارتر لا يتكلم من برجًا عالي ولا يترك مجالًا للتفسير. كان قريبًا جدًا من الشباب، وكان يُلقي الكثير من المحاضرات ويشارك آرائه السياسية والاجتماعية على نحو دائم. كل ذلك جعله أكثر شعبية من غيره. فحتى العرب أحبوا سارتر وقرؤوا له كثيرًا؛ سارتر قد يكون الفيلسوف الأكثر شعبية في وقته فرأيه كان يؤخذ به في السياسة وملأت مصطلحاته دفاتر الشباب. كان بسهولة نجم البوب للفلسفة! كيف غيّرسارتر مفاهيم الوجودية وأعاد تعريفها؟ في عام 1946 ألقى چان بول سارتر محاضرة بعنوان (الوجودية هي الإنسانية). هذه المحاضرة غيّرت مفاهيم عديدة وأسست الوجودية الحديثة (اللادينية بعكس سورين كيركغور). ولاحقًا نُشرت هذهِ المحاضرة ككتاب بنفس الاسم. استهل سارتر محاضرته بتعريف الوجودية عن طريق شرح أول مبدآن لها: المبدأ الأول هو:
 الوجود يسبق الماهية. هذه الجملة القصيرة تكاد تكون شعار سارتر التجاري وهي أهم مبدأ لفهم فلسفته. لكن ما معنى هذه الجملة؟ على سبيل المثال، عندما تُفكر في كتابًا ما. سترى أن الكتاب موجود لأن هنالك شخصًا ما قرر أن يكتب أفكاره وأن يطبعها على ورقٍ وينشرها. لذلك، فهذا الكتاب وُجد وصُنع من مفهوم الكاتب الذي أعده؛وهذا الكتاب موجود لتلبية غرض الكاتب. لذلك، فماهية الكتاب (جوهره/غرضه) كان سابقًا لوجود الكتاب نفسه! ومن المنطقي أنه لا يوجد أي سبب آخر يجعل منك ترغب في قضاء ساعات من الوقت لكتابة مئات الصفحات لكتابٍ دون وجود ماهية مسبقة. يقول سارتر بأن هذه النظرة يجب ألا تنطبق على البشر؛ لأن وجود المرء يأتي قبل تحديد واختيار معنىً وجوده. سارتر ناقش في محاضرته كيف أن المرء يولد دون خيارًا مسبق، وبأنه يصطدم بالعدم مرارًا و تكرارًا، باحثًا عن معنى. و لذلك، يرى سارتر أنه لا يجب علينا تطبيق مفهوم الماهية (الجوهر/الغاية) الخاص بالأدوات و الأشياء على الذات البشرية لأنها أعقد. كيف أحدثت جملة "الوجودية تسبق الماهية" القصيرة هذهِ الضجة الكبيرة وغيّرت مفهوم الوعي البشري؟ منذ بدايات الوعي البشري تكررت النظريات حول معنى كوننا بشر، وعن الفرق بين الإنسان والحيوان والأدوات الأخرى. وفي الغالب، كان النهج المستخدم للإجابة على هذه الأسئلة ينص على أن للبشر جوهرًا مختلفًا عن باقي الأشياء الجامدة.«جوهرًا» موجود في كل إنسان يتخطى الكون والزمان. وهذا الجوهر لا يمكن تغييره، فهو قدرنا ومصيرنا. هذا المفهوم يُسمى بالحتمية وهو ما يقف سارتر ضده؛ الوجودية إحدى المدارس الفلسفية التي تهدم نظريات وفلسفات أخرى لتبني مفاهيم جديدة بدلًا عنها، لذلك عندما قال سارتر جملة "الوجودية تسبق الماهية"، هو بذلك هدم كل المفاهيم الأخرى ونفى وجود جوهر مُسبق بداخل كل إنسان فينا. ليس ذلك وحسب، بل إن سارتر نفى أيضًا المصير والقدر الواحد.. لكن، إذا كان المبدأ الأول يقول بأننا نولد بلا هدفٍ وغرض، ودون قدر. فما هي إذًا قيمتنا؟ و ما معنى وجودنا؟ في المبدأ الثاني من الوجودية يكمن الجواب: المبدأ الثاني: لا قيمة للإنسان سوى القيمة التي يصعنها لنفسه. الوجودية، من وجهة نظر سارتر، تقول إن المرء يوجد أولًا ومن ثم يحتك بالعالم الخارجي وتتكون له صفاته الخاصة وبعد ذلك عليه أن يختار لنفسه القيمة والمعنى الذي يريد. المرء، بالنسبة لسارتر، لا يجد نفسه وفقًا للقدر أو الحظ بل يصنع قيمته بنفسه. وهذا هو ما يعنيه المبدأ الثاني. ".. نعني أن الإنسان موجود أولاً: إنه يتجسد في العالم، ويواجه نفسه، وبعد ذلك فقط يعرف نفسه. إذا كان الإنسان كما يتصوره الوجوديون لا يمكن تعريفه، فذلك لأن البدء به ليس شيئًا. لن يكون أي شيء إلا في وقت لاحق، ثم سيكون هو ما يصنعه بنفسه.. ” بهذان المبدآن يُلخص سارتر الوجودية الخاصة بِه. لكن الفكرة لا تتوقف هُنا؛ فالإنسان الناضج تُخيفه فكرة أن قيمة وغاية حياته هما له وحده ليرسمهما و ليحدد معناهما، هذه الحرية التي نملكها لها ثُقلًا كبير يقع على كُل فرد مِنا. لذلك عقولنا ستحاول أن تلعب لعبة لتجعلنا ننسى أننا أحرار. كيف؟ سارتر يصف ظاهرة نقع فيها كثيرًا: الإيمان الخاطئ - Bad Faith
: هو مصطلح استخدمه سارتر، ورفيقة دربه الفيلسوفة سيمون دي بوفوار، كثيرًا لوصف ظاهرة الخداع الذاتي التي يقع فيها المرء عندما يتبع قيم اجتماعية زائفة من أجل التخلص من حمل أعباء حريته الفطرية. سارتر يضرب أمثلة كثيرة على هذه الظاهرة. لنأخذ إحداها هُنا: تخيلوا امرأة في موعدٍ غرامي برفقة شخصًا ما. وتخيلوا أن هذا الرجل يستمر بمغازلتها، ويمتدح جسدها وشعرها وثيابها غير مُباليًا بما تقوله هي. لكن، ربما لأن هذهِ المرأة تريد بالمُقابل شيئًا ما من هذا الرجل، فهي ستتجاهل أن الرجل الذي أمامها يُعاملها كأداة. وعندما يبدأ الرجل بلمس يدها فسوف تهب نفسها بسهولة من غير رفضٍ أو قبول. وستمد يداها وكأنهما جزءًا ليس منها. في هذه الحالة المرأة مثال على (الإيمان الخاطئ) فهي تعتقد بأن كونها أنثى يقتضي عليها أن تكون مستمتعة بالمديح وأن صوتها لا يهم. إنها موجودة فقط لإرضاء الرجل أمامها. المرأة هُنا تنكر حريتها وتتصرف مع ذاتها ككائن مادي. إذ تتخيل أن ماهيتها وقدرها الوحيد يكمن في كونها أداة. الإيمان الخاطئ هو فخ نقع فيه جميعاً، نتيجة لبرمجة اجتماعية مسبقة وهو ما يجعل الشخص عالقًا ومُنكرًا لحريته. أمثلة أخرى للإيمان الخاطئ: تأجيل اتخاذ قرار ما لأنك تنتظر رسالة من "الكون". أن تتجنب فعل ما تريده بسبب المجتمع. أن تقاتل في معركة لا تؤمن فيها؛ فقط لأن المجتمع سيعتبرك بطلًا. أن تعيش مع جسدك و كأنهُ مادة منفصلة عنك (مثل المرأة التي في موعد). الوجود والعدم، الفرق بينك وبين باقي الأشياء وثقل الحرية: كتاب سارتر (الوجود والعدم) يُعتبر دراسة في علم الأنطولوچيا (يونانية: بمعنى الكينونة، وعلم الوجود، وتجريد الوجود). في هذا الكتاب يُنكر سارتر النظريات المثالية، مثل نظرية المثل لدى أفلاطون وكانط، ويضع بدلًا عنهم أنواعاً للوجود بالنسبة للوجودية الحديثة. وهما نوعان: النوع الأول: موجودًا في ذاته- en-soi - being-in-it-self. وهو الوجود اللاشعوري، الملموس، الذي يفتقر القدرة على التغيير، والغير المدرك لنفسه. وهذا يقتصر على الأشياء الجامدة كالشجرة أو السكين. لننظر إلى خصائص السكين كمثال: شفرات حادة لتقطع بإحكام. مُصممة هندسيًا ومُلائمة للإمساك باليد. لا تتغير وجوهر وجودها واحد. النوع الثاني: موجودًا لذاته، pour-soi ،being-for-itself. وهو الوجود الواعي، المتغير والغير المكتمل. بالنسبة إلى سارتر، عدم القدرة على الوصول إلى الكمال المطلق هو ما يُميز البشر عن غيرهم من الكائنات. ونظرًا لكون المرء يفتقر إلى جوهر مُحدد مسبقًا، فإنه يضطر إلى خلق نفسه من العدم مِرارًا. بالنسبة لسارتر، المرء يصنع نفسه من خلال عمله في العالم لذلك، يجب على الإنسان، كموجود لذاته، أن يُحفز كيانه دومًا. الزمن الوجودي لا يهتم بما فعلته بالماضي، أو بما ستفعله في المستقبل جُلّ ما يُهم هو الآن وما تختار أن تفعله في هذهِ اللحظة. ذلك هو ما يقرر أهميتك وجوهرك. لكن المفارقة والمعضلة الوجودية التي لا يوجد لها جواب والتي يختتم بها سارتر كتاب (الوجود والعدم)، بشعورٍ باليأس، هي أن المرء ينبغي عليه أن يعترف بأنهُ ناقص، كونه يولد من العدم، وبأنه من المُمكن له أن يسقط في الخداع الذاتي، لكن سارتر بالمُقابل يُذكرنا، ويقول: "أنا حُر، أنا مُتعالٍ، وأنا واعي، وأنا أصنع العالم!" “ هوية الفرد لا تهمني، ما يهمني هو ما يُمكن للفرد أن يكون” مامعنى ذلك؟ إن الحرية تفتح خيارات مُتعددة للفرد في كل لحظة. وفي كل لحظة، نحن نختار ونقرر ما نُريد أن نكون. أليست الفكرة رائعة، وربما مرعبة بعض الشيء؟ لنتمرن على هذهِ الفرضية: تخيل احتمالية كُل قرار ستتخذه، وكيف سيؤثر تِباعًا على حياتك، ومصيرك، وهويتك! إن لهذا الشُعور المرعب، ثِقل يقع علينا كلمّا زاد وعينا به. سارتر نقل لنا هذه التجربة في روايته الرائعة «الغثيان». رواية الغثيان: الرواية تتحدث عن (أنطوان روكتين) وهو شخص يشعر بالاشمئزاز الدائم من وجوده. أنطوان يعيش معظم أيامه صامتًا، يُنصت أحيانًا لأحاديث الآخرين. وكثيرًا من ساعات وقته يقضيها مُحدقًا بالأشياء التي حوله; يُحدق مثلًا في مقاعد الحافلة ويتساءل: من صنع هذهِ المقاعد؟ ما قصة الجلد الذي يلبسها؟ من جلس قبلي على هذه المقاعد؟ لا ينفك روكتين عن التساؤل حتى يغمره شعور التقيؤ والغثيان. يومًا ما، يتعالج أنطوان من هذا الغثيان. كيف ذلك؟ بموسيقى الجاز! يومًا ما وفي وسطِ مقهى مزدحم، يستشعر أنطوان لحظات تُرجعه إلى ذاته حين تشتغل أغنية «Some of These Days» فعند سماعه للأغنية لأول مرة، يتوقف أنطوان عن التساؤل والقلق وينسى كل ماحوله ليستشعر جمال الأغنية وجمال اللحظة الحاضرة، ناسيًا الغثيان المُزمن الذي لطالما صاحبه ليستمتع بالأغنية دون قلق وجزع: "إنني مُنفعل... أنا من جهتي كانت لدي بعض المُغامرات الحقيقية. لا أذكُر مِنها أي تفصيل. ولكن يمكنني أن أرى التعاقب الشديد للظروف. لقد عبرت البحار، وتركتُ المدن ورائي، وعبرتُ أنهارًا، وأوغلت في الغابات، وكُنت دائمًا أقصدُ مُدنًا أخرى. لقد تعرفت على النساء وقاتلت مع الرجال. ولم أستطع الرجوع إلى الوراء قط. شأني شأن هذهِ الإسطوانة التي لا يمكن لها الدوران عكسيًا. وكل ذلك، كان يقودني إلى أين؟ إلى هذهِ اللحظة بالذات، إلى هذا المقعد، في هذهِ الفقاعة من الضوء التي تعج بالموسيقى." ماكان يشعر به أنطوان هو شعور معروف بالفلسفة الوجودية ويُسمى بالـ (القلق الوجودي/ فزع وجودي) (Existential Angst/ dread): حيث وصفه أغلب الفلاسفة الوجوديين بأنه شعور سلبي ناشئ من إدراك المرء لحريته المطلقة ومسؤوليته الإنسانية نتيجة كونه مُلقى في هذا العالم. ومن أبرز الأمثلة الأثرية التي تصف القلق الوجودي هي مثال المرء الواقف على حافة جبل عال: ففي هذهِ التجربة، نرى أن الشعور بالرعب والهلع الذي يشعر به المرء عند إدراكه بأنه يستطيع أن يرمي نفسه وأنه وحده من يملك الخيار لجعل حياته تستمر تكاد تكون أكثر رعبًا وهلعًا من فكرة الموت نفسه! الإنسان محكوم عليه بالحرية؛ لأنه بمجرد إلقائه في العالم، يُصبح مسؤولًا عن كُل مايفعله. الأمر متروك لك لإعطاء الحياة معنى. لطالما كانت لوحة «متجول فوق بحر من الضباب» تحمل رمزية ما لفلسفة الوجودية واستخدمها الكثيرين كغلافٍ لكُتب الفلاسفة الوجوديون. فكونك على حافة جبل عال يعني أنه ليس هنالك شيئًا يُعيق حريتك، وأن حياتك هي لك، أنت فقط من يُحدد مصيرها ومعناها. فكرة تكاد تكون رومانسية على نحو مُقلق. أنطوان روكنتان كان حبيسًا لهذا القلق المزمن؛ يفكر بكل احتمالات الحياة، كما لو أنه واقف أبديًا على حافة جبل عال يتأمل احتمالات سقوطه. الشعور المتعمق بهذه الحالة هو شعورٌ ثقيل وبائس لدرجة الغثيان. والحل الوحيد للتجاوز يكمن في صرف أذهاننا عنه، وفي إطلاق سراح الغرق بالتفكير، وبمحاولة الاستمتاع بتفاصيل الحياة عوضًا عن ذلك؛ كالاستمتاع بألحانِ أغنيةً جازًا جميلة! مراجع: Existentialism is a Humanism Book, Jean-Paul Sartre, 1946. Being and Nothingness Book, Jean-Paul Sartre, 1943. Essays in Existentialism Book, Jean-Paul Sartre, 1965. Nausea Novel, Jean-Paul Sartre, 1938.

  • ًمعنى أن تكون كاتبًا

    بدأت رحلتي في إكتشاف عالم الكتابة عندما كنت أكتب مذكراتي بشكل شبه يومي، كنت حينها أكتبها بلهجة عامية مُحدثة فيها نفسي وجمهوري الذي لا أعرفه وأظن بأنه يقرأ لي. وأنا الآن مازلت أكتب يومياتي متمنية أن لا يقرئها أحد؛ فقد اختلف الأمر بشكل طفيف عن السابق، حيث كُنت أكتب في مذكراتي كل شي يحدث معي خلال يومي دون هدف. أما الآن فأنا أكتب فقط عن الأيام المختلفة التي تسعدني بحق، وعن شدة الألم في بعضها، وأحيانًا أكتب لنفسي رسائل تحفيزية كي أظل مؤمنة بأنني لن أضيع من نفسي. انتقلت من كتابة المذكرات اليومية لكتابة الخواطر والمقالات النقدية والعلمية التي أنشرها إما في دفاتري أو المدونة أو على صفحة المنتديات .وصولًا إلى التغريدات والمنشورات الإعلانية. هذا التطور، أو ما أُسميه بـحالة النمو الكتابي، يُعبر عن مراحل الانتقال من كتابة البديهيات وما يحدث في يومي بهدف شخصي إلى نوع من الكتابة أكثر جدية يدخل ضمن نطاق الأهداف المجتمعية والتجارية بعيدًا عن التجربة الحسية المحدودة. هذا الإنتقال يجعلني لا أتوقف عن الدهشة من قدرة المشاعر والأفكار، وكل ما يحمله الإنسان من مكنونات عميقة، على أن تُترجم في حروف مكتوبة لتصبح بسحر اللغة نصًا مقروءًا، أو مرئياً، أو مسموعاً ويصل بذلك، لروح إنسان آخر مُكونًا بذلك ألف معناً جديد ومختلف. تأكدت بأن الكتابة هي أكثر الوسائل التي تساعدني للتعبير عن نفسي، بالرغم من أني لست متمرسة بما يكفي وأعتبر نفسي واحدة من أولئك الكُتاب الخجولين والمتكاسلين الذين يكتبون خفيةً ويعتمدون على طريقة واحدة في الكتابة، من دون أن اتجرأ على أن أخطو وأذهب إلى أماكن جديدة في الكتابة. ولتعمقي مؤخراً في موضوع الكتابة طرأ علي بعض التساؤلات: ما هو تاريخ الكتابة؟ ما هي اللغة؟ وعلى أي أساس تتشكل الكلمات البلاغية؟ ما هو النص المتاح للنشر؟ وكيف أكتب نصًا صحيحًا؟ هل يجب أن أكتب لنفسي أم للآخرين؟ السؤال الأخير جعلني أوجه تفكيري نحو دوافع الكتابة لدي ولدى الآخرين. التفكير في الأسباب جعلني أصادق الكاتب عمر الرديني في قوله لي في حوارنا الأول الذي دام لساعات، حيث كان يستمر بذكر وجوب الكتابة للجميع وأن التشجيع عليها أهم بكثير من التشجيع على القراءة! من وجهة نظري، أرى أن الغاية من الكتابة يتمثل في كونها عملية للتفريغ والجمع، فنحن نقوم بسكب ما لدينا على الورق كمحاولة للتنفيس عن شعور ما أو للتعبير عن الأفكار أولتوثيق الأحداث من زاوية ما. وبعد ذلك، نحاول جمع المنثور مما كُتب وتحليله وإعادة فهمه لأهداف مختلفة. وأكاد أؤمن بأن كل البشر لديهم شيء واحد على الأقل يستيطعون التعبير عنه بالكتابة. في هذه المقالة حاولت أن أقوم بعمل مراجعة لكتابين قمت بقراءتهم الفترة الماضية بينما كنت أغوص في محاولتي لفهم عالم الكتابة. ولأني متاكدة بأن هنالك الكثير من الكُتاب الخجولين والمتكاسلين أمثالي الذين يحتاجون للقليل من المعرفة حول التجارب الكتابية المختلفة لكي يتشجعوا لإتخاذ خطوات متقدمة في فهم هذا الفن، فأنا هُنا أقوم بمشاركة ماتعلمته آملةً أن تكون مقالتي هذهِ قد تكون إحدى العوامل المُساعدة لفهم فن الكتابة. كتب مساعدة لمعرفة أسرار الكتابة: لماذا نكتب لـ ميريديث ماران: يوضح هذا الكتاب أهمية الكتابة وكيف أن تعدد الأسباب يثبت مدى تأثيرها في نفس الكاتب أولًا والقارئين له ثانيًا. هذا الكتاب أعتبره جرعة محفزة للتمسك بالكتابة كأداة فنية للتعبيرعن الذات. كتاب «لماذا نكتب؟» للكاتبة الأمريكية المعاصرة ميريديث ماران التي تبلغ من العمر 69 عام. تعمل ميريديث مؤلفة وناقدة للكتب إضافة لعملها كصحافية، بدأت بكتابة كتابها الأول قبل بلوغها سن العشرين. ويعتبر هذا الكتاب من أشهر أعمالها. في كتاب «لماذا نكتب؟» ستجد عشرون كاتب وكاتبة يجيبون على أسئلة تخص الكتابة ويستهدف المحتوى الكُتاب، بجميع درجاتهم وخاصة المبتدئين، كما أنه لا يعفي المحترفين منهم من قراءته وطرح ذات الأسئلة على أنفسهم. الكتاب هو بمثابة لقاءات صحفية مدعومة بسير ذاتية مختصرة عن الُكتاب، وقد قام بترجمته للغة العربية فريق تطوعي تم إنشاؤه من قبل منصة تكوين للكتابة الإبداعية. استعرت كتاب «لماذا نكتب؟» من المكتبة المنزلية التي تملكها خالتي أفنان وهو أحد الكتب التي كانت تتصدر قائمة الكتب التي أرغب بشرائها. ومن شدة تعلقي بالكتاب وإعجابي به، لم أقم باعادته لها بل قمت بشراء نسخة جديدة لها بدلًا من النسخة التي أعطتني إياها، لأنني كالعادة لم أمنع نفسي من الكتابة في هوامش أغلب الصفحات وتظليل الكثير من الإقتباسات. تذكر الكاتبة قصة فضولها الكبير للبحث عن أجوبة لأهم الأسئلة حول الكتابة وعن الأسباب التي تدفع أي شخص لأن يكتب؛ متساءلةً لماذا يصبح بعض الناس جراحي أعصاب، منظفي أسنان، استثماريين، بينما يختار آخرون مهنة لا تعود لهم إلا بالفقر والرفض والشك الذاتي؟ وبعض أهم الأفكار التي تطرق لها الكتاب: يكون الكلام مكتوبا على لسان الكاتب، يليه أفكار عامة يتبناها الكاتب وأجوبه عن أسئلة جوهرية في الكتابة مثل: كيف أكتب؟ أفضل وقت للكتابة؟ لماذا قطع أدب المراهقات الطريق؟ الأعمال الأدبية المترجمة وكيف تؤثر على الإنطباع العام للعمل الذي تمت ترجمته؟ حبكة الكاتب ما هي وإلي ماذا تشير؟ آلية الانضباط في الكتابة؟ وهل يتعارض كلٌ من الفن والسياسة؟ وغيرها الكثير من الخبرات والأجوبة. الجميل في الكتاب أنه يحوي الكثير من القصص المشوقة حول الكُتاب، بعضهم يحكي بداياته والبعض الآخر يتحدث عن أسوأ وأفضل عمل قام بكتابته، والطقوس والعادات التي يتبعونها في الكتابة. كما يظهر في نهاية كل فصل أسلوب وعقلية الكاتب في إجابته على السؤال وتباين الخبرات ووجهات النظر الفنية في إلقاء النصائح والتي أعتبرها موجز رائع لمعرفة فكر الكاتب. جواب الكاتبة ميغ واليترز عن سؤال "لماذا نكتب؟" كان مثيراً للإهتمام فهي تصف الكتابة بأنها الشيء الوحيد الذي تعرفه ويستطيع أن يحررها من القلق؛ فهي تكتب لكي تكشف عن طريقة وجودها في العالم ، وتقول أيضًا: نوع معين من الكُتاب يكتب لكي يقابل أشباحه. أنا لست شجاعة إلى هذه الدرجة. إلى حد ما، أحتاج أن أكون مطعونة عندما أكتب. أنا لا أقرأ أو أكتب لأهرب، ما من مهرب. عندما أعمل، أريد أن أحقق نوعاً ما من التعديل، لكي أخلق من العالم المشوه عالماً مثيراً. أكتب لكي أشكل فكرة كنت من الأساس أُشكلها بالمطرقة في رأسي، لكي أكوّن منها شيئاً متماسكاً. إنه امتداد طبيعي لثرثرتي الداخلية، وحين يكون لدي ثرثرتي الداخلية بالإضافة إلى شعور بالالتزام، فهذا ينتج كتابًا. ولولا أني أتفق مع الكاتبة بثينة العيسى في أن الكتاب مادة غنية يصعب إختيار بعض الاقتباسات منها، إلا أني اخترت عرض القليل من الاقتباسات التي أعجبتني: «الحبسة هي نتيجة قرار خاطئ قمت باتخاذه ومهمتي هي العودة للوراء لرؤية ما إذا كنت قادرة على تحديد مفترق الطرق حيث مضيت نحو الاتجاه الخاطئ» «هيكل الرواية هو شيء تكتشفه، وليس شيئا تركبه، لا تمسك لوحة المفاتيح لتصبح عبداً لخطتك في الكتابة» «أن تعيش يعني أن تتقدم من الحماقة إلى الحكمة، إذا كنت محظوظا، ثم إن كتابة الرواية تعني أنك تنشر مراحل مختلفة من حماقتك» وفي أغسطس 2019، وبعد الإنتهاء من قراءة كتاب «لماذا نكتب؟»، قررت بجدية أن أحاول تحسين مهاراتي الكتابية. فبدأت أنا وصديقتي رفاء بالتمرين الكتابي اليومي محاولين إعادة تعريف بعض المفاهيم والمصطلحات بشكل عشوائي لفهم ما تعنيه لنا الكلمات وكيف يمكننا أن نعبر عنها. فقمنا بوضع قائمة تتضمن بعض المصطلحات واخترنا كلمة واحدة لكل يوم لنكتب عنها، هذا التمرين البسيط جعلني أحاول البحث عن كتاب يساعدني أكثر في تطوير كتابتي الوصفية فوجدت الكثير من التوصيات التي تنصح بقراءة كتاب «الحقيقة والكتابة لبثينة العيسى». الحقيقة والكتابة لـ بثينة العيسى: هو بمثابة ورشة عمل مصغرة للكتابة الروائية وبشكل عام لتلك الكتابات الوصفية الموجهة مباشرة من الكاتب للجمهور، ويساعد هذا الكتاب في تمرين الأداة الفنية الكتابية وتبسيط بعض التقنيات الخاصة بها. قامت بثينة العيسى بتأليف هذا الكتاب، وهي المؤسِسة لمكتبة «تكوين» منصة الكتابة الإبداعية. تعمل بثينة بائعةً للكتب في مكتبة تكوين وتعرف نفسها في صفحتها بتويتر بأنها طفلة مستعصية ومشروع شجرة. بثينة هي كاتبة وروائية كويتية صدر لها العديد من الروايات التي لاقت على استحسان كبير من الجماهير. حازت على جائزة الدولة التشجيعية عن روايتها «سِعار» التي صدرت عام 2005 وحصلت على ذات الجائزة عام 2017 عن روايتها «كبرت و نسيت أن أنسى». الكتاب، كما ذكرت مسبقًا، يكاد يكون بمثابة ورشة عمل مصغرة وتم تقسيمه إلى أربعة فصول تتضمن المحاور الأساسية المرتبطة بالكتابة الوصفية والعناوين ذات الصلة. في بداية كل عنوان من الفصل يتم عرض بعض الإقتباسات المتعلقة بالأدب والفن بشكل عام. يُختتم الحديث عن العنوان بورشة عمل تشمل تمارين كتابية التي يمكن للقاريء من خلالها تجريب الأفكار التي تم طرحها في الفصل. إضافة لقائمة لبعض القراءات المقترحة من كتب و أفلام ومقالات. الكتاب رغم حجمه الصغير إلا أنه دسم ومليء بالتفاصيل والملاحظات المهمة! كيف يساعدك هذا الكتاب لأن تكون كاتب أفضل؟ أولًا: يجب أن نتملك معرفة الإستراتيجيات! الحقيقة الروائية، وماهي الكتابة الوصفية؟ هل ينبغي أن نعرف ما نفعل؟ الكتابة الوصفية والحبكة، الكتابة الوصفية و الإيقاع، ماذا نصف؟ عند الحديث عن الحقيقة الروائية بدأت الكاتبة بثينة العيسى باقتباس لإبراهيم الكوني يقول فيه : «المبدع لا يبدع في سبيل مال، ولا في سبيل مجد، ولا حتى في سبيل خلود. المبدع يبدع في سبيل مبدأ واحد، أعلى من كل مبدأ وهو الحقيقة» ترى بثينة أنه من الإستحالة القبض على الحقائق في الأعمال الفنية، ولكون الحقيقة هي المراد بلوغه فلابد إذًا للرواية أن تسرد الأكاذيب. وحين أرادت الكاتبة تعريف الكتابة الوصفية: «الكتابة الوصفية أداة أدبية يوظفها الكاتب لكي تتحول القراءة من عملية ذهنية مجردة إلى تجربة متكاملة، ذهنياً، حسياً، و عاطفياً. إنها الطريقة التي تتحول فيها الكلمات من رموز مجردة إلى صور، وأصوات وأحاسيس. ومختصر الغاية من الوصف هو جعل المحسوس مثيرًا عقليًا لخلق المعنى المجرد» لفت إنتباهي تشبيه الرواية بالموصل الحراري؛ ووجه الشبه بينهما يكمن في كونهما وسيطين بين مادتين. وفي الرواية يكون دورها كوسيط أن تصبح الذات هي الآخر، سامحة للقاريء بالتنقل من مكانه إلى مكان شخص آخر حاملًا معه عبء تجربة لم يعشها. أما من وجهة نظر الكاتب المصري توفيق الحكيم، فهو يُصِنف الُكُتاب إلى نوعين وهما: النوع الأول: العالم والفيلسوف، وهو الذي يتخذ منهج البحث والتحليل في كتابته ويجعل المعلومة هدفاً للكتابة. متخذًا المنطق والعقل طريقا له. النوع الثاني: الأديب والفنان، وهو الذي يلجأ إلى موهبة الخلق والمحاكاة آخذاً القاريء إلى عالمه الخاص بأقل قنوات العقل والمنطق. وفي الاجابة عن سؤال هل ينبغي أن نعرف ماذا نفعل؟ أكدت بثينة على أن الوصف ضرورة لازمة للكتابة والأمر لا يتعلق به وحده، بل الوعي الكافي لدى الكاتب بجميع أدواته و كيفية توظيفها. فإذا كان الكاتب الروائي من نوع الأديب والفنان فإنه أيضًا قد يكون أحد النوعيين التاليين: إما الروائي الساذج أو الروائي الحساس. حيث أن السذاجة و الحساسية تعتبران كمرحلتين في الكتابة. فالساذج الذي يكتب المسودة في المرحلة الأولى يتميز بكونه: عفوي، حساس، عضوي، فياض، متخلق ذاتيًا, والحساس الذي يكتب في المرحلة الثانية فهو: شكاك، متسائل، متفحص، واعي، قلق. فأهمية التدريب الإبداعي تكمن في أن نصبح سذجًا على نحو أفضل من خلال رفع حساسيتنا. وأن نحافظ على حرارة لحظة الخلق دون أن تتضارب أو تتناقض مع أدواتنا الفنية. في هذا الفصل كان الإسهاب واضحًا في جدلية الحبكة وأهميتها في القصة الروائية. وترجح الكاتبة رأي ستيفن كينغ الذي يُقسم العناصر الأساسية في صناعة القصة إلى: السرد والوصف والحوار، وأن الشخصيات والحبكة والمكان والزمان آثار جانبية للقبض على هذهِ العناصر الأساسية. ولأننا في العملية الإبداعية لا نحاكم الأساليب بصفتها صوابًا أو خطأً، وأن الكتابة دائماً ماتحدث في منطقة رمادية بين التخطيط والعفوية، عرضت لنا العديد من الكتاب الذين يميلون إلى أحد الجانبين وآرائهم بشكل سلس وأعطت أمثلة مقتبسة تدعم فيها رأي كينغ الذي تميل إليه، و لتعزيز هذا الرأي قدمت ٤ تمارين كتابية لتوضيح الفكرة، يليها قائمة بأسماء كتاب يخططون للحبكة و آخرون لا يخططون. اختتمت الفصل الأول بالحديث عن علاقة الوصف بالإيقاع وبأنه من اللازم إتقان فن التهدئة. بأن يعرف الكاتب متى يسهب بالوصف ومتى يسرع. فقدرة الكاتب على أن يصف بمقدار صحيح تكشف براعته و حساسيته كقاريء. الفصل الثاني: الأدوات - الكلي و الجزئي: «أنا لا أطلب منك أن تصف سقوط المطر ليلة وصول كبير الملائكة، أنا أطلب منك أن تجعلني أتبلل!فكر في الأمر أيها الكاتب، ومرة واحدة في حياتك كن الزهرة التي تفوح بدلاً من أن تكون مؤرخ العطر» - ادواردو غاليانو. تكمن أهمية الكتابة الوصفية بأنها تجعل التفاصيل متجذرة في الحواس الخمس. وترى بثينة أنه لكي ينجح الكاتب فعليه كشف وجه جديد للأشياء أو أننا سنفشل في ذلك ونصف كما يفعل الجميع. بتلك الحواس الداجنة، الضامرة، والعاجزة عن الإكتشاف. الفصل الثالث: الموضوعات - كل ما يُمكن وصفه: الحديث هنا عن أهم الأشياء التي يتم وصفها من شخصيات، وفضاء، إضافة إلى المشاعر والأحاسيس. تقول بثينة أن حلم الُكتاب هو كتابة شخصية تنجح، عبر الزمن، بأن تتسلسل من صفحات الكتاب لتتجذر في وجداننا الجمعي. أرى أن في ذلك إعترافًا ضمنيًا بأن حياة واحدة لا تكفي وأننا جشعون جدًا ونريد أن نعيش تجارب أخرى. توضح أيضًا بثينة دور السرد والوصف والحوار في رسم عن هذهِ الشخصيات للقاريء وجعله يتذكر شخصيات الكتاب وينسى اسم كاتبه! من وجهة نظر بثينة أن وصف الفضاء لا يعني تصويره للقاريء وحسب بل الذهاب أعمق في فضح طبيعة علاقته بالشخصيات وتأثيره الضاغط على علاقة الشخصيات بعضها ببعض. أعجبني في هذا الكتاب أنه لا يبحر في تقنيات الكتابة بشكل كبير بل يضع إشارات على أهم الأفكار الكتابية التي يجب لفت النظر إليها. فبالنسبة لي ككاتبة أخجل من وصف الكثير من الأشياء في قالب القصة وفي الغالب لا أستصيغ الروايات بشكل عام. إلا أني أحببت المنطقة الخضراء بين الأدب والفلسفة كما في روايتي المفضلة «عالم صوفي» فعدت مع نفسي لأتذكر كيف يمكن للكثير من القصص الخيالية التي تدور في ذهني أن تصبح بقدرة الوصف نصًا أستمتع به. جمالية كتاب «الحقيقة والكتابة» لبثينة العيسى يكمن في التمارين الكتابية؛ فقد كنت من شدة حماستي أمارس روتيني اليومي وأشاهده من بعيد كما لو أنه حكاية تُروى، وفي الحقيقة أعجبت بأحد كتاباتي السريعة في أحد التمارين الكتابية الذي كان يوضح أهمية فن التهدئة بكتابة سلسلة من الجمل السردية، ومن ثم تطعيم الفقرة بجمل وصفية، لنرى الفارق في إعطاء إيحاءات مختلفة لجملة واحدة بسحر الوصف. وغير هذا التمرين هناك الكثير من التمارين التي من الممتع التفكير بها على الأقل. أوصي بهذا الكتاب لكل من هو مهتم بالكتابة فكل على حسب مستواه الفني يستطيع رؤية شيء ما يساعده في تطويع هذه -أعني الوصف- الأداة الفنية. وللعودة للتساؤل عن: لماذا نكتب؟ ولماذا نقرأ؟ أجد أنه لا إجابة محددة لهذين السؤالين، كما لو أن الكتابة والقراءة فطرة خُلق عليها الإنسان ويتمرس على ترسيخها واستخدامها للتعبيرعن ذاته، كأحد الوسائل الضرورية لمعرفة الشكل الذي تسير به الحياة. في نهاية هذه المقالة أريد أن أشكر الأشخاص الذين يكتبون، و على وجه الخصوص أولئك الذين أستمتع بقراءة كتبهم، و الشكر الكثير للكُتاب الذين كتبوا عن الكتابة والذين يسعون لتفسير هذه الهبة الإلهية و لتعلم فنونها. وأود شكركم أنتم أيها القراء لإعطائي الوقت لقراءة هذه المقالة التي أعود بها لنفسي وأحفزها للكتابة! واعتبروا هذهِ المقالة بمثابة دعوة مني لكل أصدقائي من الكُتاب "الخجولين والمتكاسلين" للتشجيع على الكتابة عن كل شيء، وأن نرسم في ذهننا سلمًا نصعد به مع ذواتنا للبحث عن ما هو مفهوم وغير مفهوم أيضًا. ولأن الكتابة هي المجهر الذي يكشفنا لأنفسنا قبل الناس؛ فهو أمر يستحق المحاولة ألف مرة . الكتابة هي الماضي، الماضي الذي يرى مستقبلنا بوضوح دون أن نمل وقتنا الحاضر. الكتابة هي الجنة، الجنة التي تملؤونا بالرضا و نحن نرتكب المعاصي. - عمر الرديني من كتابه غوى. مراجع و بعض التوصيات لأعمال ذات صلة بفن الكتابة : .The Rewrite film, 2014 كتاب أدوات الكتابة, روي بيتر كلارك, 2008. كتاب تحت ظل الكتابة, أمير تاج السر، 2016. كتاب الزن في فن الكتابة، راي برادبري، 2015. كتاب لماذا نكتب، ميريديث ماران، 2014. كتاب التجربة والتكوين, عبدالعزيز القباني، 2018. كما أن منصة تكوين للكتابة الإبداعية تعتبر مرجعا قيمًا لإحتوائها على العديد من الإصدارات والمقالات المتخصصة في الكتابة، من تمارين و طقوس وغير ذلك الكثير.

  • ذات الرداء الأحمر عبر العصور وأدلجة قصص الأطفال

    تواصل ليلى مهمّة توصيل سلّة الغذاء والنبيذ لجدّتها المريضة مُرتدية رداءها الأحمر بعد أن قابلت الذئب في طريقها، لتصل إلى منزل الجدّة حيث الذئب متنكّرا بهيئتها بعد أن التهمها. قام الذئب بمُناداة ليلى لتقترب منه كي يلتهمها أيضًا؛ فأزالت رداءها الأحمر واقتربت منه فانتهى الأمر بموتها! هل كانت هذه نهاية ليلى والذئب كما سمعتموها في طفولتكم؟ جميعنا نذكر أحداث قصّة ذات الرداء الأحمر لكن بتفاصيل نهايات مختلفة، فالقصص الخياليّة\ الـ(Fairy tales) تناقلتها الأجيال كتابيًا وشفهيًا؛ لتقع تحت تأثير التغيُّر الحتمي. ما يقع على هذه القصص من تغيّرات هو بسبب تضمّنها لأيديولوجيا وتصوّرات المجتمع نفسه عن الواقع وما هو مقبول وغير مقبول، فلا بدّ من أن تعبّر الكتابات عن أفكار كاتبها، وأيضًا السياق التاريخي والثقافي الذي وُلدت منه، وقصص الأطفال لا تُستثنى من هذه القاعدة. ترى الناقدة جاكلين روز في قضيّة بيتر بان: استحالة أدب الأطفال (The Case of Peter Pan: The Impossibility of Children’s Literature) أنّه يستحيل وجود كتاب نقيّ للأطفال بسبب الفجوة الحتميّة بين البالغين والأطفال، ما يقع خلف تلك الكتب في الحقيقة أفكار متحكّمة وأحيانًا شرّيرة، في الواقع هذه الكتب تمثّل رؤية البالغين المثاليّة عن الطفل ومرحلة الطفولة، وليست الطفولة الحقيقيّة، فنحن لا نعرف شيئًا عن عالم الطفولة! بحسب رأي الفيلسوف الفرنسيّ جان-جاك روسو. هذا مجرّد إيضاح بسيط لما تتضمّنه قصص الأطفال عامّةً، والقصص الخياليّة خصوصًا. قبل أن نسرد الحكاية الخفيّة لذات الرداء الأحمر، علينا أولًا أن نُعرّف ماهية القصص الخياليّة ونحكي عن تاريخها وما طرأ عليها عبر التاريخ من تغيُّرات. عبارات كـ "كان يا مكان في قديم الزمان" و "عاشا بسعادة أبديّة"، وشخصيّات كـ زوجة الأب الشرّيرة تجعلنا نميّز القصّة فورًا على أنّها قصّة خياليّة. لكن الأمر ليس سهلًا؛ تختلف آراء نقّاد الأدب في تعريف هذا النوع من القصص، مثلًا تذكر الروائيّة أنجيلا كارتر في الكتاب السليط للقصص الخياليّة (The Virago Book of Fairy Tales) أنّها قصص عن عوالم خياليّة -لا يُشترط وجود الجنيّات بها-، حدثت في أماكن وأزمنة غير محدّدة، تتضمّن أحداث تكسر قوانين الطبيعة، تناقلتها الأجيال عبر الأزمنة شفويًا، وتتغيّر بناءً على الشخص الناقل، وأنّها اعتُبرت وسيلة ترفيه الفقراء. تعريفها برأيي هو الأقرب لوصف هذا النوع من القصص، بالإضافة إلى كونها تتضمّن السحر والمخلوقات الخياليّة غالبًا. بالنظر إلى تاريخ هذه القصص في مقال جاك زايبس المنشأ: القصص الخياليّة والقصص الشعبيّة (Origins: Fairy Tales and Folk Tales)، نعود بالزمن إلى ما قبل القرن الخامس عشر، تحديدًا قبل معرفة علم الطباعة حيث كانت القصص الخياليّة تُنقل شفهيًا عبر الأجيال، فالفلّاحون من الطبقة الفقيرة سردوا هذه القصص لأسيادهم من الطبقات الوسطى والأرستقراطيّة أثناء عملهم كخدم وحرّاس لديهم. وما هو غير متوقّع؛ كون هذه القصص غير مُخصّصة للأطفال أبدًا! بل كانت تتضمّن عبارات ومشاهد بذيئة مليئة بالعنف والجرائم، لا تصلح بتاتًا للمُستمع صغير السنّ، بل لا يفهم بعض النقّاد، كـ جون رونالد تولكين كاتب الهوبيت (The Hobbit)، كيف أصبحت تُصنّف القصص الخياليّة على أنّها قصص للأطفال! بعد معرفة الطباعة في القرن الخامس عشر؛ بدأ الكتّاب يقتبسون أفكارًا من هذه القصص الشفهيّة ويضعونها في قصصهم المكتوبة، ثمّ غُيّرت اعتقادات وأفكار طبقة الفلّاحين الموجودة في القصص الشفهيّة وعُدّلت بحيث تناسب القرّاء من الطبقات الأعلى، فأصبحت تتضمّن تعليقات عن الزواج والحبّ والأدوار الجندريّة بعد أن كانت مُتنفّس الفقراء لرغبتهم بوضعٍ أفضل، وتعويضات لحالتهم المزرية. أشهر الكتّاب الذين تبنّوا القصص الخياليّة بشكل كامل في كتاباتهم الإيطالي جيوڤاني فرانسيسكو سترابارولا في القرن السادس عشر. ظهر مصطلح Fairy Tales أو بالفرنسيّة Conte de fées لأوّل مرّة في القرن السابع عشر، تحديدًا في فرنسا في الصالونات الأدبيّة التي أسّستها النساء الفرنسيّات، وسادت موضة كتابة هذا النوع من القصص. في هذا القرن تحديدًا برز نجم كاتب القصص الخياليّة الأشهر تشارل پيرو (Charles Perrault) ومجموعته القصصيّة قصص وحكايات من أزمنة سابقة (Stories and Tales of past times) والتي تضمّنت قصص كذات الرداء الأحمر وسندريلا. لنتقدّم بالتاريخ بسرعة نحو القرن التاسع عشر، تحديدًا بعد أن اعتاد الكتّاب توجيه هذه القصص للأطفال، اعترض رجال الدين والمعلّمين على قراءة الأطفال لهذه القصص؛ معتبرين أنّها تفتقد العناصر الأخلاقيّة، لكن هذا لم يمنع الكتّاب من كتابة القصص ونشرها. ظهر الأخوين غريم في هذا القرن، وبدآ في عمليّة تطهير القصص الخياليّة من المشاهد القذرة والدمويّة، وإضافة العناصر والمعانِ الدينيّة المسيحيّة لها؛ بحيث تُناسب القارئ الطفل أكثر في مجموعتهم حكايات الأطفال والأسرة (Children’s’ and Household Tales) التي تضمّنت ربانزل، سندريلا، وأيضًا ذات الرداء الأحمر وغيرها الكثير. قبل تاريخ ١٨٢٠، كان السائد أنّ كتب الأطفال ينبغي جعلها تعليميّة ومليئة بالفضائل والأخلاق، لكن هذا التاريخ كان مفصليّ؛ بدأ العديد من الآباء والمعلّمين بالإيمان أنّ وقت المُتعة للأطفال مهمّ، وأنّ هذه المتعة لن تُفسد عقولهم بالضرورة، بل يحتاج الأطفال وقت راحة بعد يوم طويل، سواءً كانوا أطفال مصانع أو أطفال مدارس، هم يحتاجون التسلية على حدٍ سواء. فتمّ قبول هذه القصص بشكل كامل في المجتمع مع صدور أعمال هانز كريستيان آندرسن، الذي برع في دمج العنصر الخيالي والفكاهة مع التعاليم المسيحيّة، جامعًا بذلك بين المتعة والفائدة. الإختلاف ما بين القرن السابع عشر والقرن التاسع عشر يوضّح كيف أنّ كلّ ما يُكتب يقع تحت تأثير السياق الثقافي، هذا النوع من القصص كانت مُجرّد تسلية للبالغين في التاريخ الأسبق، ثمّ لاحقًا صُنّفت كأهمّ أفرع أدب الأطفال. لتوضيح هذه الفكرة بشكل أكبر؛ سأستعرض لكم تحليلًا بسيطًا لنُسختين من قصّة ذات الرداء الأحمر، نسخة البالغين التي كتبها تشارل پيرو في القرن السابع عشر، ونسخة الأطفال من كتابة الأخوين غريم في القرن التاسع عشر -سأضع رابط تحميل القصّتين للاطّلاع في نهاية المقال-. كلتا النسختين تتشابهان بوجود شخصيّة الفتاة الصغيرة ذات الرداء الأحمر، الذئب والجدّة، وعبارات تتكرّر في النسختين كـ: "Grandmother, what big eyes you have!" "All the better to see with, my child." "Grandmother, what big teeth you have got!" "All the better to eat you up with." - "جدّتي، لديكِ عينان كبيرتان!" "لأراكِ بشكلٍ أفضل، ياطفلتي." "جدّتي، لديكِ أسنان كبيرة!" "لآكلكِ بشكل أفضل." -Perrault, 1697 "But, grandmother, what big eyes you have!" she said. "All the better to see you with, my dear." "But, grandmother, what large hands you have!" "All the better to hug you with." "Oh! but, grandmother, what a terrible big mouth you have!" "All the better to eat you with!" - "لكن، جدّتي، لديكِ عينان كبيرتان!" قالت. "لأراكِ بشكلٍ أفضل، عزيزتي." "لكن، جدّتي، لديكِ يدانِ كبيرتان!" "لأحضنكِ بشكلٍ أفضل." "أوه! لكن، جدّتي، لديكِ فم كبير فظيع!" "لآكلكِ بشكل أفضل!" -The Grimm Brothers, 1857 رغم التشابه الصريح في بعض العناصر، إلّا أنّ انطباع اللغة والنهاية تختلفان كليًا. فلا نهاية سعيدة في نسخة تشارل پيرو؛ حيث تنتهي القصّة بموت ذات الرداء الأحمر، ومُرفق في نهاية القصّة عِظة تُحذّر الفتيات الجميلات من الألسن العذبة التي تخفي أسنان حادّة: "Children, especially attractive, well-bred young ladies, should never talk to strangers, for if they should do so, they may well provide dinner for a wolf. I say "wolf," but there are various kinds of wolves. There are also those who are charming, quiet, polite, unassuming, complacent, and sweet, who pursue young women at home and in the streets. And unfortunately, it is these gentle wolves who are the most dangerous ones of all." "الأطفال، خصوصًا الفتيات الجذّابات المُهذّبات، ينبغي أن لا يتحدّثوا مع الغرباء، لأنّهم لو فعلوا، سيقدمون أنفسهم كعشاء لذئب. أقول "ذئب،" لكن هناك أنواع عديدة من الذئاب. هناك أيضًا الفاتنين، الهادئين، اللبقين، المتواضعين، الراضين، واللطيفين الذين يسعون وراء النساء الصغيرات في المنزل وفي الشوارع. ولسوء الحظّ، هؤلاء الرجال النبيلين من الذئاب هم الأخطر على الإطلاق." -Perrault, 1697 وجود هذه العِظة يُصعّب على القارئ فهم القصّة بشكلها الظاهريّ، في الحقيقة هناك العديد من الرموز التي تبيّن عناصر جنسيّة في القصّة، كالرداء الأحمر ورمزيّة عفّة الفتاة، كان لفظ (فتاة رأت الذئب) شائعًا في فرنسا والذي كان يُطلق على فتاة فقدت عذريّتها، بالتأكيد لفظ كهذا كان مألوفًا لدى بيرو. القصّة تحذّر، خصوصًا الفتيات، من خطر الخضوع لإغواء الغرباء. وهذا ما يجعلها قصّة للبالغين، لا تُناسب الطفل أبدًا. في قصّة الأخوين غريم من ناحية أخرى، انتقلت الغاية من كونها تحذّر الفتيات من مخاطر جنسيّة، إلى تحذير الأطفال بشكل عام من مخاطر عدم طاعة البالغين. ذات الرداء الأحمر تتناسى تحذير أمّها من التعمّق في الغابة، معرّضةً بذلك حياتها وحياة جدّتها إلى خطر الذئب، فقط بتدخّل عنصر الذكر البالغ، والذي يُمثّل الأب من وجهة نظري، شخصيّة الصيّاد، أُنقذت كلتاهما، وانتهت القصّة بنهاية سعيدة. ذات الرداء الأحمر تعلّمت درسها واستطاعت التغلّب على ذئبٍ آخر قابلته لاحقًا، بذلك تكون الفكرة؛ طاعة الوالدين والامتثال لأوامرهما يجعلاك آمنًا. كما رأينا؛ اختلف معنى القصّة تمامًا بين ذاك العصر والآخر، لكون غاية القصص ذاتها تغيّرت لتصبح ملكًا لأدب الأطفال، ومفهوم الطفل وما يناسبه من قراءات تغيّر أيضًا. هذا التغيّر يوضّح حقيقة كون أدب الأطفال عمومًا ليس سهلًا أو هامشيًا لدراسات أدب البالغين، وأنّها مسئوليّة عظيمة على عاتق الناشرين أن يُحدّدوا ما يُنشر وما لا يُنشر في محتوى كتب الأطفال. كغيرها من الأفرع الأدبيّة؛ القصص الخياليّة لن تتوقّف عن التطوّر وتضمّن أفكار تناسب المجتمعات الحاليّة والقادمة، فالأفكار والاعتقادات تتطوّر عبر العصور، والمكتوب مرآة لهذا التطوّر. (رابط الاطلاع على القصّتين) المراجع: Carter, A. (ed) 1990. The Virago Book of Fairy Tales, London, Virago. Hunt, P. 2009. (Instruction and Delight) in Maybin, J and Watson, N, ed. Children's Literature: Approaches and Territories. Basingstoke; New York: Milton Keynes: Palgrave Macmillan; The Open University. Montgomery, H. 2009. Study Guide: Children's Literature. Milton Keynes: The Open University Rose, J. 1984. The Case of Peter Pan, or The Impossibility of Children's Literature. Basingstoke, Macmillan. Rousseau, J.-J. (1979). Emile: or, On education. New York, Basic Books. Zipes, J. 2009. (Origins: Fairy Tales and Folk Tales) in Maybin, J and Watson, N, ed. Children's Literature: Approaches and Territories. Basingstoke; New York: Milton Keynes: Palgrave Macmillan; The Open University.

  • فلسفة 101: بين بوتون وبيترسون وجيجك، من يحصل على لقب الفيلسوف الحقيقي؟

    آلن دو بوتون وجوردان بيترسون وسلافوي جيجك، أسماء لم تكتفي بالحضور بكثافةً على صفحات الإنترنت فقط بل وصلوا لأبعد من ذلك بكثير؛ آلن بوتون أصبح يملك أكثر من خمسة ملايين مشترك على قناته في اليوتيوب ومحاضراته في (تيدكس) شاهدها الملايين، وجوردان بيترسون أصبح أيقونة الحزب اليميني المحافظ في أميركا وهو القدوة الجديدة لكثير من الرجال، بينما سلافوي جيجك يترأس الثورة الشيوعية الحديثة! كلهم مختلفون تمامًا عن بعضهم البعض، لكن يجمعهم شيء واحد؛ فالثلاثة يريدون أن يصبحوا فلاسفة، ولأن هُنالك شيئان أحبهما، ربما على نحوِ مبالغ فيه، ألا وهما: الفلسفة والألغاز. لذلك قررت أن أجمع الاثنين في موضوع واحد! وأن أصنع لعبة "من هو الفيلسوف الحقيقي لنا؟" مستخدمةً طريقة (جيل دولوز) لتحديد ذلك. (قراءة المقالة السابقة : ما هي الفلسفة ضروري لفهم هذهِ المقالة). حسنًا، لنبدأ بعرض أفكار ومنهجيات كل واحد منهم، ومن ثم سنُحللهم سويةً لنعرف الفيلسوف الحقيقي! آلن دي بوتون: درس التاريخ في جامعة كامبريدج، ثم أكمل دراسة الماجستير في الفلسفة في لندن. بعد ذلك بدأ دراسة درجة الدكتوراه في الفلسفة الفرنسية بجامعة هارفارد، لكنه قرر التوقف ليتفرغ للتأليف والكتابة. بوتون يملك الكثير من الأعمال: فهو كاتب وروائي، ومُحاضر وعمل في الصحافة والتلفاز. لكن أشهر ما يملكه هو قناته الشهيرة على اليوتيوب مدرسة الحياة The School of Life. كان هدف القناة في البداية هو نشر ملخصات مرئية ومسموعة وسهلة عن الفلسفة. صنعها بوتون لأنه لطالما اعتقد أن الفلسفة تعيش في حالة احتضار؛ فحتى في الجامعات لم يعد الكثير يولي أدنى اهتمام لتخصص الفلسفة. لذلك، أراد أن يُعيد الفلسفة للحياة وأن يجعلها قريبة للمجتمع مُجددًا. ماهي أفكار ألن دي بوتون؟ حسنًا بوتون يقول: إن المجتمع الأقدم كان يجد معنى الحياة المباشر مِن خلال الروحانية، والعبادات والطقوس الدينية. ففي الحياة الأقدم، كانت الروحانيات تعطينا أسبابًا للحياة (العبادة والصيام وعمل الخير) وكانت أيضًا تُعطينا توجيهات أخلاقية وذاتية. لكن، بعد دخول العلوم والتكنولوجيا تضاءلت الصلة بين الروحانية ومعنى الحياة. فأفكار موت الإله أثرت على المجتمعات الغربية وأنتجت بذلك، كما يقول، مُجتمعًا يفتقر للروحانية وغارقا في الفردية. من المهم معرفته أن بوتون هنا لا يفضل الروحانية على العلم أو العكس. لكنه يمقت فكرة أن على الفرد الاختيار بينهما. ما الحل إذن؟ أين يكمن معنى الحياة بالنسبة لبوتون؟ يقول لنا بوتون أن بإمكاننا إيجاد معنى الحياة في ثلاثة أشياء: ١- التواصل مع أنفسنا ولذة التواصل مع الآخرين. ٢- محاولة فهم العالم من حولنا ودراسته، والمتعة الموجودة في التعلم. ٣- خدمة الآخرين ومساعدتهم. بوتون بذلك يزيل الروحانيات والميثولوجيا وفردية الماديات ويضع بدلاً منها قوانينه الخاصة. هو لا يرفض الروحانيات ولا يقدس الماديات، بل يقول أنه علينا التعلم من المفاهيم القديمة واختيار ما يروق لنا ومانراه مناسبًا منها لنطبقها على حياتنا. اشتهر بوتون أيضًا بفلسفة العلاقات الحميمة ولديه الكثير من المحاضرات والكتب والروايات في مواضيع العلاقات. ما هي فلسفة بوتون في الحب؟ بوتون يرى أنه ليس بإمكانك أبدًا أن تجد الشخص الأمثل لك وأنُه لا وجود لما يُسمى بتوأم الروح، (أزيلوا هذهِ الأحلام الوردية!) لا أحد مثالي، وأنت بالذات لست كذلك. كُلنا غريبو أطوار، وأغلبنا يصعب على الآخرين العيش معه. بوتون يقول أن الحُب صعب بل قد يكون من أصعب الأشياء الموجودة لأننا عندما نحب فقط نواجه حقيقة أنفسنا. لما يرى بوتون أن الحُب صعب: - السبب الأول هو لأن أغلبنا -خصوصًا في هذا العصر مدمنون، بالإدمان هُنا لا نتحدث عن إدمان نوع مُعين من المخدرات، بوتون يُعرف الإدمان بأنه نمط من السلوكيات التي تجعلنا نهرب من مواجهة ذواتنا والأفكار والمشاعر الغير المريحة التي تتولد عندما نكون لوحدنا. وبالطبع كُل أنواع التكنولوجيا من حولنا الآن ساعدتنا كثيرًا بالهرب الدائم وبتوفير حياة أسهل من تلك التي تلتزم جهدًا أكبر. فلذلك، إذا فشلنا بمعرفة ذواتنا ومواجهتها سيكون من الصعب علينا جدًا أن نرتبط بشخص آخر. السبب الثاني، هو أن الحُب يتطلب منا أن نفعل شيئا لا نريد فعله كقول "لا أستطيع أن أنجو بدونك"، "أحتاجك" بينما نملك رغبة قوية بأن نكون دائمًا أقوياء ومدافعين جيدين دون أن نظهر ضعفنا للآخرين. يتحدث بوتون بطريقة رائعة عن فشل أغلبنا بقول حقيقة احتياجنا للطرف الآخر وكيف يؤثر ذلك على علاقتنا بِهم في محاضرته “لماذا ستتزوج الشخص الخاطئ؟” بوتون لا يرى أن الحُب مجرد غريزة أو مشاعر بل يرى أن الحب مهارة. نعم، مهارة! يجب علينا أن نتعلمها ونتعلم من خلالها. وهو يعرف الحُب (أن تُحب): أن تكون مُستعدًا لتفسير التصرفات المنفرة من حبيبك حتى تجد أسبابا أفضل لمعرفة لماذا ظهرت. أي أن تحب معناه أن تضع لمن تحب أعذارًا بكرم وإحسان. فجوهر الحُب يكمن في كوننا مُستعدين لتفسير تصرفات من نُحب. الجميع يحتاج هذا الحب وفي حاجة ماسة له. بوتون كتب رواية (مجرى الحب - The Course of Love) والتي توضح كيف أن الحُب رحلة طويلة لاكتشاف الذات والطرف الآخر، رحلة لا تنتهي بمجرد زواج الطرفين! دعونا نسأل الآن هل نجح الآن بوتون بأن يكون فيلسوفًا؟ من أجل أن نجيب على هذا السؤال نحتاج الاستعانة بأفكار جيل دولوز، الذي وضع لنا شروط الفيلسوف ونُطبقها على بوتون وباقي المفكرين! 1-خلق مفاهيم خاصة: هل صنع بوتون مفهومًا خاصًا به؟ أو قدم منظورًا أو بعدًا مختلفًا للفلسفة؟ والأهم من هذا كُله، هل يطرح بوتون أسئلة جديدة؟ الإجابة باختصار هي لا. فلو نلاحظ، سنجد أن بوتون (في أغلب الأحيان) يعيد تفسير مقولات الفلاسفة لدعم آرائه الشخصية. بوتون أيضًا يميل إلى تيسير الفلسفة بطريقة سطحية ومزعجة. على سبيل المثال وبما أننا سبق وشرحنا لكم سارتر (*) دعونا نر مقطعًا من فيديو شرح فلسفة سارتر على قناة مدرسة الحياة: كما ترون، الفيديو يشرح الفلسفة الوجودية الحديثة لسارتر (تلك التي أقلقت أوروبا والعالم العربي) عبر حالة شخصية لوكوتان -بطل رواية الغثيان-الذي يلازمه شعورٌ دائم بالغثيان والقلق نحو الجمادات التي حوله. هذا الشعور -حسب ما شرحه سارتر- هو شعور طبيعي مُصاحب للقلق الوجودي. برأيي الشخصي هذا الفيديو مزعج لأنه يختزل معنى الوجودية في مثال واحد فقط! فكما تتذكرون الوجودية فهي أعقد من ذلك بكثير إنها تناقش هوية الفرد، وثقل الحرية والمسؤولية، و الكينونة والعدم، بالإضافة إلى الموجود في ذاته والموجود لذاته، وأمور كثيرة تجاهلها هذا الفيديو ليختار أن يشرح وجودية سارتر في ستة دقائق! 2- انضباط وصرامة لأن يكون المثال الحي لمفاهيمه والتعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه وكُتبه وتعليمه: بكل تأكيد نعم. سواء كنا نتفق مع آراء بوتون أم لا. لكن يجب أن نعترف بأن بوتون يكرس الكثير من جهده لجعل الفلسفة أكثر شعبية وقربًا من المجتمع وقد نجح في ذلك من خلال قناته (مدرسة الحياة) ومحاضراته الكثيرة. وحتى عندما يتعلق بآراء بوتون في العلاقات الحميمة، فقد عبر عن آرائه ومنهجه في العلاقات الحميمة في عدد كثير من كُتبه وأعماله. أخيرًا، هل نستطيع القول أن آلن دي بوتون فيلسوف؟ الكثير من الفلاسفة ومحبي الفلسفة لا يعتبرون بوتون فيلسوفًا على الإطلاق، لأنه كما وضحنا لكم لم يأت بأي إضافة إلى أي من المدارس الفلسفية (الميتافزيقية، الأخلاقية، الجمالية، الوجودية أو حتى السياسية). ولم يحاوره أحد من الفلاسفة الحديثين. نستطيع أن نصف آلن دي بوتون بالمُفكر الشعبوي (Pop- Intellectual) فهو بلا شك مُسوق رائع للأفكار الفلسفية وقد ساعد في جعلها سهلة للجميع. لكن تذكروا ليس كُل من يتحدث عن الفلسفة هو بالمقابل فيلسوف! جوردان بيترسون: هو عالم نفس سريري ومفكر كندي، وهو بروفيسور في علم النفس. نجح بيترسون بأن يكون المُفكر الأكثر نفوذًا في العالم الغربي (كما وصفته مجلة النيويورك تايمز). يُعرف بيترسون نفسه بأنه "مُحافظ راديكالي" فهو يؤكد على أهمية التقاليد، والدين، والجنس البيولوجي بدلًا من الهوية الجنسية والتسلسل الهرمي للمجتمع بدلًا من المساواة والقيم الرجولية التقليدية. أصبح لبيترسون آلاف المعجبين وحاليًا يشترك في قناته على «اليوتيوب» نحو مليون مشاهد (حيث ينشر محاضراته وتسجيلات أخرى) وقد تلقى مساهمات من معجبيه على موقعه الشخصي على الإنترنت تتجاوز 80 ألف دولار شهريًا. أصدر بيترسون كتابين حتى الآن، ويُعد كتابه الأخير «12 قاعدة للحياة» من أكثر الكتب غير الروائية مبيعاً. متأثر بـ: كارل يونغ. ابتدأت شهرة جوردان بيترسون بعد مُعارضته لمشروع القانون الكندي لحقوق الإنسان والمسمى بـ (Bill C-16)، إذ قُدم المشروع من قِبل جاستن ترودو، رئيس وزراء كندا. المشروع ينص على تعديل قوانين خطابات الكراهية وإضافة عدم احترام الهوية الجنسية إلى أسس التمييز القانوني في كندا. وقد أضُاف إلى القانون الكندي لحقوق الإنسان، حيث انضم إلى قائمة الجماعات المحددة التي تحميها من التمييز، وتشمل هذه الفئات العمر والعرق والجنس والدين والإعاقة من بين أمور أخرى. ما هي وجهة نظر جوردان بيترسون في هذا المشروع؟ مشروع (Bill C-16) هو مشروع سياسي قائم على منهجية الصوابية السياسية (تصفية اللغة أو السياسات أو الإجراءات من أجل تجنب الإساءة أو الحرمان لأفراد مجموعات معينة في المجتمع). وجوردان بيترسون يقف ضد مبدأ الصوابية السياسية لأنه يرى أن مثل هذهِ الإجراءات تناقض مبدأ حُرية التعبير. هكذا بدأت شهرة بيترسون المنقطعة النظير، ففي وقتنا الحالي حيث التحرر هو المحرك الرئيسي لأكثر الشعوب، كيف تجرأ رجلًا أن يقف ضد هذا الحراك العالمي وينتقده؟ لا شك أن جوردان بيترسون هو مُفكر ذكي وذو كاريزما عالية. لكن، هل نستطيع القول أن بيترسون فيلسوفٌ بحق؟ بالبداية علينا أن نعرف ماذا يكتب وماذا يقول بيترسون وماهي أهم منهجياته لنجاوب ذلك! فقد نشر بيترسون كتابين حتى الآن، الأول هو خرائط المعنى والثاني هو اثنتا عشرة قاعدة للحياة. كتابه الأول خرائط المعنى هو الكتاب الذي يشمل كُل نظريات وآراء بيترسون والذي نشر من خلاله منهجيته الخاصة. لذلك من الأفضل أن نبدأ به: الكتاب يحتوي على حوالي 500 صفحة ممتلئة بالقصص الميثولوجية والكثير من الرسومات التوضيحية، ونُشر في عام 1999. وبالطبع قد وضع بيترسون تسجيًلا محاضراته وهو يشرح فيها الكتاب على طُلابه. سنحاول أن نختصر لكم ماذا يقول بيترسون في هذا الكتاب ونُحلله سوية! في بداية الكتاب يكتب بيترسون عن قصة نزول المسيح الى العالم السفلي The Harrowing of Hell: استنادًا على الإنجيل، فالمسيح بعد الصلب وقيامته، انتقل إلى العالم السفلي، هاوية الجحيم تحديدًا ويُسمى هذا المكان بـHades وهو مُختلف عن الجحيم: (فكل الأموات الهالكين يذهبون إلى هذا المكان منتظرين لمصيرهم). هنالك قابل المسيح تسعة أشخاص مؤمنين وأخذهم معه للأعلى حتى يكونوا جزءًا من العالم الجديد للمسيح ويشهدوا قيامته. من هذا الاستشهاد، نرى أن بيترسون يحاول استخدام الرمزية ليقول لنا شيئًا؛ بيترسون يُريد إنقاذنا من الجحيم! كيف؟ عن طريق إعادة إحياء الأساطير والميثولوجيا ودراستها لتُعطينا مفهوما أفضل وإنقاذ ذواتنا والمجتمع. فبعد بحث دام لخمسة عشر عامًا يزعم بيترسون أنه وجد الحل لمشكلة ضياع معنى الحياة والخِلافات الأخلاقية وقضايا العنف والهوية. بيترسون يرى أن البشر يتعلمون كيف يتصرفون أخلاقيًا عن طريق القصص التي تحتوي على "نماذج أولية" (مثل آدم وحواء، النبي عيسى، والأساطير الإغريقية) والتي تطورت على مدار تطور جنسنا البشري. وهو يرى أيضًا أنه من خلال دراسة الأساطير، يمكننا رؤية القيم والأطر المشتركة بين الثقافات، وبالتالي يمكننا فهم الهياكل والموجهات التي توجهنا. أي أن الرموز، والتقاليد، والأساطير توفر لنا نماذج أولية أصيلة وهي موجودة لصنع نمط أخلاقي حضاري ولإعطاء الأفراد معنى وغاية وقيمًا توجيهية وتنظيمية. بالنسبة لبيترسون فإن السبب الرئيس لوجود العُنف في مثال جماعة أوم شنريكيو هو لأن دولة اليابان أصبحت تُمجد الرأسمالية المُطلقة والصناعة والاستهلاك مقابل إزاحة مفاهيم الدين والثقافة والإمبراطورية التي كانت توفر للشعب المعنى والتوجيه. كُل هذا ليس سوى مجرد مُقدمة لكتاب خرائط المعنى. فبيترسون يرى أن العالم يتكون من شيئين أساسيين هما: الفوضى Chaos (المجهول) والنظام Order (القانون، السيادة الذكورية) وبأن البشر بقدرتهم على التفكير المُجرد يستطيعون أيضا صنع إقليمية مُجردة - Territoriality (أنظمة الاعتقاد التي تنظم مساحة عواطفنا وهذا بالمقابل من شأنه أن يتبعه محاولات عبثية وغير مفهومة لمواجهة الفوضى الداخلية التي يشعر بها الإنسان). "يُفضل الناس عمومًا أن تكون الحرب شيئًا خارجيًا، وليس داخليًا" الشخصيات البطولية, كما يصفهم بيترسون، هم أولئك الذين يطورون الثقافة والمجتمع كوسطاء بين هاتين القوتين الطبيعيتين. وبهذه الطريقة تتمثل أسطورة المجهول الأبدي فالعراف هو البطل الذي يذبح تنين الفوضى، مما يؤدي إلى النضج في مفهوم الفردية. يزود بيترسون كتابه برسوم توضيحية لما يقصده: هذا هو ملخص للأفكار التي يروج لها بيترسون في كتاب خرائط المعنى وهي أساس منهجياته: عليك العمل على قتل تنين الفوضى! والتعلم من أولئك الذي قتلوه من قبلك. "حين تواجه مشكلة تكون أمام خيارين: إما أن تواجهها بكامل وعيك أو أن تتخلص من هذا العبء وتتجاهلها. تستطيع التجاهل بأن تكون اتكاليا أو مدمن كحول وأن ترفض كونك بلغت الرشد وتظل تتصرف كالأطفال، أو تقوم باختيار الحل الأفضل وتعمل على توسيع مداركك وزيادة وعيك بالمشكلة لكي تحلها وتتجنب حصولها بالمستقبل." الحياة صعبة بطبيعتها . وما البديل الأفضل لكي لا تجعلها أسوأ سوى أن تختار الخيار الأصعب؟ أي أن تكون قادرا على تحمل المسؤولية، وأن تتقبل ما تحمله لك الفوضى من عبء. مثلًا: حين نفكر أن ننجب طفلا وفي قرارة أنفسنا لأن نتقبل الحِمل الذي يأتي معه. "أهم نصيحة يمكن أن تقدمها للشباب كي يتجاوزوا مرارة الحياة هي أن تقبلنا للعبء يكثف شعورنا بأن للحياة معنى. يعطينا قوة تزيد من قدرتنا على الخوض في الخيارات الصعبة واستخراج النظام من الفوضى. هذه القدرة هي المسؤولية." كتاب 12 قاعدة للحياة: "الأشخاص الذين يرون أن ثقافتنا هي نظام أبوي قمعي لا يريدون أن يعترفوا بأن التسلسل الهرمي الحالي يعتمد على الكفاءة" جوردان بيترسون لا يؤمن بأن التسلسلات الهرمية هي نتاج نظام ذكوري سياسي قمعي (مثل سيادة ذوي البشرة البيضاء)؛ الأمر بالنسبة له أن "البقاء للأقوى" أي أن الفرد عليه أن يعمل وينافس الآخرين من حوله ليكون أكثر نجاحًا وجاذبية بدل التباكي. أنت إما أن تكون "فاشلا" أو "ناجحا". لا شيء بينهما، ويقول أن الرتب والتسلسلات الهرمية أساسية وفطرية وموجودة منذ الأزل في جميع الكائنات الحية. ما هي حجة بيترسون التي يُبرر بها وجود التسلسلات الهرمية؟ إن بيترسون يضرب لنا مثالًا في الكركند! ويشرح لنا نظريته في كتابه الحديث "12 قاعدة للحياة" في قاعدته الأولى: 1- قف مستقيما وكتفيك للخلف. كائنات الكركند، مع اختلاف أماكن معيشتهم، فقد لوحظ أنهم يتنافسون ويتقاتلون فيما بينهم من أجل السيطرة على أفضل المواقع وأكثرها أمنا للاختباء ووجد العلماء أن هذه الصراعات التنافسية تؤدي لاختلاف نسبة الهرمونات في أدمغة كائنات الكركند! كيف ذلك؟ الأقوياء (أو كما يطلق عليهم بيترسون، الفائزون) ترتفع لديهم نسبة هرمون السيروتونين (مادة كيميائية في الدماغ ترتبط غالباً بمشاعر السعادة)، وبالمقابل، كلما ازدادت هزائم الكركند، كلما انخفض مستوى السيروتونين. وهذا الهرمون يظهر بوضوح على هيئة الكركند نفسه. فالكركند ذو الهرمون العالي في السيروتونين، يبدو أكثر مرونة واستقامة، بينما الأضعف (الخاسرون) يظهر بصورة متوترة ويبدو منطويًا على ذاته. ما الذي يحاول قوله هُنا؟ بيترسون يحاول القول أن التسلسل الهرمي مفهوم مشترك في المجتمعات البشرية والحيوانية وأنه موجود منذ الأزل، ولكي تتسلق هذا الهرم وتعطي انطباعا عن ثقتك؛ قف باستقامة وثبات، مثل الكركند! أي بكل بساطة، إن الرجل الناجح (اجتماعيًا ومهنيًا) بطبيعة الحال هو الشخص الذي سيفوز بأجمل النساء وبأفضل المناصب ويصعد بذلك لقمة الهرم التسلسلي، والعكس كذلك بالنسبة لأولئك الأقل نجاحًا. لذا يقول توقف عن التباكي واعمل على نفسك بدل لوم بنيات المجتمع. "كن قويًا واسترجل، يا ابن عرس!" والآن، لنحلل معًا، هل يستحق جوردان بيترسون أن يحظى بلقب فيلسوف؟ نقد لأفكار بيترسون في الأخلاق والمنطق: في كتاب خرائط المعنى: هل فعلًا النماذج الأولية للإنسان والطبيعة الأم أمران كفيلان بأن يقودا البشر أخلاقيًا؟ خصوصًا أن الكثير من النماذج الأولية كانت تتبع مزايا تكيفية مع الحياة والكثير مما نعتبره أخلاقيًا الآن يقف خارج مفهوم "التطور والبقاء للأقوى" على سبيل المثال: رعاية المعاقين والمرضى. فما هو مقدار الإلهام الذي يجب علينا أن نستخلصه من القدماء؟ ألا يفترض علينا أن نتقدم؟ والأهم من هذا كُله، ما المقصود بالضبط بهذهِ الرسومات؟ فكما بإمكانكم ملاحظته، الرسومات التي تبدو معقدة في الوهلة الأولى: توضح أن مشاعر"الأمل، السعادة.." تدخل في نطاق "ما يجب أن يكون داخل المستقبل". هل يحتاج الأمر إلى هذه الرسومات التوضيحية للشرح؟ وما الذي يقصده بيترسون بتنين الفوضى؟ هل يقصد بها رغباتنا أم أنه مخلوقًا اخترعه بيترسون؟ بيترسون ونظرية الكركند ومخالفته للعلم الحديث: اختيار بيترسون للكركند بالذات ليقول لنا أن التسلسل الهرمي والهيمنة الذكورية موجودة في الطبيعة منذ الأزل، هو اختيار انتقائي جدًا! إذا كانت هذهِ طريقته في محاولة لدعم ادعاءاته، فشخصٌ آخر بإمكانه استخدام حيوان فرس البحر كمثال لتفوق الأنثى، ففي مجتمع فرس البحر الذكر هو الذي يهتم برعاية الصغار. وبإمكاننا أيضًا أن نختار مجتمع النمل الذي يحمل نظامًا اجتماعيا عادلا، حيث جميع أفراده متساوون في الحقوق! إن هذا النقد هو أكثر ما يعيق آراء بيترسون، فهو يتسم باستخدام أسلوب الإنتقائية (Cherry Picking)؛ أي أنه يختار ما يريده من النماذج ليستخدم منها حجج منطقية تدعم ادعاءاته بينما ثمة آلاف النماذج المعاكسة! بيترسون، أيضًا، لا يهتم كثيرًا إن خالفت نظرياته الِعلم الحديث! ففي الحقيقة أن أجهزتنا العصبية مُختلفة تمامًا عن الكركند ولا يمكن أن نقارن تأثير هرمون السيروتونين على الكركند بتأثيره على البشر أو غيرهم من الكائنات. ليس هذا فقط، فتأثير السيروتونين يختلف تأثيره من عضوٍ لآخر، فعلى سبيل المثال؛ يُنتج ويُستخدم معظم السيروتونين في الأمعاء للمساعدة في الهضم! ومن ناحية علمية تطورية، يزعم بيترسون أن البشر والكركند تباعدوا منذ 350 مليون عام، وهو مجرد مثال على جهله في البيولوجيا التطورية: فعلى الرغم من أن أسلاف الكركند ظهروا قبل حوالي 350 مليون عام ، إلا أنهم كائنات لافقارية، بينما البشر من الفقاريات، وقد تباعدت هذه المجموعات على شجرة التكاثر منذ نصف مليار سنة على الأقل! إذًا، كيف جعل جوردان بيترسون من نفسه شخصا عبقريًا وذكيًا؟ جوردان بيترسون يكتب ويتحدث بطريقة غير واضحة (فهو لا يقول بطريقة مباشرة ماذا يقصد، ولكنه يُلمح له)، لذلك عندما يحاول أحدهم أن ينتقد أفكاره، يُغير بيترسون رأيه ويصرخ بإهانة مُبالغ فيها مجاوبًا: "هذا ليس ما أقصده! لم أقل ذلك! اقرأ المزيد!" بيترسون هنا يستخدم أسلوب الغموض المٌتعمد (Obscurantism) في حديثه وكتاباته، وهو تكتيك معروف لإغراء القراء باحترام سُلطة الكاتب، فلا يمكن لأحد أن يتأكد من فهمه لمعنى المؤلف. *الكثير من الفلاسفة الفرنسيين استخدموا هذا الأسلوب وأشهرهم ميشيل فوكو. لكن فوكو دافع عن نفسه وقال أن الفرنسيون يُحبون الغموض وأنه لم يستخدم الغموض ليبتعد عن تقديم الحجج المنطقية. مُجددًا، هل نستطيع القول أن جوردان بيترسون فيلسوف؟ حسنًا لنأخذ شروط الفلسفة عند جيل دولوز؛ هل نجح بيترسون بتكوين الشخصية المفاهيمية؟ جوردان يعرف أنه من أجل أن يكون فيلسوفًا، عليه أن يخترع مفاهيمة الخاصة، وقد حاول بيترسون فعل ذلك واخترع مصطلحين: الأول: فرض الزواج الأحادي (Enforced Monogamy) لأن بيترسون مهتم بقضايا الرجال، فمن مشاكل الرجال في المجتمع الحديث هي رفض النساء الزواج بهم أو رفض النساء لإقامة علاقة معهم، وهذا الرفض يصنع من الرجال عازبين لاطوعيين ويؤدي بهم للتوجه نحو العنف. ولحل هذه المشكلة اخترع بيترسون مصطلح: "فرض الزواج الأحادي".ما معنى هذه الجملة الطويلة؟ يقصد بها أن يكون الزواج هو أساس العلاقات. بالطبع كان بإمكان بيترسون قول كلمة زواج فقط لكنه قرر الحشو واستخدام الغموض ليخترع مفهوما جديدا، ولكنه فشل في ذلك. لنشاهد مقابلته مع جو روغان وكيف فشل بيترسون بالدفاع عن مصطلحه: الثاني: ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة (Postmodernism Neo-Marxism): أي شخص يخالف آراء بيترسون، يصفه بيترسون بأنه يتبع "ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة". ما معنى ذلك؟ لا أحد يعرف، حتى بيترسون لا يعرف ذلك! *وبالمناسبة، فلسفيًا، الماركسية هي في الأساس نظرية حداثية وهي تصف عدم المساواة الاقتصادي والصراع الطبقي في خلق أحداث التاريخ. لكن ما بعد الحداثة تشكك في هذه المنهجيات حيث تقف ضد المفاهيم التي تؤكد الحقيقة الكاملة ويجادل فلاسفة ما بعد الحداثة عمومًا أن الحقيقة تتوقف دائمًا على السياق التاريخي والاجتماعي بدلاً من كونها أمرًا مقرورًا به وأن الحقيقة دائمًا ما تكون جزئية و "موضع جدل" بدلاً من كونها كاملة ومؤكدة. لذلك، لايمكن أن تجتمع ما بعد الحداثة بالماركسية، لأن ما بعد الحداثة تُشكك في الماركسية! سلافوي جيجك يسأل بيترسون، ماذا يقصد بهذا المفهوم؟ طلب جوردان بيترسون من سلافوي جيجك أن يُناظره ليتحداه أن الرأسمالية والتسلسلات الهرمية هي أشياء إيجايبة وتجلب الخير للمجتمع وكان اسم المناظرة (السعادة: الرأسمالية مقابل الماركسية). الاثنان امتلكا الوقت الكافي لدراسة بعضهما البعض، ومع ذلك بيترسون قدم إلى المحاضرة وهو لم يقرأ سوى الكتاب الأقصر لكارل ماركس (البيان الشيوعي - The Communist Manifesto)، وكانت المناظرة سيئة جدًا لبيترسون لأنه لم يبدو أنه يعرف ماذا يقول أو عن ماذا يتحدث! وبالطبع سأل جيجك بيترسون عن معنى "ما بعد الحداثة الماركسية الجديدة": إذن، هل إستطاع جوردان بيترسون أن يُكوّن الشخصية المفاهيمية؟ لا، بيترسون يعرف أنه يحتاج لتكوين هذهِ الشخصية ولكنه لم ينجح! هل أظهر انضباطا، وصرامة؛ لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه؟ جوردان بيترسون يستخدم أسلوب الغموض حتى لا يقع في موضع النقد، وكثيرا ما يهرب من الجواب المباشر لأسئلة الجماهير. لذلك هو لا يظهر أي صرامة حتى بأن يكون حقيقًيا. أخيرًا، هل نستطيع القول أن جوردان بيترسون فيلسوف؟ قبل أن يتسمم جوردان بيترسون بجرعات الشهرة، كان يقدم وجهات نظر رائعة (من ناحية تربوية ونفسية) حول مفاهيم الأخلاق التقليدية والرجولة ومعنى العمل. لا شك أن هذهِ الرسائل هي رسائل إيجايبة ويحتاجها الجميع، وربما في هذا الوقت أكثر من ذي قبل. بيترسون نجح أن يجعل من الرجولة ومفهوم العائلة والارتباط والعمل تبدو كأعمال نبيلة في وقتٍ أصبح فيه الأغلب يُمجد التخلي والفردانية، ونجح أيضا بأن يجعل الإدمان وكثرة الشرب والعيش من دون وعي أن تبدو كأعمال جبانة ووضيعة تُساعد الشبان بالهروب من الواقع. جوردان بيترسون، بلا شك، غيّر حياة الكثير للأفضل من ناحية نفسية. لكن، بعد شهرته، اتخذ بيترسون اتجاهًا سياسيًا وفلسفيًا لمفاهيمه، وهنا برأيي فشل. لأن أغلب مفاهيم بيترسون لا تخرج من نِطاق أسلوب الحياة والتفكير، لذا عندما حاول أن يقحم مفاهيمه سياسيًا وفلسفيًا، أصبح الضغط يكمن في أن يُثبت بيترسون أنه "على حق" وأن عليه أن يختار حزبًا ما ليدافع عنه، فخرج لنا بيترسون بنظرية الكركند السخيفة ليدافع عن حزب اليمين، وطار بِه الغرور أن يطلب مقابلة سلافوي جيجك، أذكى فيلسوف نعرفه حتى الآن، ليثبت له أن الرأسمالية هي الأفضل! وفي المرتين فشل، وهو بالتأكيد لا يمكن أن يكون فيلسوفًا؛ إذ يستخدم الانتقائية والغموض لدعم ادعاءاته. وكما هو واضح أنه يفتقر لفهم علم المنطق والسياسة والبيولوجيا وحتى الفلسفة! لكن السؤال، هل أصبح جوردان بيترسون بهذهِ الشهرة لافتقارنا الشديد لقدوة تعيد فينا الأمل بالرجولة وبمفهوم العائلة مُجددًا؟ سلافوي جيجك سلافوي جيجك (1949)، من سلوفينيا.قدم مساهمات في النظريات السياسية، ونظرية التحليل النفسي والسينما، وكتب حول العديد من المواضيع مثل: الأيديولوجيا، والشيوعية، وحقوق الإنسان، والثورة، والسينما، والدين. جيجك لا يتوقف عن الحديث وحتى عندما يتعلق الأمر في الكتابة فهو قد طبع حتى الآن أكثر من 70 كتابا! وُصف بأنه أخطر فيلسوف سياسي في الغرب. جيجك لا يقتبس فقط الفلسفات القديمة لنا، بل هو يتفلسف أمامنا ويتعرى من خوفه بأن يبدو مُضحكًا أو غبيًا أو عبقريًا حد الجنون، ويتحدث -دون توقف- عن الفلسفة والفن والسياسة والثقافات مستخدمًا الكثير من الاستعارات والتشبيهات والمقارنات والسخرية والنقد؛ حتى أن البعض يسند له اختراع كلمة idiosyncratic لوصف غزارة حديثه وكثرة تنقله بين الموضوعات. متأثرا بـ: هيغل، جاك لاكان،و كارل ماركس. ما أفكار سلافوي جيجك؟ سلافوي جيجك ينتمي لحزب اليسار، وهو مدافع شرس عن الشيوعية ويعتبره الكثير بأنه نيو-ماركسي (مُهتم بدراسة وتوسيع النظرية الماركسية،عن طريق دمج عناصر من تقاليد فكرية أخرى مثل النظرية النقدية أو التحليل النفسي أو الوجودية أو من خلال هيغل ولاكان). ومن أبرز أفكار ومفاهيم جيجك هو مفهوم الإيديولوجيا، فهي اللحن الأساسي الذي يسري في أغلب أعماله، وقد حاول أن يُعبر عنها بشتى الطرق في كتاباته ومقالاته. وبالرغم من صعوبة استعراض مفهوم الإيدولوجيا لدى جيجك، لكننا سنحاول أن نكشف الغطاء عنها. ففي كتاب الأيديولوجيا الألمانية - لـ كارل ماركس وفريدريك إنجلز، وُصفت الإيديولوجيا بأنها: “إن أفكار الطبقة السائدة في كل عصر هي الأفكار السائدة أيضا، بمعنى أن الطبقة التي تمثل القوة المادية في المجتمع هي في الوقت ذاته القوة الفكرية السائدة. إن الطبقة التى تتصرف بوسائط الإنتاج المادي تملك في الوقت ذاته الإشراف على وسائل الإنتاج الفكري، بحيث أن أفكار أولئك الذين يفتقرون إلى وسائل الإنتاج الفكري تخضع من جراء ذلك لهذه الطبقة السائدة" إذًا، فإن الأيديولوجيا، كما يراها ماركس وإنجلز، هي الأفكار الزائفة عن الواقع والحقيقة ولكن لأنها تعكس مصالح لطبقات معينة من المجتمع فهي تنتهي بأن تُصبح عاملاً مُهمًا للوجود الإنساني. بهذه الطريقة جعلت الأيديولوجيا الوعي مزيفا. كما نرى أن الأيديولوجيات فى نظر ماركس هي ليست سوى انعكاسات مفروضة على المجتمع من قِبل قوى أخرى متحكمة (الطبقات الغنية) وهي تؤدي المهمة الأساسية فى إحداث أى تغيير اجتماعي حقيقي. على عكس كارل ماركس، جيجك لا يرى أن الإيديولوجيا مفروضة علينا من قِبل قوى معينة في المجتمع؛ فهي بالنسبة له تُمثل علاقتنا التلقائية مع العالم، فكل شخص مؤدلج بالضرورة. يقول جيجك، أيضًا، أننا نستمتع حتى بهذه الإيديولوجيا، لأن محاولة الخروج منها عملية مؤلمة. يشرح لنا رؤيته عبر فيلم They Live: يضرب لنا جيجك الكثير من الأمثلة على استمتاعنا بالايديولوجيا في حياتنا اليومية: "عندما يجعلوننا نشاهد أطفالًا جياعا في أفريقيا، طالبين منا أن نساعدهم، فإن الرسالة الإيديولوجية الخفية هي شيء أشبه بـ: لا تفكر، لا تُسيس الأمر، انسى الحقيقة التي تسببت في المجاعة، فقط تحرك وادعم بمالك كيلا تحتاج أن تُفكر بالأمر" الإيديولوجيا موجودة في كل مكان، في المطاعم وفي الأفلام وفي حياتنا اليومية. يقول جيجك أننا لو أزلنا هذهِ الأفكار، لما عرفنا ماذا نُريد حقًا؛ ولذلك فإن أهمية الفلسفة تكمن في طرح الأسئلة الصحيحة كونها محاولة للتحرر. وهذا هو أسلوب جيجك الدائم، فهو لا يُعطينا إجابات، بقدر ما يعطينا أسئلة! "لم تكن السعادة يومًا مُهمة على الإطلاق. المشكلة أننا لا نعرف ما نريده حقًا. ما يجعلنا سعداء هو عدم الحصول على ما نريد، وأن نحلم به. السعادة هي للانتهازيين. لذلك أعتقد أن الحياة الوحيدة ذات الرضا العميق هي حياة الصراع الأبدي، خاصة ذلك النضال مع النفس. إذا كنت تريد أن تظل سعيدًا، فما عليك سوى أن تظل غبيًا. فأسياد الحقيقة ليسوا سعداء أبدًا؛ السعادة هي تصنيف للعبيد" عندما يتعلق الأمر بالفلسفة: جيجك يقول أن أكثر القضايا توترًا في الفلسفة المُعاصرة هي قضية الدور المُتبقي للفلسفة؛ لأن كل الأسئلة الفلسفية الكبرى، تلك التي كانت يومًا خارج سياق العلم، مثل: "هل نملك حرية الإرادة؟ هل هذا الكون قديم أم حديث؟" أصبح العلم اليوم هو الذي يتعامل معها ويجاوب عليها، مثلًا: علم الأعصاب وعلم الإدراك هما الذي يجاوبون على سؤال حرية الإرادة، وعلم الكونيات هو الذي يُجيب على إن كان عالمنا قديمًا أم حديثًا. لكن، جيجك لا يرى الأمور بهذهِ البساطة؛ فالتجربة الإنسانية أكثر تعقيدًا من ذلك، ومن الخطاً أن نصور "الإنسان مقابل الطبيعة" أو "الإنسان مقابل العلم"، وأنه من المهم لنا أن نرى الأمور بصورة تأويلية، فنحن البشر لا يمكننا أن نُقارب الطبيعة مقاربة خامة، أي أن كل مقارباتنا لها محددة ضمن فهمنا للطبيعة. على سبيل المثال، يستخدم هنا منهجية هنا ميشيل فوكو: لو سألت ميشيل فوكو؛ "هل نحن البشر أحرار؟" فهو سيرفض الجواب على هذا السؤال لسذاجته. وسيقول "لا يهم ما هي الإجابة على ذلك!" لكن طرحنا لهذا السؤال، يعني أننا ضمن نظام معرفي معين. وهذا السؤال يفترض مُسبقًا مقاربة معينة للواقع، إذ ينبغي على الواقع أن يكون سلسلة من الأسباب والمُسببات بكل بساطة. ومن ثم يقتبس جيجك مارتن هايدغر فيما يتعلق بانكشاف الكينونة وكيفية ظهور الأشياء لنا وأنه لا يمكننا أن نخرج منها ونسأل: "كيف تبدو الأشياء في الواقع؟" لأن تبدّي الأشياء في الواقع يظهر دائمًا ضمن أفق فهم مُعين. "أعتقد أن مهمة الفلسفة ليست تقديم إجابات، ولكن إظهار كيف أن الطريقة التي نتصور بها المشكلة يمكن أن تكون بحد ذاتها جزءًا من مشكلة." ما آراء سلافوي جيجك في الرأسمالية؟ عندما يتعلق الأمر بالرأسمالية، فإن جيجك يناقش فلسفته من خلال نظرية فرانسيس فوكوياما وأُطْروحَتهُ السياسية التي تناولها في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير-The End of History and the Last Man)، حيث يقول فوكوياما أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة بقِيَمها عن الحرية، والفردية، والمساواة، والسيادة الشعبية، ومبادئ الليبرالية الاقتصادية، وصلت إلى النهاية في التطور الأيديولوجي للإنسان، وأن نهاية التاريخ تعني أن الديمقراطية الليبرالية هي المرحلة أو الهيكل النهائي للحكومة لجميع الأمم، ولا يمكن أن يكون هناك تقدم من الديمقراطية الليبرالية إلى نظام بديل. ببساطة, نظرية فوكوياما تقول أن كل النسخ الاقتصادية والنظامية قد طُبقت، وأننا الآن نتعلم أن الرأسمالية الليبرالية الديمقراطية إن لم تكن الأفضل فهي على الأقل الأقل سوءًا، ولذلك يجب علينا تقبلها. وبالرغم من أن جيجك هو شيوعي يساري، إلا أنه ليس من المنتقدين المندفعين للرأسمالية، فهو يعرف إيجابياتها جيدًا، ويعترف بأن الرأسمالية نظام جنوني وفعال، وأن الرأسمالي المثالي هو شخص مُستعد أن يرهن حياته للمخاطرة لزيادة الإنتاج وتدوير المال. لكنه لا يتفق مع النظرية الفوكويامية التي تقول لنا أن علينا تقبل الرأسمالية كما هي فهو يرى أن الرأسمالية تحمل الكثير من المشاكل التي تحتاج لحل جذري وإلا فسوف تنهار. مشاكل الرأسمالية بالنسبة لجيجك تكمن في: البيئة والتلوث. الموارد المالية. الملكية الفكرية (وهي شيوعية بطبيعتها، ولا يمكن أن تصبح ربحية خاصة) النشوء الحيوي. وهم الحرية الذي تصنعه الرأسمالية. وغير ذلك كثير. جيجك لا يرى أنه بإمكاننا حل هذه المشاكل في ظل النظام الرأسمالي. وإن كانت المقولة الماركسية الشهيرة تقول: "الفلاسفة انشغلوا بتفسير العالم، آن الأوان لتغييره" جيجك، بالمقابل يقول: "في القرن العشرين، ربما حاولنا أن نُغير العالم بسرعة شديدة، وقد حان الأوان لتفسيره مرة أخرى، فلنبدأ التفكير" التدريب الأخير الآن، هل نستطيع القول أن سلافوي جيجك فيلسوفًا؟ - خلق مفاهيمه الخاصة. طبعًا، نعم! فجيجك لم يخلق أو يخترع مفهوم الإيدولوجيا، لكنه بالتأكيد أعاد صياغته بطريقته الخاصة وقلب معنى هذه الكلمة القصيرة ليجعلها تتغير وفق منهجيته الخاصة. - انضباطًا، وصرامة؛ لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه. نعم، أيضًا! الإيدولوجيا أصبحت كلمة ومفهوما ومثالًا متلازمًا لكل مايقوله جيجك! فهو يري العالم من خلال المحاولة الدائمة بالتحرر من الإيدولوجيا واللآفكار المسبقة ونقدها. - التعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه، وكُتبه، وتعليمه. نعم، بالتأكيد جيجك يملك حوالي 70 كتابا، وعشرات المقالات، والكثير من المقابلات التي يتناول فيها مواضيع المجتمع والفكر. ففي مقابلاته يشارك رأيه بغريتا تونبرغ، وبفيلم الجوكر ودونالد ترمب وغيرها من المواضيع الشيقة، فهو قريب من كل المواضيع السياسية والاجتماعية. إذن، سلافوي جيجك بلا شك هو الفيلسوف الحقيقي الذي نملكه الآن: ليس فقط لأنه التزم بشروط فكرية معينة، فحتى روحه وشخصيته تحمل أبعادا فلسفية بحته؛ على سبيل المثال، جيجك يكره أن ينادى بدكتور أو أستاذ فهو لا يحبذ الألقاب، وهو ينكر امتلاكه للحقائق الكاملة، بل يعزز فكرة أنه لايعرف شيئًا وأنه موجود لينقد ويدرس ويبحث ويكتشف الاحتمالات؛ تمامًا مثل سقراط. مراجع: Alain de Botton: Atheism 2.0 | TED Talk. I was Jordan Peterson’s strongest supporter. Now I think he’s dangerous by BERNARD SCHIFF. THE INTELLECTUAL WE DESERVE by NATHAN J. ROBINSON. 2017 Maps of Meaning 01-12. Jordan Peterson needs to reconsider the lobster by Bailey Steinworth. Psychologist Jordan Peterson says lobsters help to explain why human hierarchies exist – do they? by Leonor Gonçalves. Jordan Peterson, Custodian of the Patriarchy by Nellie Bowles. First As Tragedy, Then As Farce Book by Slavoj Žižek. Slavoj Žižek: Don't Act. Just Think.

  • فلسفة 101: ما هي الفلسفة ببساطة؟

    أن تسمع فقط ما تُرد سماعه، وأن تُحيط نفسك فقط بمن تُريدهم حولك، وأن لا تقرأ إلا ما يعنيك وأن لا تعرف إلا من يُشبهك تاركًا خلفك ما يُعكر مزاجك لتبني جدران وهمية تحميك. أليس هذا كُله حالة من الجمود الفكري؟ هذه الحالة من الجمود الفكري والتعصب لأفكار خاصة تُسمى بالـ(الدوغمائية). لكن الحديث هُنا لن يكون عن هذهِ الحالة، بل عن كيفية هدمها وبناء تفكير حُر وناقد بدل عنها مُستخدمين الفلسفة منهجًا لذلك. ما معنى الفلسفة؟ وما الذي يجعلها مختلفة عن الدراسات الأخرى؟ نستطيع البدء بالقول إن كلمة "فلسفة" أتت من اللغة اليونانية ومعناها (حُب الحكمة). لكن هل يُمكننا القول إن أي شخص لديه حب للحكمة هو بالمُقابل فيلسوف؟ إذا نظرنا إلى أولئك الذين حصلوا على لقب فيلسوف على مر العصور سنلاحظ أنّهم مفكرون عميقون ومحبون للخير، وبعضهم الآخر أشرار وفاسدون ومتشائمون! ما الذي يربط بينهم؟ ومتى نُصنّف الشخص بأنه فيلسوف؟ وأخيرًا، لماذا أصبح مفهوم الفلسفة بهذا الشمول؟! أساسيات الفلسفة 101: دراسة دقيقة عن معنى الفلسفة ومعاييرها الخاصة. لو أخذنا التعريف الأشهر للفلسفة وهو: "البحث عن الحقيقة بِاستعمال المنطق وحده"، فما نفهمهُ هو أن الفلسفة هي رحلة بحث مُستمرة غايتها الوصول إلى الحقيقة باستخدام الحجج والأدلّة المنطقية. قد يكون السجلّ التاريخي الأول لِعلم المنطق موجودًا في كتابِ أرسطو (أورغانون) والذي يعني الآلة، لأن المنطق عند أرسطو هو «آلة العلم» والوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحقيقة. لكن ما زال هذا التعريف شاملًا جدًا. هل أي شخص يقدّم فكرة عن كيفية عيش الحياة هو فيلسوف؟ وهل تندرج كل فكرة منطقية تحت سياق الفلسفة؟ وما الفرق إذاً بين أن تكون حكيمًا أو أن تكون مُفكرًا أو أن تكون فيلسوفًا؟ والسؤال الأهم مِن هذا كله، ما الغاية من الفلسفة؟ حتى نستطيع أن نجيب على هذِه الأسئلة؛ اخترنا كتابًا يساعدنا على فهم الفلسفة أكثر، الكتاب اسمه: ما هي الفلسفة؟ للكاتب والفيلسوف الفرنسي: جيل دولوز (Gilles Deleuze). في هذا الكتاب يقدّم دولوز شرحًا أدق. فبدايةً، يشرح لنا دولوز من أين ابتدأت الفلسفة وما الفرق بين الحكمة والفلسفة؛ ففي في أغلب الحضارات كانت المجتمعات تحترم وتنصت إلى الحُكماء إذ في كل ثقافة وحضارة أسماء كُتبت في التاريخ لحِكمتها. كان لدى الإغريق أيضًا الكثير من الحُكماء، لكنّهم ظنّوا أن الحكيم يُعامل وكأنهُ إله وبأنه المصدر الوحيد للحقيقة ونتيجة لذلك، تولّد نموذجٌ آخر للمعرفة وهو ما نسميه الآن بالفيلسوف. على عكس الحكيم، الفيلسوف هو الشخص الباحث عن الحِكمة والذي يقترب مِنها ولكنّه في نهاية المطاف، يعرف أنّهُ لا يستطيع الوصول إليها. فإذا كان الحكيم هو المصدر الوحيد للحكمة والمولود بهذه الصفة، فالفيلسوف هو الشخص الباحث عن الحكمة، لكنّه بالمقابل يعرف أنّه لا يمتلكها. انولدت الفلسفة ليس لاحتكار الحقيقة، بل من أجل البحث الدائم عنها في شتّى المجالات، والغاية الأساسية مِنها هي تحسين ومعرفة فنّ العيش. إذ أن الفلاسفة كانوا يتحدثون ويناقشون (مستخدمين المنطق والحِجج) معنى العدالة وكيف يمكن تحقيقها ويتسائلون عن معنى الخير والشر وكيف يُكوّن البشر المعيار لكلٍ منهم. كانت هذهِ بداية الفلسفة وولادتها. وبعدها انتشرت العلوم الفلسفية في أرجاء العالم وتفرعت إلى مدارس كثيرة ومختلفة، مثل: الفلسفة الوجودية، والعدمية، والعبثية، والفلسفة الميتافيزيقة، والرواقية… وغيرها الكثير حتى بات تعريف الفلسفة صعب التحديد. دولوز يعيد تعريف الفلسفة: “الفلسفة هي فنّ تركيب، وابتكار، وصنع المفاهيم" هذا هو تعريف دولوز للفلسفة، ومن هذا المُنطلق نرى أن المفاهيم تحتاج إلى شخص ما ليُركبها ويصنعها. وبالنسبة إلى دولوز، فإنّ هذا الشخص (الفيلسوف) يجب عليه أن يتحلى بما يُسميه "الشخصية المفاهيمية". “الفيلسوف هو الصديق المُقرّب للمفهوم، وهو التصوّر الحيّ لهذا المفهوم” أي أنّ الفلسفة ليست مجرد فنّ لتركيب أو اختراع أو اختلاق المفاهيم؛ لأن المفاهيم ليست بالضرورة تركيبات أو اكتشافات أو منتجات. إنما هي انضباطِ ينطوي على خلق المفاهيم. ويتابع ديلوز: "ماذا ستكون قيمة الفيلسوف إذا لم يخلق مفاهيمه الخاصة؟ “ دعونا نعطي أمثلة على كل هذا من أجل نفهم أكثر. دولوز يقول أن الفيلسوف يجب أن يمتلك: مفاهيمه الخاصة. انضباط وصرامة لأن يكون المثال الحيّ لمفاهيمه. التعبير عن هذهِ المفاهيم في شخصه وكُتبه وتعليمه. ويقول أيضًا أن مصير الفيلسوف هو أن يُصبح هو المفهوم (concept) نفسه. فالفيلسوف الحقيقي يعيش في فلسفته ومن أجل فلسفته. وكل فيلسوف يُعبِّر ويرمز إلى مفاهيمه الخاصة مثل: أفلاطون ونظرية الكهف، نيتشه ومفهوم الإنسان الأعلى، وسارتر والإيمان الخاطئ. لنستخدم مثالًا لشخصٍ ألتزم بهذهِ المعايير: المهاتما غاندي. إحدى فلسفات غاندي تتمثل في المقاومة دون استخدام العنف، واسم هذا المفهوم الذي ابتكره هو (الساتياگراها) ومعناه (الإصرار على الحق أو قوة الحق). وهي فلسفة ترُكز على المقاومة اللاعنفية وجعلها وسيلة لتحقيق الإصلاح الاجتماعي والسياسي. ابتدعها غاندي وطبقّها في جنوب أفريقيا أولاً، ثم في الهند نفسها ابتداءً من 1917 م. غاندي إذاً: ابتكر هذا المفهوم وأعطاهُ اسمًا. أصرَّ على الاستمرار في مبدأ المقاومة برغم التهديدات. قضى طيلة حياته مُطبقًا لهذا المفهوم حتى أصبح هو التصوّر الحيّ لفلسفة المقاومة المحايدة واللاعنف. مما جعله ينجح في تكوين الشخصية المفاهيمية (التي تعيش وفق مفاهيمها) وانضباطه في تكوين هذه الشخصية والتفكّر الدائم بها جعل منها فلسفة خاصة! هل الفلسفة تبحث عن الحقيقة أم عن الاحتمالات؟ لنجيب عن هذا السؤال، دعونا نبدأ بإحدى أشهر مقولات سقراط: “كُلّ ما أعرفه والشيء الوحيد المُتيقن منه هوَ أني لا أعرف شيئا” لذا من الأفضل لنا أن نقول إن الفلسفة هي فنّ التّبحر في اكتشاف الاحتمالات الموجودة، والتي لم تُخلق بعد، وأن الفلسفة تُبنى على احترام العلم وليس على الفائض منه. ولذلك من أهم الأنشطة الفلسفية هي: المحاورات، والمُناظرات، ودعوة فيلسوفان أو أكثر (ذوي مفاهيم مُختلفة عن الأخرى) وحثّهما على مناقشة مفاهيمهما. مثال: أن نحضر مناظرة بين فيلسوف يتبنّى النظرية الرأسمالية وآخر الشيوعية وجعلهما يتحدثون عن أي نظام اقتصادي هو الأنفع للبشر والاقتصاد. ولهذا فالفلسفة مُهمةٌ جدًا فهي تُعلمنا أن نتواضع أمام العلم الذي نحمله وأن نبحث دائمًا عن احتمالٍ آخر ومن أفضل ما تُعلمنا إياه هو العيش بوعي، وأن نُصنف الأشياء وأن نُعطيها معنى وتعريفًا ودراسة. الفلسفة تهدم، بذلك، الدوغمائية وتُساعدنا بأن نعيش بوعي وإدراك لما تحملهُ ذواتنا وما حولنا.

  • رواية صاحب الظل الطويل، لماذا يجب ان تقرأها؟

    صاحب الظل الطويل، تلك الرواية التي لن أنفك عن اعتبارها أقرب القصص إلى قلبي. الروايات التي تتمحور حول شخصيةٍ تترعرع في دار الأيتام (أو أي بيئة قاسية) ومن ثُم تتصاعد الأحداث والتجارب عليها خلال فترة نموها لحين وصولها إلى نضجٍ أخلاقي وشخصي تُسمى بروايات التشكيل (Bildungsroman). هذا النوع من الروايات يخلق للقارئ تجربة خوض رحلة سيرة ذاتية لتكوين شخصية بطل القصة مُنذ البداية (مرحلة اللا نضج) إلى مرحلة بلوغ النُضج الكامل (حسب وجهة نظر الكاتب) من خلال تتبع أسباب وأحداث وصراعات مجتمعية وداخلية قادت إلى نضج الشخصية ويجعلنا نفهمها ونغوص في أعماقها. ديفيد كوبرفيلد، والحارس في حقل الشوفان، وستونر، وجين إير… كُلها تندرج ضمن هذا النوع من الروايات. لكن هنالك الكثير من المقالات التحليلية التي كُتبت عن هذهِ الكُتب وكُلها تعتبر من أعمدة الروايات الكلاسيكية التي أُخذت على محمل الجد على مر الأعوام. هُنا لا أريد أن أكتب عن أي من هذهِ الكتب. أُريد هُنا أن أكتب عن رواية ضاعت بين هذهِ الأسماء الكبيرة وأن أتناولها من منظورٍ آخر، منظورٍ أعمق من كونها قصة قصيرة تحولت لرسوم كرتونية ورأيناها في التسعينات. صاحب الظل الطويل أو أبي طويل الساقين هي رواية رسائلية صدرت عام 1912 للكاتبة الأميركية جين ويبستر. تدور قصة الرواية حول فتاة يتيمة نشأت في ملجأ اسمها "جودي أبوت"، تكتب رسائل إلى ولي أمرها الرجل الغني الذي لم تلتقي به. هل تذكرون رسومها المُتحركة؟! الرسوم المتحركة التي تم الاستناد عليها من الرواية ربما لم تشد الكثير من المُشاهدين من صِغار السِن الباحثين عن الإثارة السريعة، فالقصة غير تقليدية من عدة نواحي -سنتطرق لذلك-. القصة تتمحور حول جيروشا أبوت (أو كما تُحب أن يُطلق عليها جودي أبوت) وتطوير شخصيتها خلال سكنها في دارٍ للأيتام حيث تعتمد ظروف معيشتهم على التبرعات بشكلٍ كامل، وبالتالي -كون جودي معتمدة على الإعانة المادية من الآخرين- لم يكُن هذا سهلًا لها لتصل إلى استقلالية مادية ومعنوية من دون الاعتماد على الآخرين. الكاتبة سردت لنا قصة جودي أبوت منذُ دخولها الكلية كفتاة غير متعلمة من الميتم القاسي التي كانت تعيش فيه، حتى تخرجها بعد ٤ سنوات كفتاة ناضجة ومستقلة بكل احترافية. هي أيضًا وضحت لنا بطريقة ذكية وغير مباشرة كيف تغيرت أفكار جودي الصغيرة ومفاهيمها الأخلاقية والعاطفية وحتى السياسية عبر السنين بدون المساس بأصل شخصية جودي المندفعة والشقية والذكية وأخيرًا صاحبة الكبرياء الأقرب للعناد. دعونا نتكلم عن الرواية بطريقةِ أعمق: في البداية، إن ترتيب وسرد القصة مختلفٌ نوعا ما عن باقي الروايات، بحيث أنها لا تتبع الشكل المُعتاد للكتابة. فالكتاب عبارة عن رسائل كتبتها جودي بشكل شهري خلال السنوات التي قضتها في الكلية لصاحب الظل الطويل تحكي فيها عن مشاعرها وأفكارها وحتى يومياتها... لكن لماذا كانت تكتب له؟ وما الذي جعلها تستمر في ذلك؟ *ملاحظة: لا يوجد حرق. فقط القصة بِشكل عام* افتتاحية الكتاب: " كان يوم الأربعاء الأول من كل شهر يومًا فظيعًا للغاية - وهو يوم يُنتظر بِكُل رهبة، يٌحتمل بالشجاعة وسُرعان ما يُنسى. يجب أن يكون كل طابق نظيفًا، وكلُ كرسيٍ بلا غبار، وكل سرير بلا تجعد. بالإضافة إلى سبعة وتسعين طفلٍ صغير يتيم يجب تنظيفه وتمشيطه وإحكام إغلاق أزرار ملابسه القطنية الجديدة. وجميع السبعة والتسعون يجب تذكيرهم باتباع حُسن الخُلق، وأن يتعلموا قول: "نعم، يا سيدي"، و "لا، يا سيدي" عندما يتحدث الأوصياء إليهم. لقد كان وقتًا مؤلمًا. والمسكينة جيروشا أبوت ، كونها أكبر يتيمة ، كان عليها تحمل عبء ذلك." جودي -كما هو واضح- لم تحضى بطفولة أو حتى مراهقة جيدة خلال بقائها في دار الأيتام. فكونها روُحًا حُرة وتهوى الكِتابة، فإن دار الأيتام، كان كالسجن لها. لهذا، بعد خبر تكفل أحد الأوصياء بتعليمها بأكثر الكليات رُقيًا كان أشبه بالحلم! وصفت نفسها بعد تلقي الخبر بأنها أسعد شخص ولا يمكن لأي شي أن يجعلها أقل سعادة. ”لقد كنت أفكر فيك كثيراً هذا الصيف. وجود شخص يهتم بيّ بعد كُل هذهِ السنوات يجعلني أشعر كما لو أنني وجدت جزءا من العائلة. كما لو أنني أنتمي إلى شخص ما الآن، وهو شعور مريح للغاية.“ هذا الوصي الذي وعد بالتكفل بتدريس جودي لم يوضح اسمهُ لها. واشترط لها أن تكتب لهُ رسالةً كُل شهر وألا تتوقع منهُ أي رد! جل ما عرفتهُ جودي من هويته، هو أن اسمه جون سميث -كما طلب مِنها أن تُشير إليه- وظله الطويل جدًا الذي لمحتهُ وهو في طريقه خارجًا من دار الأيتام يومًا ما. ومن هُنا استلهمت جودي لقب ”صاحب الظل الطويل“ (Daddy-Long-Legs). "ومع ذلك، يجب أن أقول أنه عندما أفكرُ فيك، فإن خيالي لديه القليل جدا لتصورك. هنالك ثلاثة أشياء فقط أعرفها عنك: I. أنت طويل القامة. II. انت غني. III. أنت تكرُه الفتيات. أشعر انني عندما أشُير إليك بالسيد كاره الفتيات فإن ذلك سيكون إهانةً لي. أو بعزيزي السيد الغني، ولكن هذا مهين لك أنت، كما لو أن المال هو الشيء المهم الوحيد عنك. وإلى جانب ذلك، كونك غنيًا فذلك يُعتبر صفة خارجية. فربما لن تبقى ثريًا طول حياتك. فلقد تم تحطيم الكثير من الرجال الأذكياء في وول ستريت. لكنك، على الأقل، ستبقى طويل القامة طوال حياتك! لذلك قررت ان أُشير إليك بصاحب الظل الطويل. آمل ألا تمانع. إنه مجرد اسم ودّي، لن نخبر السيدة ليبِت عنه.“ لابد وأن أذكُر هُنا أن اسم (Daddy-Long-Legs) لهُ معنى آخر وهو أنهُ يُعتبر اسمًا مُتعارفا عليه لنوع العناكب ذات الأرجل الطويلة وتدعى بقوسيات القوائم! استوقفني في الكتاب تذبذب مشاعر جودي تجاه الوصي (صاحب الظل الطويل) فمن بين ذكرها لأحداثها اليومية وأدائها الدراسي ومغامراتها مع صديقتيها ”سالي“ و”جوليا“ التي تشاركهن الشقة، كانت لا تكف عن محاولاتها لكسب عطف صاحب الظل الطويل على أمل أن يُرسل لها ردا بخط يده ولو مرة! جودي تارة تعتبر وصيّها عائلتها الوحيدة -كوالدها- وتارة تُصرح بأنها لا يُمكن أن تحب رجلاً أكثر منه وتارة تكرهُ غموضه وأسلوبه القاسي بالتعامل معها. ”إنها تلك الأوامر الجامدة هي التي تؤذي مشاعري. فلو كُنت تشعُر تجاهيّ بأي مشاعر على الإطلاق كما أنا أشعر تجاهك؛ فربما عندها سترسل إلي رسالة تكتبها بيدك، بدلاً من ملاحظات السكرتير الوحشية. لو كان هناك أدنى تلميح انك تهتم بي، عندها سأفعل اي شي على وجه الارض لإرضائك“ أحد أساليب الكاتبة الرائعة في إثراء محتوى الرواية كانت في استخدام حب جودي للمطالعة واستخدام هدفها بأن تصبح كاتبة لذكر شتى أنواع الكنوز الأدبية الإنگليزية، وربما أيضا لإضافة آراء جودي ببعض الروايات المعروفة. ولم تتوقف هنا فقط! فهي قد استدلت بتاريخ جودي لتكوين آرائها السياسية وحتى الدينية! الرواية ليست فقط رائعة لغويًا. فهي مدعومة أيضًا برسومات من صُنع الكاتبة، وهي التي جعلت من الكتاب قطعة فنية رائعة تُضيفها لمجموعة الكتب عندك! ​ لا يسعني الحديث عن هذه الرواية فهي ذلك النوع من الروايات التي تشعُر بها أكثر مما تقرأها. فتلك الفتاة التي تُسعدها الجوارب اللماعة، والفساتين، والقبعات الجديدة، لكن كبريائها يجعلها ترفض أن تستقبل هذهِ الهدايا من وصيّها بلا مقابل. فكيف لها أن تتمالك نفسها في ظل المغريات حولها؟ وكيف ليتيمة أن تعيش بين الأثرياء من دون أن تشعر بالنقص؟ وكيف لها أن تعرف ما هو معنى الحُب الحقيقي: هل هو الاحتياج؟ أم الاكتفاء؟ كل هذه المشاعر في رواية محبوكة بشكل مثالي صنعت لي أفضل قصة خيالية بلا منازع. مبادئ جودي الإنسانية ومشاعرها الصادقة من أجمل ما يكون. يجب أن لا ننسى أن الرواية أثارت الكثير من الجدل أيضًا! مثلًا الفارق العمري بينها وبين الوصي الذي يكبُرها بـأربعة عشر عامًا! حيث اعتبر الكثير من القراء المعاصرين ذلك كأمرٍ غريب وغير مألوف خاصة وأن في الرسوم المتحركة تم تغيير القصة وجعل جودي تدرس في الثانوية العامة بدلا من الكلية. النسويات، من ناحية أخرى، اعتبروا الكتاب مُضادا للنسوية مع أنه خلال القصة نرى تطور جودي بشكل ملحوظ. الكاتبة حولت القصة لعرض مسرحي في سنة ١٩١٦م ومن بعدها تم تحويل القصة لفلم وعروض غنائية أخرى بالإضافه إلى الرسوم المتحركة الأشهر بالنسبة لنا! للأسف الرواية متوفرة فقط في خارج البلاد العربية باللغة الإنگليزية وبالشكل الإلكتروني -تستطيع تحميلها هُنا- لعدم شهرتها الكافية. ولكنها متوفرة بالشكل الورقي ومترجمة للغة العربية وتباع في فيرجن ميجاستور لدار ”منشورات تكوين“ لكني لم أقرأها شخصيًا. عموماً، أحب دائماً أن أقرأ الكِتاب بلغتة الأصلية -إن استطعت- حتى لا يذهب مجهود الكاتب وأستشعر أكثر بقيمتها اللغوية. الرواية سهلة لغوياً وفيها كم كبير من الكلمات اللي سوف تُثري لغتك الإنگليزية! فلماذا لا تُعطيها فُرصة القراءة؟ وبالمناسبةً، هل قرأت الرواية أو شاهدت الرسوم؟ إن كان نعم؛ فما رأيك فيها؟

  • الأزياء كلوحة فنية

    "يجب أن يكون المرء إمّا عملاً فنياً أو أن يرتدي عملاً فنيًا" - أوسكار وايلد. بعد تعاون سلفادور دالي وإلسا سكياباريللي في صنع قبعة الحذاء السيريالية الشكل لعام ١٩٣٧؛ ابتدأت في الموضة والأزياء موجةٌ جديدة. فالقبعة السيريالية لم تكن مجرد قبعة، بل كانت تصورًا لأفكار وأحلام دالي تمامًا مثل تلك التي نراها في لوحاته. وأصبحت بعدها دور الأزياء تحاول بشدة أن تترك بصمة أقوى من مجرد صنع ملابس جميلة. ببساطة، أراد المصممون أن يكونوا فنانين وأن يتنافسوا على منصة الفن كما كان يفعل مايكل انجلو و رافائييل. ونتيجة ذلك أظهرت لنا ملابس مشابهة للوحات الفنية وانتقلت من دور الأزياء إلى المتاحف الفنية بجانب أكثر الأسماء قداسة. عبقرية كرستوف جيمن في برادا لمجموعة خريف/شتاء 2016. مجموعة خريف/شتاء 2016 بالتعاون مع الفنان والكاتب والمخرج كريستوف جيمن. الهجرة والمجاعة والتشاؤم هي موضوع أزياء برادا لمجموعة خريف/شتاء 2016، والتي كانت بالتعاون مع الفنان والكاتب والمخرج كريستوف جيمن. تُعتبر ميوشيا برادا (أصغر حفيدات ماريو برادا– مؤسس برادا. وتشغل منصب المدير التنفيذي لمجموعة برادا) مؤيدة للحزب الشيوعي ممّا جعل مجموعة برادا FW16 مشحونة سياسيًا بشكلٍ غير عادي، خصوصًا وأن كريستوف جيمن معروف برواياته ورسوماته الشريرة، فقد رسم سلسلة من الصور الأسطورية التي استخدمتها برادا لتجعلنا نفكر في مجتمعنا مُستخدمًا الكثير من الإلهام والمراجع للرسومات. CULTURE OF EMPTINESS - ثقافة الفراغ هذهِ الرسمة تصور جان دارك، وتشي جيفارا، ونينا سيمون، وهرقل، وغيرهم من الشخصيات الشهيرة بمشهد معركة وكأنهُ مستوحى من عصر النهضة. حيث تظهر نينا سيمون تصارع جاك دارك، بينما جيرونيمو يرفع مضرب الگولف فوق رأس تشي جيفارا. ويظهر هرقل محاولًا مُهاجمة سيگموند فرويد. مرجع الرسمة الدراماتيكية كان من معركة العراة لآنطونيو ديل بولايو (Antonio del Pollaiuolo's Battle of the Nudes)، حيث استبدل الفنان كريستوف الأشخاص المجهولين في الرسمة بأشخاص مشاهير ومعروفين، مُصورًا بذلك معركتنا المُعاصرة المليئة بالنرجسية، وثقافة الفراغ، ونزاع الذات. فكما نلاحظ في الرسمة الأصلية يتعارك الجميع مستخدمين الرماح والسِهام والفأس، بينما في رسمة كرستفور يظهر المشاهير وهم يتعاركون بجائزة الأوسكار ومضرب الگولف وغصن شجرة (يبدو وكأنه غصن مُقدس من الشجرة المُحرمة). ماذا لو كانت هذهِ الأسماء (الكُتاب، والمغنون… إلخ) التي نعتبرها عظيمة لديها حقًا هذهِ الاهتمامات عديمة الجدوى؟ هل هذهِ الأسماء حققت إنجازات لأسباب أكبر من نفسها؟ أم أنها فعلت كل شيء لأجل تحقيق أعلى مرحلة من الأنا؟ لا نعرف. لكن كل الشخصيات في لوحة كرستوفر يبدون مصممين على الانتصار في هذه المعركة العبثية. IMPOSSIBLE TRUE LOVE - الحب الحقيقي المستحيل على خلفية تصور نهاية العالم؛ يحتضن جندي يشبه آلفيس بريسلي كليوباترا تحت سماء مرصعة بالنجوم، مرجعًا لـ "موت الشمس والقمر وسقوط النجوم“ (Critoforo de Predis’ Death of the Sun, Moon, and Fall of the Stars) الرسمة مرسومة بشكلٍ سريالي، وتبدو وكأنها حُلم. حيث أن المعنى هُنا هو أن الوقت وهْم، وأن الحُب يُصنع حسب الظروف المحيطة به. واستخدم آلفيس بريسلي وكيلوباترا كمثال لإمكانية حدوث رومانسيات مستحيلة بين اشخاص لن يلتقوا أبدا! ذكي جدًا، أليس كذلك؟ Survival Utopia - يوتوبيا البقاء التهديدات البيئية هي أكثر ما كان بارزًا في رسمة يوتوبيا البقاء. فالصورة تمثل أزواجا من الحيوانات الحقيقية والخيالية، كأحادي القرن (يونيكورن)، في وسط تلوث المصانع والبنايات. ومن الواضح أن البشر قد هجروا المكان حيث لا وجود لهم في الرسمة. كريستوف جيمن يُفجر الصافرة حول القضايا البيئية التي نواجهها في هذا القرن. فهل طريقتنا في الحياة ستعرضنا لخطر الانقراض، أيضًا؟ لصوص الولائم - Banquet Thieves لصوص الولائم هو مشهد مأدبة مستوحاة من أسلوب الفانيتاس (Vanitas)، الذي نشأ كمحاولة لتحويل النصوص الدينية إلى فن. وظهر بين القرنين السابع والثامن عشر. وغالباً ما تتجلى في لوحات هذا النوع استخدام الرمزية في الزهور والأكل والجماجم التي تذكّر مشاهديها بسرعة زوال الحياة (رمزية لذة الطعام التي تنتهي فورًا، والزهرة التي تموت بسرعة) وحتمية الموت. استخدم كريستوف الألوان الدافئة في لوحته، ووفرة الطعام تبدو وليمةً راقية. لكن عندما نقترب أكثر من اللوحة، سنلاحظ في الواقع أن المكان مليء بالفئران والحشرات التي تلتهم كل شيء.أيضًا، الانطباع والمنظور غير دقيق، فالطاولة مائلة أكثر من اللازم ومشرف المائدة يبدو وكأنه ينزلق. يسخر كريستوف من فكرة تسويق الطعام الإباحي (food prorn) تلك الطريقة العصرية لتصوير الطعام بشكلٍ إباحي وتسويقه بطريقة إغوائية تثير الرغبة في تناول الطعام أو تمجيده كبديل للجنس. القسم الغامض 8’ سعادة مرجعية للفنان زانج هوان: يمين الفنان​ Zhang Huan في عرض my Japan / يسار section 8 لمجلة 032c Section 8 العلامة التجارية المجهولة التي لا يُعرف عنها، ولا عن مؤسيسها أي شئ! فحتى عندما يكون الغرض من إخفاء الهوية هو التركيز على المحتوى والفن يتحول الترويج المجهول إلى نوع آخر من الاستفزاز فعندما أظهرت هذهِ العلامة التجارية عارضيها ليمشوا مع أسماك الكوي الميتة متدليةً من أفواههم، مستخدمين فكرة عمل قام به فنان الأداء الصيني جانغ هوان Zhang Huan بعنوان My Japan. حيث قام بأداء فني يعكس تجربته في الاستقرار في أماكن جديدة كأجنبي، وفي حالة رمزية اليابان في هذا العمل. يقول النقاد بأنه من الممكن أن تكون أحد التفسيرات المحتملة هو أن وضع أسماك كوي في الفم يرمز إلى صراع الثقافات والغُربة- فربما شعر الفنان وكأنه لا يستطيع أن يتكلم بشكل كامل و صريح. ويمكن أيضًا أن يُشير ذلك إلى الاستياء من فرض الرقابة على آراء وأفكار المجتمع في اليابان. ولا ننسى أن نذكر تاريخ اليابان العنيف مع الصين ألن جونز/ريك أوينز قوة المراة لربيع / صيف 2016 يمين اعمال للفنان الن جونز / يسار المصمم ريك اوينز لـ JOYCE Hong Kong Store عندما عرض ألن جونز سلسلة: كساء، وطاولة، وكرسي في عام 1970 (الفترة التي كانت فيها حركة تحرير المرأة ظاهرة وبقوة وكان المجتمع قد بدأ بنقد النظرة الذكورية في الفن) ولذلك استقبل الناس السلسلة بغضب شديد واحتجّت النسويات المناضلات اللواتي اعترضن على ربط النساء بالأثاث! حتى أنهن نفثوا القنابل التي كانت تنبعث منها رائحة كريهة داخل المعرض يومها. ونتيجة لذلك، اقترحت صحيفة الجارديان أن تُحظر الأعمال من المعرض. واقترحت مجلة ريب ريب أن المنحوتات أظهرت أن جونز كان مرعوبًا من النساء! عندما سُئل الفنان عن سلسلة: كساء، وطاولة، وكرسي قال لصحيفة تلگراف "أردت أن أتخلص من آثار ما يُعتبر مقبولاً في الفن" - وهو شيء نجح فيه بلا شك. ومع ذلك، فقد أُسيء فهم سلسلته الفنية. فالأمر لم يكن متعلقًا بموضوع النساء بتاتًا بل كان محاولة لرؤية البشر من منظور آخر. حيث قال آلن جونز في مقابلة له حينما سُئل عن المظاهرات ضده واحتجاج الناس: "بالطبع كانت الهجمات مزعجة للغاية وأي شيء سأقوله كان سيبدو كمحاولة سخيفة أو كذريعة للهرب. أستطيع أن أرى لماذا تبدو السلسلة كمثال رائع للجدل حول تشييء النساء، وإذا اعتقد أي شخص ذلك فإنّه من الصعب جدًا بالنسبة لي إنكار نظريته. ولكنهُ تفسير مصادف ومؤسف لا علاقة لهُ بالعمل. فأنا كفنان، لدي مسؤولية تجاه الفن. وكإنسان، لدي مسؤولية تجاه المجتمع. لقد نشأت في إطار اشتراكي وأنا أُصنِف نفسي كمناصر نسوي ولست بحاجة للدفاع عن موقفي السياسي" عمل جونز الثائر والموقف الفوضوي الذي أحدثه كان إلهامًا يمكن رؤيته في قلب عمل المصمم ريك أوينز لربيع / صيف 2016 حيث تظهر فيه النساء يسرن بشكل حازم أثناء ارتدائهن نساء أخريات وهذا التشابه أثار الصدمات لإجبار الجمهور على إعادة النظر في كيفية رؤيتهم للملابس والجسم البشري. فانيسا بيكروفت: سينوغرافي اللوحات الصامتة لـ كانييه ويست يمين الفنانه فانيسا بيكروفت / يسار كانييه ويست في عرض مجموعتة yeezy تشتهر فانيسا بيكروفت بمنحوتات الوسائط المتعددة و"اللوحات الحيّة”. وقبل تعاونها مع كانييه ويست في عروض الأزياء كانت قد أخرجت فلمه الموسيقي القصير ”Runaway" ولذلك تعاون معها لعرض سينوغرافي لعروض أزياء Yeezy. حيث جمعت فيه العشرات من النساء اللاتي بدَيْن متشابهاتٍ جدا لبعضهن البعض. وتم تعليمهن على عدم التحرك والبقاء بشكلٍ طبيعي متجاهلات نظرات وإزعاج العامة. "كان علينا أن ننتظر حتى عام 2008 قبل أن تبدأ الفنانة بالتعاون مع كاني ويست مجددًا لعروض yeezy التي غالبا ما تكون بالتزامن مع صدور ألبوماته الجديدة. نجحا معاً في صنع لوحات جدارية حيّة تدمج بين الفن والموسيقا والأزياء. وهذا ما نفتقر إليه في الوقت الراهن! علامة yeezy التجارية تصنع منتجات وأزياء ذات طابع يُعرف باسم "أسلوب الشارع" وقد نُظمت هذه المناسبة كحدث كبير في ماديسون سكوير غاردن في نيويورك." سان لوران ومجموعة موندريان: Yves Saint Laurent, Fall Msjondrian Collection 1965 قد يكون فستان سان لوران من أشهر الأمثلة لاستخدام الفن لصالح الأزياء، فعندما أطلق المصمم سان لوران مجموعته: موندريان، المستوحاة من الفنان الهولندي بيت موندريان، ضم العرض في عام 1965 عشرة فساتين إلا أن فستانا واحدًا لم يتلاشى صداه حتى الآن، وهو فستان موندريان! بيت موندريان المشهور بالفن التكعيبي، وهو أكثر فنان أثر في سان لوران وشكّل هذا التأثير نقلة كبيرة في عالم الموضة، وأصبح أيقونة لأناقة الستينيات التي عُرفت باسم ”مجموعة موندريان“. على الرغم من أن بعض المصممين الآخرين قد جربوا سابقًا تصاميمًا مشابهة إلا أن فساتين سان لوران استحوذت على خيال الجمهور وأطلقت مُستقبلًا جديدًا للفن في الأزياء. الفستان يزيّن متحف MET في نيويورك بعد أن وهبته السيّدة William Rand. سيلفادور دالي و فستان سرطان البحر دوقة وندسور ترتدي فستانًا من تصميم Schiaparelli بالتعاون مع سلفادور دالي. من بين الكثير من تعاونات المصممة إلسا سكياباريللي والفنان سلفادور دالي فإن فستان اللوبستر هو دون شك أشهرها. كان دالي قد سبق واستخدم سرطان البحر في عمله، هاتف اللوبستر (Lobster Telephone)، لعام 1934. وبعدها تعاونا لصنع الفستان الصيفي لمجموعة Schiaparelli Summer 1937 Haute Couture حيث قام بوضع سرطان البحر مع غصن من البقدونس المطبوع على الأورجان الأبيض. ووفقا للإشاعات، أراد دالي وضع المايونيز على الفستان ولكن سكياباريللي رفضت! ارتدت هذا الفستان دوقة وندسور وأليس وارفيلد سيمبسون والتقطت الصور وهي ترتديه قبل وقت قصير من زواجها من إدوارد الثامن، الأمر الذي أحدث الكثير من الضجة، لأن دالي لطالما استخدم سرطان البحر كرمز شهواني وخلط هذا الرمز على صفاء ورقة اللون الأبيض الحريري بدا مزعجًا وغير لائقٍ للعامة! المصادر : 1, 2

  • الفتاة العابثة الخيالية في الأدب والسينما

    كم فيلمًا شاهدته يحتوي على شخصية الفتاة كثيرة الضحك، التي تحب المغامرة وتتصرف بطفولية وبلا مُبالاة؟ تلك التي تثير الفوضى، وتلبس ملابس غريبة، وتحاول قدر الإمكان أن تبدو عميقة، لكنّ أغلب مقولاتها سطحية ومن شأنها فقط أن تُغير حياة البطل؟ الفتاة التي لا تمتلك أي هدف في الفيلم أو الكتاب غير إسعاد البطل الذي غالبًا ما يكون رجلًا بائسًا مُملا على حافة الانهيار؟ هذهِ الشخصية بدأت في الظهور في السينما بعد فيلم Elizabethtown التي ظهرت فيه كريستين دانست وأدت دور هذا النوع من الشخصية. بعدها أطلق أحد نُقاد السينما مصطلح الـ (Manic Pixie Dream Girl الفتاة العابثة الخيالية) واصفًا فيه شخصية كريستين، التي يقع في حبها البطل على نحو شبيه بالعبادة والهوس! انتشر هذا المصطلح انتشارًا واسعًا في مقالات نقد السينما والروايات والقصص. حتى أن بعض الروايات كانت تحتوي على نموذج هذهِ الشخصية قبل تركيب مُسماها، وبعد انتشار المسمى أصبح القراء قادرين على تمييزها. الفتاة العابثة الخيالية هي لُغز، هي شخصية لا تمثل الحقيقة، ونسخة أنثوية من أحلام بطل القصة، خُلقت لا لتُكمله وحسب بل أيضًا لِتُغيره إلى الأفضل. فهي مثقفة، وتحفظ الكُتب عن ظهر غيب، ولا تُشكل أي عبء عليه فهي مثله، تُحب الألعاب الإلكترونية، وتستمع لمشاكله دومًا من غير أن تكون لها مشاكلها الخاصة وتأكل بشراهة دون أن يتغير مقاس بنطالها! هي ستجعله يهوى الخروج للمجتمع، ستُعلمه وستكون جزءًا من رحلة تغييره. لذا، هي موجودة ليست بصفتها شخص إنما كأداة روائية. في كل فلم ورواية قد تختلف معالم هذه الشخصية، لكن في النهاية يجمعها شيء واحد: هي حاضرة لأجل البطل ولتطور شخصيته من غير أن تتغير أو تتطور هي نفسها. الفتاة العابثة الخيالية: شخصية خُلقت لصالح تطوير البطل وجعلهِ يعشق الحياة ومغامراتها، بعد أن كان يعيش حياة روتينية. عادة يكون هذا البطل شخصًا وحيدًا وغير جذاب اجتماعيًا. أين نرى الفتاة العابثة الخيالية في السينما؟ - ثمة حرق لقصصِ الأفلام أدناه. سمر في فيلم 500 يوم في الصيف: سمر (الصيف) هي مثالٌ رائع لنموذج الفتاة العابثة الخيالية! فهي تبدو للبطل كالفتاة المنفصلة عن مجتمعها والبعيدة المنال، ونراها دومًا من خلال وجهة نظر توم (الراوي/البطل) فقط. وبينما كان توم المهندس المعماري يقضي حياته يصمم بطاقات المعايدة خوفًا من أن يبدأ مهنة التصميم الهندسي المليئة بالتحديات يلتقي بسمر في المصعد ويكتشف أنها تُبادله الذوق الموسيقي، فكلاهما يُحب The Smiths، وفقط لهذا السبب يظن بأنه أخيرًا قد وجد تلك الفتاة التي ستُغير مجرى حياته، فهي غريبة مثله (كما يظن). جوزيف كان مهووسًا بسمر لأنها كانت تُمثل له الصورة المبتذلة والنمطية للمرأة، المفترض بها ألا تمتلك أي حياة، وأن تُسانده دومًا ليصل إلى نسخته الأعظم. هي الفتاة التي تقف وراء الرجل العظيم الذي سيكونه. توم فعلًا يتغير بعدما يكتشف أن سمر لا تعيشُ لتحقيق أحلامه، ويقرر بأن يخاطر ويترك عمله ليأخذ نفسه على محمل الجد وأن يخوض في حياة بصفتهِ مهندس معماري. لكننا نرى أن توم ما زال يعيش تحت وقع حُلم الفتاة العابثة الخيالية. وهو لن ينمو أبدًا إذ نراهُ في نهاية الفيلم ينجذب إلى فتاة أخرى اسمها أوتوم (الخريف) رمزًا لعدم نضج جوزيف وبحثه الدائم عن فتاة مؤقته كالفصول لتغييره . شخصية كلامنتيان في فيلم إشراقة أبدية لعقل نظيف: هذا الفلم عبقري جدًا. فالمخرج الفرنسي ميتشل غوندري لم يقع تحت فخ تكوين شخصية الفتاة العابثة الخيالية ليخلق بالمقابل شخصية امرأة طبيعية فحسب، بل جعل هذا النموذج موجودًا في بداية وعي البطل جويل، ومن ثم هدمها تمامًا. مثل كل القِصص، جويل هو ذاك الرجل كثير التعثر والهادئ، والذي لا يعرف كيف لهُ أن يُعبر عن نفسه. وكلامنتيان عكسه، فهي صاخبة، ومجنونة، ومليئةٌ بالحياة. منذ بداية علاقتهم ينتظر جويل من كلامنتيان أن تبقى كما تعَرّف عليها في البداية، وأن لا تتغير ولا تغضب ولا تنفجر في وجهه. لم يريدها أن تفقد السيطرة على نفسها، فهو فقط الذي أجاز لنفسه ذلك. كلامنتيان كانت فعلًا موجودة من أجل أن تُغير جويل، لكن في منتصف الفلم تبدأ بالظهور كشخصية حقيقية أكثر، وليس كمفهوم أو نموذج. فكلامنتيان سريعة الملل من علاقاتها مع الرجال، ودائمة القلق، وتخاف دومًا أن تُفوتها الفرص وألا تعيش حياتها كاملة لذلك هي لا تريدُ أن تعيش حبيسةً لأحد. وبرغم ذلك، تقع كلامنتيان في حُب جويل. إلا أن هذا الشعور، الذي يسمى بالضجر، اجتاحها. ولذلك قررت أن تذهب للطبيب وتطلب محوهُ من ذاكرتها لتعيش مرة أخرى بدايةً جديدة. جويل، انتقامًا منها، يقرر بأن يمحوها من ذاكرته أيضًا. لكنهما حتى بعد ذلك، يرجعان لبعضهما البعض ليكررا تجربة الوقوع في الحُب مرة أخرى، مرة جديدة. لأن كليهما لم يعرف معنى الحب الحقيقي. جويل كان يريد لكلامنتين أن تظل تلك الطفلة الشقية الصغيرة للأبد، وهي أرادت أن تظل تشعر بنشوة الحب الجديد في كل مرة. في نهاية الفلم تقريبًا، تأتي لحظة إدراك جويل لماهية الحُب حيث تقع بينه وبين كلامنتين هذهِ المحادثة الرائعة: بينما كان جويل يحاول إرجاع كلامنتين طلبت مِنه أن يفهمها قائلة: “أنا لست بمفهوم. الكثير من الرجال يعتقدون أنني مفهومًا خاصًا بهم أو أنني سأُكملهم أو أجعلهم على قيد الحياة، ولكننني مجرد فتاة مُدمرة وأبحث عن راحة بالي. لا تجعل من تحسين حياتك وظيفةً لي” هنا بالذات تكمن عبقرية الفلم. فالمخرج بنى الصورة النمطية للحب في البداية وصورها بطريقة رائعة وتدريجيًا جعلنا نتقرب من الشخصيات ونفهمها ثم هدمها أمامنا. فقد نقل الشخصيتان من صورةً وهمية إلى شخصيات حقيقية يستطيع الجميع أن يرتبط بهما. فجويل وكلامنتين كلاهما مضطربان وخائفان. لذا فهما يستمران بتكرار محو بعضهما البعض لكنهما يرجعان للوقوع في الحب مرة أخرى في نهاية المطاف. ولذلك سُمي الفلم اقتباسًا من قصيدة ألكساندر بوب التي تتغنى بجمال النسيان. أمثلة سريعة أخرى لأفلام فيها شخصية الفتاة العابثة الخيالية: Her 2013, Garden State 2004, Annie Hall 1977, Sweet November 2001. في الروايات والأدب: - ثمة حرق لقصص الرويات والكتب أدناه. جون گرين: الكاتب الأمريكي جون گرين هو أكثر كاتب مُعاصر ارتبط اسمه بصناعة هذا النموذج. فقد كتب ثلاث روايات تتمحور قصصها حول شخصية المراهق الذي يمر بحالة اكتئاب وعزلة وعدم فهم للذات ومن ثم يتطور بعدما يُقابل الفتاة الجميلة التي تُغيره وتُلهمه وتجعله شخصًا أفضل. مثلًا في كتابه «البحث عن ألاسكا» التي تحكي قصة وقوع مايلز هالتر البطل «العادي» بحب ألاسكا يونغ الفتاة الجميلة، والجامحة، والغامضة التي لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها. هي أيضًا مُكتئبة وحزينة لأسباب غير واضحة. كل هذا بالطبع يصنع رزمة رائعة لخلق دراما حول المراهق العادي مايلز. ألاسكا لم تتجاوب مع مشاعر مايلز لكنُه مع ذلك يظل يعبدها، كل حركات وكلام ألاسكا يعمل كمحفز لنمو بطل الرواية واستيعابه لذاته، بينما ألاسكا ظلت أشبه بالفقاعة. ما فعله جون گرين هو أنه خلق حالة من الغموض تدور حول ألاسكا، فهي لا تعبر عن نفسها أبدًا لأن مايلز مشغولٌ بضحكاتها وجنونها فقط. تبدو لنا ألاسكا كفتاة تعاني من الاكتئاب والحزن، وفي نهاية مطافها تموت في حادث سيارة غريب. ظن البعض أنها قد أقدمت على الحادث بنفسها لتنتحر. مايلز يعيش بعدها متذكرًا ألاسكا وموتها. هل أقدمت عليه؟ أم أنه كان مجرد حادث؟ ألاسكا بالنسبة لهُ لغز، وهذا ما يبرع جون گرين بكتابته، فهو يهوى أن يجعل الفتاة العابثة الخيالية لُغزًا لا يُفك حتى بعد اختفائها من القصة. تكررت ذات الثيمة في كتابه (مدن ورقية) إذ يكتب أيضًا عن الفتاة اللغز التي من شأنها تغيير حياة البطل فقط من غير وجود أي عمق لها، و في كتاب (الكثير من كاثرين) نرى هذا النمط موجودًا أيضًا؛ لدرجة أن المعجبين بجون گرين -أو كما يطلق عليهم لقب (Nerd-Fighters) توقعوا بأن جون نفسه قد عاش تجربة حب من طرف واحد في أيام دراسته ولهذا قضى فترة طويلة يكتب حول موضوع هذه العلاقة الفاشلة ويخلق نفس القصة بطرق واحتمالات مختلفة. حاول جون گرين أن يخرج من لعنة ثلاثية الفتاة العابثة الخيالية بوضوح في كتابه (الخطأ في أقدارنا)، وأول خطوة أجراها للهروب من هذه اللعنة، هو أن يكتب من وجهة نظر الفتاة: هيزل گرايس المصابة بالسرطان، والتي تقع في حُب أوگستس واترز والذي -بالمقابل أيضًا- يُغير حياتها بطاقته الإيجابية وحُبه للحياة! فهل نجح فِعلًا جون بالهرب من هذهِ اللعنة؟ أم أنه فقط غيّر جنس راوي القصة ليخلق نفس المحتوى؟ هاروكي موراكامي: موراكامي، الكاتب الياباني المٌعاصر، عظيم في صنع علامتهِ التجارية: القطط، والهدوء القاتم، والأحداث الخارجة عن الواقع، والجاز، وأغاني البوب الأميركية والعامل الأهم هو الفتاة العابثة الخيالية. المثال الأمثل هنا قد يكون متجليًا في روايته (الغابة النرويجية)، فالبطل واتانابي وحبيبته ناوكو كلاهما كانا يمران بمرحلة ما بعد انتحار صديقِ مُقرب. وبينما كانت ناوكو تتعالج من هذا الحزن في المصحة، يتعرف واتانابي على (ميدوري)، الفتاة الجامحة وذات التصرفات الطفولية لتُعزز من قوته وتجعله يتشبث بالحياة أكثر بعدما كانت حبيبته الأولى، ناوكو، تُمثل له الموت. ميدوري لا تُضيف الحياة للبطل فقط إنما للرواية كاملة. يُكرر موراكامي استخدامه للفتاة العبثية التي تُغير ملامح حياة البطل المكتئب ذو الحياة الرتيبة، لكنّ موراكامي -عكس الكُتاب الآخرين- لا يعتمد على تصوير هذه العلاقة الديناميكية من أجل تقوية البطل، أو ليوضح معنى العلاقة بين الجنسين، إنما يستخدمها لإيصال معانٍ أكبر من ذلك: كحقائق الحياة، والوعي الإنساني، والذكرى والنسيان. كيف؟ لنرجع لرواية الغابة النرويجية، بعدما ينتحر صديق واتانابي وناوكو؛ يستشعر واتانابي الموت حوله في كُل مكان، في وحدته خلال طبخ طعامه، وخلال حديثه مع أصدقائه وتحديدًا مع مكوث ناوكو في المصحة. لكنه بعدما أن يتعرف على ميدوري يبدأ هذا الشعور بالاختفاء تدريجيًا لتحل هي محله بالمقابل. هذا التدرج والتنقل من ثقل الموت إلى عبثية الحياة يشعر بِه واتانابي من خلال تنقل علاقته ومشاعره بين ناوكو وميدروي. ولا ننسى أن نذكر أنه عندما يكون واتانابي مُشتتًا ولا يعرف، أيُ منهن يجب عليه الاختيار ليعشقها؛ يذهب البطل إلى فتاة ثالثة ليمارس الجنس معها ولتساعدهُ في اتخاذ القرار. الحب والجنس والمرأة في روايات موراكامي أدوات يستخدمها من أجل تحريك وتطوير وتقوية شخصية ووعي البطل. غير جون گرين وموراكامي، ثمة كُتاب كثيرون ارتبطت كتابتهم بالهيمنة الذكورية والحيادية بالتعبير. يطلق عليهم اسم Male- Novelist أو الروائي-الذكر. فهم يتخيلون مشهد الرجل الذي يُدخن أنه بطوليٌ وعميق. وبأن البطل ليس عليه أن يشرح نفسه، لأن لا أحد يفهمه أساسًا. يشرب كثيرًا ويمارس الجنس مع النساء ليزيد من استيعابه للحياة، فالجنس مثل التأمل بالنسبة إليه. أيضًا الروائي- الذكر يعيش ليكتشف ذاته ولا شيء حوله يبدو حقيقيًا أو مُهما. لا يوجد سواه وهو الحقيقة الوحيدة المتجلية. احتل الروائي الذكوري الأشياء والأشخاص لأجل مشاكله الخاصة وحيادية مشاعره أيما احتلال. لكن سؤالي دائما: هل يجب علينا أن نهدم هذه المُستعمرة التي بناها الروائيون الذكوريون ورسم شخصيات تنهيها مثلما فعلت جيليان فلين في كتابها Gone Girl الفتاة المفقودة؟ وهل سيتجهن النساء لكتابة نوع مُماثل من الروايات التي تتمحور حول (وحدة الأنا) كانتقام؟ أم أن هذا كله مُجرد عكس للواقع الحالي الذي يعزز للوحدة نظرًا لأن الفلسفات الرومانسية والروحانية لم تعد موجودة في عالمنا الحالي؟ *كُتاب آخرين معروفون بالصوت الذكوري: إرنست همنغواي، فرانسيس سكوت كي فيتزجيرالد، ستيفين شبسكي. #manicpixiedreamgirl #johngreen #warshatmokh #ورشةمخ #موراكامي #جونقرين

  • فلسفة ما وراء لومييغ، الفيلم

    قبل سنتان تقريبًا بدأت أتخيل: ما الذي سيحدث لو اجتمع دستويفسكي وليو تولستوي في غرفة ما، وتحدثا؟ عمّ سيتحدثان أصلًا؟ وما نوع المواضيع التي قد يتحدث عنها فرانز كافكا وسارتر؟ هل سيتفقان بأن العالم عبثي وبأننا أحيانًا قد نشعر بأننا صراصير -مثلما وصف كافكا- ولا أحد يأبه لنا؟ أم أنّ سارتر سيقنعه أن وجودنا مهم، وبأن لدينا القدرة على تغيير العالم؟أستتفق سيمون دي بوفوار مع جوديث بتلر لو جمعهن الوقت وجلسن على طاولةً واحدة؟ وكيف ستصف سيلفيا بلاث مشاعرها لمي زيادة؟ بدأت أتخيل أحاديثهم، وماذا سيشرب كلُّ واحدًا منهم، وما نوع الطاولة أو المقهى الذي سيختارونه. تخيلت حتى رماد السجائر وهو يحترق بينما يتحدثون ناسين أن لا وزن ولا ثقل لكلماتهم، وبرغم ذلك يستمرون بالحديث وكأن العالم يكترث. تخيلت هذه الأحاديث كثيرًا حتى لم تعد مجرد خيالات فردية عندما شاركتها مع أخواتي: منار وضي. أصبحنا نتخيل معًا أسماء الأشخاص، ثم أحاديثهم، ومن ثم حولنا هذه الأحاديث وهذه الأسئلة التي حامت حولنا إلى شخصيات جديدة، شخصيات لا تملك صورًا منتشرة لها، ولم ينشر لها كتبٌ أو مقالات. ثلاثة نساء لم يسمع بهن أحد قط. هن: سمر، وسوسن، وسلمى. سمر وسوسن وسلمى — لا يتفقن كثيرًا، ولكل واحدة فلسفة معينة تتبعها في الحياة. اجتمعن على طاولة سوداء وغرفة مظلمة، كل شيء ساكن مثل سكون الكون الذي نسكنه ونسأله وهو صامتًا لا يجيب ولا يسمع. رسمت ضي سمر وسوسن وسلمى كما تخيلناهن سوية، أحببناهن جدًا ومثلت كل واحدة منهن مشاعر مررنا بها، وأسئلةً لم نجد لها جوابًا بعد. أردنا طبعًا أن نحول حديثهن لفيلم. شخصيات الفيلم. وماذا تمثل كل واحدة منهن: سمر سمر وجودية. عندما تقف على حافة الجبل وتشعرُ بصداعِ مريب؛ فسبب هذا الصداع هو حجم الحرية التي ارتمت على كتفيك، فأنت في هذه اللحظة قادر على دفع نفسك لأسفل الجبل وإنهاء حياتك. سمر تشعر بالصداع دومًا بسبب كثافة الحرية التي تشعر بها. سوسن سوسن عبثية. إن سقطت عليك صخرة من أعلى التل كل يوم وظللت ترفعها للأعلى، ستظن أنك ملعون. لكنّ سوسن تتخيلك سعيدًا وأنت ترفع هذه الصخرة. سوسن ترى بأنك الصخرة والجبل والشخص الملعون، لا فرق بينكم. سلمى سلمى عدمية. أرجوك، لا تظنَّ نفسك عميقًا وأنت تفكر في الانتحار، فذلك فقط يجعلك متفائلًا ومثيرًا للشفقة. فإن لم يكن للحياة سبب؛ لماذا تظن أن ثمة سببًا للموت؟ تشويقة الفيلم للفيلم أحاديث أطول، لا نريد إفسادها عليكم. إنجازناه بالكامل، حتى الموسيقى صنعناها خصيصًا للفيلم. نطمح أن يلامس هذا الفيلم عزلة الإنسان و مشاعرنا المضطربة. ​​بإمكانكم رؤية صور الفيلم، وصور أيام العرض وغير ذلك على هذه الصفحة. أصبح حلمنا حقيقة!​

bottom of page